شيخ الأسرار الباطنية
29-01-2012, 15:56
الصوفية والقرآن
الصوفي يصيخ السمع...
- التصوف، حيث لا يُقيَّض للداخل إليه أن يدرك عوالمه المجهولة، إلا إذا عَبَرَ العتمة. إذ تستحيل فيه الرؤيا من دون إغلاق البصر. فالتصوف هو إغلاق العين، على ما يقول كولن ولسن. وهو رؤية ما لا يراه الآخرون.
- القرآن كجامع للوجود. وفيما هو كلمات الله المرموقة التي توازي الوجود وترمز إليه، كما توازي الإنسان وترمز إلى حقائقه. القرآن في مثل هذا التصور موازٍ للوجود وموازٍ للإنسان في الوقت نفسه. وهو – مثل الوجود والإنسان – له جانبان: جانب باطن كلياً هو جمعيَّته من حيث هو قرآن تنزَّل على قلب النبي وما زال يتنزَّل متجدداً على قلوب العارفين؛ وجانب ظاهر من حيث تلاوته باللسان وتحويله إلى أصوات وحروف منطوقة. وهذه التفرقة بين جانبي القرآن الباطن والظاهر تمكِّن ابن عربي – بسهولة – من حل معضلة قِدَم القرآن وحدوثه. هذه الموازاة بين القرآن والوجود والإنسان تؤدي إلى تحرُّر العارف في فهمه للنص القرآني من حدود المعطيات اللغوية المباشرة، حيث يمكنه أن يرى القرآن في ضوء وجودي ونَفَس أشمل. ولا تصبح العلاقة بين العارف والنص – في ظل هذا الفهم – علاقة انفصال، بل هي علاقة تَوَحُّد منظور إليها من جانبين وباعتبارين. إن العارف يقرأ في القرآن الوجود بأسره، كما يقرأ فيه نفسه ومعارفه. إذ الوجود كلمات الله، والعارف – أو الإنسان الكامل – هو كلمة الله الجامعة
- وابن عربي، كناطق للباطن وعارف به ، يأتي نصه ليضيء على وجود، يبدو لسواه من غير أهل المقام عدماً معتماً؛ بينما هو، في الحقيقة، الحقيقةُ عينها. وجود نوراني، ألوانُه مشعةٌ، مبهرةٌ، لا نهاية لعددها وتنوعها وتغيُّرها المستديم.
في هذه النوافذ الثلاث يستلزم الدخول أقصى المجاهدة. وعلى الداخل، حتى لو كان باحثاً آتياً من خارج مقامات الصوفية، أن يُعِدًّ العدة لامتحان صعب. إذ الكلام على التصوُّف والقرآن، ومن خلال ابن عربي بالذات، يماثل البحث عن حقائق الوجود بوسائط لغوية تستعصي على الفهم والإدراك السهل. حيث يشتبك العقل الفلسفي بالعرفان الذوقي، وكلاهما بعلم الكلام والفقه والشريعة.
يعدُّ بحث فلسفة التأويل لنصر حامد أبو زيد – من إحدى زواياه – امتداداً للدراسة التي قام بها الباحث في مرحلة سابقة عن قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة (الاتجاه العقلي في التفسير). وقد انتهى الباحث في دراسته السابقة إلى أن المجاز تحوَّل في يد المتكلِّمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهَّم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحث إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني – هي منطقة التصوُّف – لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني واستكناه طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالاً للجانبين الرئيسيين في التراث: الجانب العقلي كما يمثل له المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة. وخلال الفترة الطويلة التي استغرقها هذا البحث تعدَّل كثير من الأفكار والمفاهيم التي انطلق منها الباحث، خاصة المفهوم الرئيسي الذي تقوم عليه الدراسة وهو مفهوم التأويل. لقد بدأ الباحث دراسته الأولى من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الديني والفلسفي المعاصر الذي يرى التأويل جهداً عقلياً ذاتياً لإخضاع النص الديني لتصورات المفسِّر ومفاهيمه وأفكاره. وهي نظرة تُغفِلُ دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسِّر. إن العلاقة بين المفسِّر والنص ليست علاقة إخضاع من جانب المفسِّر وخضوع من جانب النص؛ فالأحرى القول إنها علاقة جدلية قائمة على التفاعل المتبادل.
التصوف في الاسلام
سوف نسجل للمؤلف براعته في توليف دراسته، على الأخص لجهة قدرته على التعامل ولغة ابن عربي الإشارية الرمزية. لقد اعتمد على أهم ما كتب الشيخ الأكبر في عرض فلسفته الذوقية ونظرته إلى الوجود من خلال تأويل القرآن الكريم. وهي: الفتوحات المكِّية، فصوص الحكم والتدبيرات الإلهية، فضلاً عن الاستعانة أحياناً بمراجع أخرى مثل: تنزُّل الأملاك، كتاب الواو والنون والميم، ترجمان الأشواق، وسواها. وهذه مرجعيات تشكل بجملتها المشروع الرؤيوي للوجود عند ابن عربي. وهي مرجعيات صعبة المراس نظراً إلى لغتها غير العادية. يقول العلامة نيكولسون في وصف أسلوب ابن عربي في فصوص الحكم: "إنه يأخذ نصاً من القرآن أو الحديث ويؤوِّله بالطريقة التي نعرفها في كتابات فيلون اليهودي وأوريجنس الإسكندري. ونظرياته في هذا الكتاب صعبة الفهم، وأصعب من ذلك شرحها وتفسيرها، لأن لغته اصطلاحية خاصة، مجازية معقدة في معظم الأحيان. وأي تفسير حرفي لها يُفسِد معناها. ولكننا إذا أهملنا اصطلاحاته تعذَّر فهم كتابه وتعذَّر الوصول إلى فكرة واضحة عن معانيه. ويمثل الكتاب في جملته نوعاً خاصاً من التصوُّف المدرسي العميق الغامض."
ويعلق أبو العلا عفيفي على غموض أسلوب ابن عربي وأهل الصوفية عموماً فيقول: "المعروف عن الصوفية إطلاقاً أنهم قومٌ لا يتكلمون بلسان عموم الخلق، ولا يخوضون فيما يخوض فيه الناس من مسائل علم الظاهر، وإنما يتكلمون بلسان الرمز والإشارة – إما ضَناً بما يقولون على من ليسوا أهلاً له، وإما لأن لغة العموم لا تفي بالتعبير عن معانيهم وما يحسونه في أذواقهم ومواجدهم. أما ما يرمزون إليه فحقائق العلم الباطن الذي يتلقونه وراثة عن النبي، وهذه الحقائق لا يستقل بفهمها عقلٌ، ولا بالتعبير عنها لغة. وهذان الأمران وحدهما كافيان في تفسير الصعوبات التي تعترض سبيل الباحث في فهم معاني الصوفية ومراميهم. ولذا كان الحذر ألزم ما يلزم الناظر في أقوالهم حين يحلِّلها أو يؤوِّلها أو يحكم عليها."
لم يخفَ على الباحث وجه التحدي في التعاطي ولغة ابن عربي. فهو قد أدرك منذ الابتداء أن تحدياً كهذا يستلزم الأخذ بجماع النص الذي يقدمه كبير الصوفية؛ أي الأخذ باللغة والمعنى فيما هما كلٌّ متكامل. إذ اللغة هي المعنى، والمعنى هو اللغة. فلا فصل بينهما، حتى من الناحية الوظيفية التي تؤديها اللغة لبلوغ القصد في خصوصية تأويل القرآن عند ابن عربي. لذا لا يجد الباحث مفراً – في دراسة التأويل – من مواجهة فلسفة ابن عربي كلِّها في جوانبها الوجودية والمعرفية، إلى جانب مفاهيمه الخاصة بماهية النص الديني ودوره المعرفي والوجودي، ومفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة باعتبارها الوسيط الذي يتجلى من خلاله النص. الوجود، في نظر ابن عربي، خيال يماثل الصور التي تتراءى للنائم في أحلامه. والمراتب المختلفة والمتعددة للوجود، من أولها إلى آخرها (الوجود الإنساني) تخضع جميعاً لهذا التصور. من هذا المنطلق يفرِّق ابن عربي بين ظاهر الوجود وباطنه، ويرى ضرورة النفاذ من الظاهر الحسي المتعيِّن إلى الباطن الروحي العميق، في رحلة تأويليَّة لا يقوم بها إلا الإنسان، لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهة في الوقت نفسه. يتماثل مع هذا التصور الوجودي تصوُّرُ ابن عربي للنص الديني؛ فهو الوجود المتجلِّي من خلال اللغة، وهو – بالمثل – يتكوَّن من ظاهر وباطن، وهما مراتب ومستويات تتماثل مع مراتب الوجود ومستوياته. ولا ينفصل تأويل الوجود عن تأويل النص والنفاذ إلى مستوياته المتعددة التي لا يفهمها إلا الإنسان الكامل الذي تحقَّق بباطن الوجود وتجاوز ظاهره
ويذهب الباحث إلى الاستشهاد بابن عربي نفسه في تبيين لغته الحادة الخصوصية، حيث يقول في الفتوحات المكية عن عقيدته بأنها نفس عقيدة أهل السنة الأشاعرة ويضيف: "فهذه عقيدة العوام من أهل الإسلام، أهل التقليد وأهل النظر ملخَّصة مختصرة... ثم أتلوها بعقيدة خواص أهل الله من أهل الطريق المحقِّقين، أهل الكشف والوجود... وأما التصريح بعقيدة الخواص، فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة، مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن رزَقَهُ الله الفهم فيها يعرف قدرها، ويميزها من غيرها؛ فإنه العلم الحق والقول الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تُلحِق الأباعد بالأداني وتَلْحَم الأسافل بالأعالي."
إن المعضلة، كما يطرحها ابن عربي، هي معضلة الوجود المعرفة. وهي أكبر من أن تتسع لها اللغة العادية الاصطلاحية المتداولة – كما يقرِّر الباحث. ولذلك لا بد من استخدام لغة رمزية جديدة تتغلب على هذه المعضلة وتنفذ من إطار سجن اللغة العادية الضيق. ولكن اللغة الجديدة لابد أن تتسم ببعض الغموض. وهذا عائد في رأي ابن عربي نفسه "إلى ما تعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها، لا ما هو عليه الأمر في نفسه عند أهل الأذواق". وهذا يعني أن الأصل – أصل الحقيقة المعرفية – هو الذي يقرِّر اللغة المناسبة له، المطابقة لسيرورته الباطنية؛ إذ الحقيقة هنا مجموعة مستترة إلاَّ عمَّن مَنَّ الله عليهم بالكشف. هنا تكمن تأويليَّة ابن عربي للقرآن. بوصفه لغة إلهية تتسع رحابتها للوجود كله، وللإنسان كله، بما هو علة هذا الوجود.
والموازاة بين القرآن والوجود والإنسان تؤدي إلى تحرر العارف، في فهمه للنص القرآني، من حدود المعطيات اللغوية المباشرة، حيث يمكن له أن يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل. ولا تصبح العلاقة بين العارف والنص – في ظل هذا الفهم – علاقة انفصال، بل هي علاقة توحُّد، منظوراً إليها من جانبين وباعتبارين. إن العارف يقرأ في القرآن الوجود بأسره، كما يقرأ فيه نفسه ومعارفه، إذ الوجود كلمات الله، والعارف – أو الإنسان الكامل – هو كلمة الله الجامعة.
العارفون، بحسب ابن عربي في الفتوحات 4/161، يدركون حقيقة أن الله هو المتكلِّم على كل لسان: "فكل قائل عندهم فليس إلاَّ الله، وكل قول علمٌ إلهيٌّ. وما بقيت الصيغة إلا في صورة السماع من ذلك، فإن ثَمَّ قول امتثال شرعاً وقول ابتلاء، فما بقي إلا الفهم الذي به يقع التفاضل."
العارف، إذن، يرى الوجود كله كلمات الله، ويرى كل كلام في الوجود كلاماً لله. وهذا الكلام الوجودي ينقسم إلى ما يجب امتثاله شرعاً – وهو كلام الله المباشر بالأمر والنهي، وما يُعَدُّ ابتلاء – وهو كلام كل متكلِّم في الوجود. هذا الكلام–الابتلاء قد يكون خيراً وقد يكون شراً، والفهم هو الذي يفرِّق بين هذين المستويين. إن استماع الصوفي للكلام – أياً كان الناطق به –
يعتمد على الفهم. والاستماع والفهم مصطلحان يدلان على معنى واحد، فيستطيع التفرقة بين الكلام الذي يجب امتثاله – وهو الكلام المباشر – وبين الكلام الابتلاء – وهو كلام الله من خلال المتكلِّمين. الكلام الذي يجب امتثاله هو كلام الله على لسان المرسل بالوحي المُنزَل؛ أما كلام الابتلاء فهو كلام الله على ألسنة البشر وغيرهم من الكائنات. والصوفي قادر على سماع هذا الكلام كله، وقادر، في الوقت نفسه، على أن يميِّز بين مستويات الكلام ومراتبه (ص 279).
منذ الابتداء، يوضِّح الباحث المقصود من التأويل القرآني عند ابن عربي. وهو يرمي بذلك إلى محاولة إزالة ما يلتبس العلاقة بين التفسير والتأويل. ذلك أن الفارق بين الاصطلاحين جوهري – لاسيما إذا جرى التعامل معهما بمعناهما ومفهومهما الشائع. ومع ذلك، فإن كثيرين ممن يفرِّقون بين تفسير القرآن لدى شيوخ الشريعة والفقه واللغة، وتأويله لدى شيوخ الصوفية، يقعون في لبس إضافي. أغلبهم يُعْلي من شأن التفسير ويغضُّ من قيمة التأويل على أساس من موضوعية الأول وذاتية الثاني.
الموضوعية في الحالة الأولى موضوعية تاريخية تفترض إمكان أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله. ومثل هذا التصور يقع في تناقض منطقي من الوجهة الدينية الاعتقادية التي ينطلق منها أصحابه؛ إذ النص عندهم صالح لكل زمان ومكان لأنه يحتوي كل الحقائق ويعد جماعاً للمعرفة التامة. ومثل هذا الاعتقاد يتناقض تماماً مع القول بضرورة اعتماد المفسِّر على المأثورات المرويَّة عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف عند فهمهم وتفسيرهم للنص.
ولكي يحلَّ أصحاب هذا التصور مثل هذا التعارض المنطقي، ذهبوا إلى أن المعرفة الدينية لا تتطور، وأن جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة، فيما يتصل بالوحي ومعناه، وأن التمسك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل والانحراف. وهكذا انتهى الأمر بهم إلى عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة، من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية، من جهة أخرى. وهنا يعطي الباحث دليلاً تاريخياً نموذجياً على هذه الحالة ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم حيث هما من أكبر ممثلي هذا الاتجاه .
والإشارة إلى هذا الاتجاه التفسيري ضرورية لكي يستقيم البحث في التأويل من وجهة نظر الصوفية وعلى التعيين من وجهة نظر شيخهم الأكبر ابن عربي.
ويبرِّر الباحث اختيار ابن عربي دون سواه من المتصوفة والفلاسفة لدراسة التأويل بثلاثة أسباب رئيسية:
الأول: أهمية ابن عربي ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي.
الثاني: إن دراسة ابن عربي نفسه تثير بشكل واسع معضلة التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً التي عرضت لفكر ابن عربي وقيمته.
الثالث: إحساس الباحث المبكر، الذي أكدته الدراسة، أن التأويل عند ابن عربي ليس مجرَّد وسيلة في مواجهة النص، بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم الوجود والنص معاً. حين أن ابن عربي يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المشابهة في فكر غيره، سواء السابقين عليه أو التالين له.
لقد جرى تقسيم البحث إلى ثلاثة أبواب، والأبواب إلى فصول بحسب اقتضاء الحاجة العلمية.
الباب الثاني خُصِّص للتأويل والإنسان، وذلك من خلال تحليل مستويات ثلاثة في تصور ابن عربي لعلاقة الإنسان بالوجود. الأول، هو علاقة الإنسان بالعالم، أي تحليل جوانب الاختلاف بين الإنسان والعالم من حيث ظاهره الذي يتماثل مع حقائق الكون ويضمُّها في كيانه الصغير.
والثاني، دراسة الجانب الباطن في الإنسان ومماثلته لحقائق الألوهة، من حيث إنه خُلِقَ على الصورة الإلهية وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كل الأسماء الإلهية التي توجَّهت على إيجاد العالم.
والثالث، تعرُّض لمعضلة المعرفة الإنسانية وتأكيد ابن عربي على أن المعرفة لا تتم إلا بتجاوز ظاهر الإنسان – وهو ظاهر الكون – إلى باطنه الروحي الإلهي من خلال رحلة خيالية.
الباب الثالث والأخير، مكوَّن من فصول ثلاثة: يهتم الفصل الأول بتحليل العلاقة بين القرآن والوجود، وتماثُل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة، وتماثلها مع مراتب العارفين.
والفصل الثاني خُصِّص للُّغة والوجود؛ وفيه محاولة تحليل مفهوم ابن عربي للُّغة في جانبيها الإلهي والإنساني، بدءاً من المستوى الصوتي للغة، وانتهاءً إلى مستوى التركيب. وجرى التركيز في تحليل الجانب الدلالي على تأكيد ابن عربي على ذاتية العلاقة التي بين الدال والمدلول في اللغة في جانبها الإلهي. وهي العلاقة التي لا يكتشفها إلا الصوفي، ومن خلال اكتشافها يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل.
وقد كان الفصل الثالث والأخير عن قضايا التأويل وفيه تحليل مفهوم التنزيه والتشبيه، والمُحكَم والمُتَشابه، والجبر والاختيار، والثواب والعقاب. وهي مجرد نماذج لا يمكن الادعاء – بحسب الباحث – أنها تستوفي كل الجوانب التطبيقية لتأويل القرآن في فكر ابن عربي.
*** *** ***
مقدمة النفري
المنهج النقدي عند يوسف سامي اليوسف: مقدمة للنِّفَّري... ارتياد العلو مع المنهجية الصوفية ماهر اليوسفي..
ينسجم الناقد يوسف اليوسف مع منهجه النقدي الذي بدأ مشواره منذ السبعينيات، مراكِماً بدراية وعناية كل جديد في دراساته ومؤلفاته النقدية لما في ذلك من رؤيا عالية الوقار لا تنتهي عند كشف النصوص الصوفية، بل تتخطى ذلك في الشعر والشعراء التراثيين والمعاصرين، إضافة لدراساته النقدية المتنوعة في الأدب المعاصر. ومؤلفه الجديد مقدمة للنِّفَّري، الصادر عن دار الينابيع بدمشق، يُعتبَر بحق من أهم الكتب التي استعرضت وشرحت صاحب المواقف والمخاطبات. إذ إن المكتبة العربية تفتقد إلى مؤلفات كهذه. وبدوره قام هذا الناقد الفذ، بلغته الممتلئة ورؤيته النافذة، بقول ما لم يقله أحد بعد عن النِّفَّري، وكان السبَّاق إلى ذلك دوماً منذ إصدار كتابه مختارات في بداية الثمانينات، وبعدها كتيِّب ابن الفارض شاعر الحب الإلهي. وها هو ذا يعود ليضيء التراث الصوفي – ومع النِّفَّري تحديداً – بـ "مقدِّمته" الرائعة.
وفي تعريفه للـ"موقف" النِّفَّريِّ، يقول اليوسف: "إنه القبض على تفتح الذات عن الوجود الداخلي الصرف الذي تكتنزه منذ الأزل، إنه انكشاف مخبوءات الذات والوجود وعوالمها أمام الذات نفسها. ففي قناعة النفري أن الواقف على الحق وفي الحق يعرف من داخله ولا تنبجس معارفه إلا من أشواقه وأذواقه. أما غير العارف وغير الواقف فلا تأتيه معارفه إلا من الأشياء."
وجديد القول عند الدخول في عالم الاستبصار الصوفي هو أن الدراسات التي خصَّصها العالم العربي للتراث الفذ الذي تركه محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، المتوفى عام 345 هـ / 965 م الذي لا نعرف عن مسيرة حياته سوى النزر اليسير، ظلت شحيحة. ولم يكن هذا الشحُّ من قبيل المصادفة. فعلى حد تعبير الناقد أن النصوص النِّفَّرية قد أوغلت في التجديد والعلوِّ إلى حد جعلها غريبة عن الذهن الحديث الجانح إلى العزوف إلى المتعاليات.
أثناء مطالعتنا للـمقدمة نلمس بوضوح تبيان الاختلاف ما بين النِّفَّري وباقي أعلام الصوفية، من ابن عربي والحلاج وابن الفارض وغيرهم. فالخطاب النِّفَّري يختلف كثيراً عن الموروث الصوفي العام، بوصفه "حواراً بين طرفين يجمع المثنويات، أولهما مطلق وثانيهما محدود".
ويوغل الناقد يوسف اليوسف في أعماق النصوص الصوفية لاستكشاف رؤيتها لتصب في كنه الذائقة والمعنى على السواء. ففي قراءته للنص يقول: "قاعدة النِّفَّري تتلخص في أن الإنسان، أو العالي والكامل من البشر، موصول ومحاط بالرعاية دوماً. فإن في ميسورك النظر إليه بوصفه بطلاً يرود واقعاً سماوياً لا حياة للروح إلا فيه، أو بواسطته وحده، إذ لاريب في أن الرجل يأنف من العالم الخارجي، بل هو يمقت كل ما ينزع إلى التجسُّد." ولكن إذا ما نظرنا إلى الأسلوب الذي يمتاز فيه النِّفَّري عن غيره فإننا نكاد نقرأه قراءة سطحية وتقليدية برغم صعوبة النص. ويأتي الناقد بدوره شارحاً محتوى الأساليب التي سنستعرضها لاحقاً. يقول اليوسف: "لعل ما يميز أسلوب النِّفَّري أنه ينبثق من طاقة حدسية لا مصدر لها سوى الراقة السرية الراخمة في أعماق النفس البشرية؟ وللحق أن كل ما هو أصلي ينبثق من جذر حدسي يتعذر إدراكه بواسطة المفاهيم والتصورات الذهنية. وبفضل هذا الزخم الاستبصاري استطاع الرجل أن يحيل اللغة المنثورة إلى شعر أو إلى برهة تتوسط بين الشعر والنثر، بل توفق بينهما على نحو مدهش."
جوهر الصوفية نشأت الصوفية على شعور الاغتراب. وهذا جذرها الأول. إنها تقوم على أساس عريق في إظهار المستور والكشف عن الحقائق. ويعتمد المؤلف هنا في تحليله تعريفاً يقوم على رؤية تجعل من حقيقة مقولة "الكون الساقط" التي أوجبت القول بالاغتراب بسبب عدم تجانس الروح والمادة، أساس الأسس في فهم الصوفية، في عواملها الذاتية حصراً. فلقد ذهب أحد الصوفية إلى تعريف التصوف بأنه "النظر إلى الكون بعين النقص". يقول اليوسف: "إن الصوفية بهذا المعنى دفاع ضد الخواء ومحاولة جلَّى لإيلاج الملاء في صميم العالم..." ويحدد بأن الصوفية لا تفهم الحرية إلا من حيث هي الله نفسه، مثلما أنه لا تفهم الله إلا بوصفه الحرية الخالصة. ولكن ما هو واضح تماماً أن الصوفية تربط الحرية بالتمرد على المعطى، أو على الكون وقوانين الطبيعة وكذلك على المجتمع وما يسوده من قوى تاريخية ومادية.
ومما هو معلوم أن الصوفية دفعوا ثمن تمردهم باهظاً. فهم مضطهَدون على الدوام. كما أن رفض الصوفي للعالم هو أساس الحرية الصوفية.
ومما هو جدير بالملاحظة أن اليوسف يذهب في دراسته إلى جوهر الصوفية الخالص في بناء مقارنة لإظهار مفارقة جديرة بالتنبه. يقول: "ومن وجهة نظر صوفية، لا يجوز للمرء أن يعرِّف الإنسان بأنه الكائن الذي هو برسم الموت. وهذا تعريف وجودي يسعك أن تستخلصه من كتاب الوجود والزمان للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. فالصوفية الأصلية أو النقية لا ترى في الموت إلا الدرب التي تفضي إلى المحبوب أو إلى الوطن المقصود. ولهذا فقد عمد بعض الصوفية إلى صنع عرس لمن يتوفى منهم. وهذا مأخذ أخذه عليهم ابن الجوزي في تلبيس إبليس وهو كتاب خصصه لدحض الصوفية وإدانتها."
وقد تباينت آراء النقاد المهتمين والمختصين في التراث الصوفي في تعريفهم للصوفية ذلك منذ القدم. فبخصوص الأصل الذي جاءت منه كلمة "صوفية"، كما يبيِّن المؤلف في كتابه، ارتكبت الآراء النقدية أغلاطاً كثيرة، ولاسيما عند أولئك الذين عرَّفوا الصوفية بأنها مشتقة من كلمة صوفيا Sophia – وهي لفظة يونانية معناها الحكمة.
يقول اليوسف: "فإن كلمة الصوفية مشتقة من لفظة "الصوف" دون أدنى لبس. ولقد تنبه بعض القدماء من الصوفيين إلى هذا الأمر وذكروا ذلك صراحة في بعض الأحيان، فقال السهروردي البغدادي في عوارف المعارف: "إنهم سُموا صوفية نسبة إلى اللبسة، لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولأنه كان لباس الأنبياء عليهمأأ السلام," ثم أضاف: "وهذا الاختيار يناسب الاشتقاق، لأنه يقال "تصوَّف" أي لبس الصوف، كما يقال "تقمَّص" أي لبس القميص..." ولقد أيَّد ابن خلدون هذا الرأي في المقدمة. ويضيف المؤلف: "إن كلمة الصوفي هي نسبة عربية صحيحة. والجدير بالتنويه أن الجنيد حين رسخ الأركان الثمانية للتصوف قد جعل لبس الصوف واحداً منها. والحقيقة أن الصوفيين ما لبسوا الصوف لوفرته في المجتمعات الرعوية وحسب، ولا لخشونته بحيث يصبح أداة لتحقيق الرغبة في إذلال النفس والجسد وكفى، بل لأن الصوف رمزية مستترة في جوهر الشأن. فكلُّنا يعلم أن الأغنام التي يؤخذ منها الصوف هي الحيوان الذي يغلب استخدامه ضحية للإله منذ عهد قديم. وعلى أية حال فإن لبس الصوف ينطوي على نزعة قربانية. ومما تشير إليه المصادر الصوفية أنه كان من لباس السيد المسيح، وهو من كان لقبه "حمل الله" [agnus Dei]. ومن شأن هذا المعنى أن يعزز العلاقة القائمة بين الصوف والقربان، وأن يؤكد أن لبس الصوف قد كان رمزاً ذا دلالة عميقة في مرحلة من مراحل التاريخ القديم."
ولعل فهمنا يتزايد مع الصوفية في حالة الاستنطاق الذاتية. يوضح مؤلف المقدمة أن ثمة فكرتين مهمتين لا تملك أن تفهم الصوفية إلا بهما: "أما الأولى، فخلاصتها أن الروح في المنفى، وأن صبوتها إنما تنصب على موطنها الأصلي الذي هو." وأما الفكرة الثانية، "فمؤداها أن مقولة "الوجد الصوفي" هي المقولة السيدة في كل تجربة صوفية نقية أو أصلية. والوجد والوجدان تشتقهما اللغة العربية من مصدر ثلاثي واحد كما تشتق كلمة "الوجود" من المصدر إياه. وهذا يتضمن ما فحواه أن الوجد هو الوجود على الأصالة، وأن كل حياة بغير وجد هي حياة الاتِّضاع. وما الاتِّضاع والغثاثة سوى الافتقار إلى الماهية والأصالة."
بهذا تقودنا تعريفات يوسف اليوسف إلى مبنى ومعنى بذات الوقت في المفهوم الصوفي. وبرأينا أن الرجل قد أجهد نفسه في النظر إلى الأعماق والجوهر، ربما في نظرة التأمل الذاتي التي من شأنها أن تدخل بواطن الأشياء بمنهجية الرؤية النقدية عنده، التي شقها على نحو عسير وبصلابة وكبرياء. وهنا تقودنا هذه النظرة إلى استخلاص جوهره: "حين يرفض الصوفي الدنيا يتجرد لتجربة الوجد أو تجربة الوجدان والوجود الأصيل، فإنه لا يرفض شيئاً إلا غربته ومنفاه وخواء الكون وضحالته، ولكنه في الوقت نفسه يعزِّز حنينه المنهوم إلى الوطن الحقيقي الذي لا يشعر بالسكينة والطمأنينة والحرية والألفة إلا إذا دخله واستقر فيه إلى الأبد. وههنا بالضبط يتبدى الإنسان بوصفه الكائن المتناهي الذي يشتاق إلى اللانهاية، والزائل الذي تتصبَّاه الديمومة."
الصوفية وعصر النِّفَّري يشير المؤلف إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ في النصف الجنوبي من العراق، أو حصراً في الكوفة والبصرة. فعلى هذا الإقليم ازدهرت أقدم الحضارات في التاريخ البشري، ولاسيما الحضارة السومرية والأكادية والبابلية. ولقد كانت بابل هي عاصمة الديانة المانوية ومركزها المقدس. إذ صُلِب ماني في تلك المدينة التي أصبحت بعد موته عاصمة المانوية تماماً. ولقد نمت الثقافة في الكوفة خلال النصف الأول في القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، ولا أدل على ذلك من ظهور مدرسة النحو الكوفية، ومن كون تلك المدينة مركزاً للشعر العربي آنذاك. وإن ثمة إجماعاً بين المهتمين بتاريخ الصوفية على أن أبا هاشم الكوفي، المتوفى عام 150 هـ / 768 م، هو أول مَن سُمِّي "الصوفي" في التاريخ الإسلامي كله. وقد جاءت الصوفية الإسلامية كرد فعل على الفساد المتفشي آنذاك، وكان الطابع الغالب على الصوفيين الأوائل هو الطابع الأخلاقي، كما جاءت كتابات المحاسبي (المتوفى 857 م)، الذي هو رأس المدرسة البغدادية في التصوف وأول المؤلفين. وقد سُمِّي الحارث بن أسد بـ"المحاسبي" لأنه اعتاد على محاسبة نفسه. "ظهرت صراحة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. ففي هذا الطور عاشت رابعة العدوية، وهي امرأة من البصرة توفيت عام 185 هـ / 801 م، بعدما استطاعت أن تؤسس التراث الصوفي المكتوب لأول مرة في تاريخ اللغة العربية. وللحق أن التراث الصوفي قد بدأ مع هذه المرأة البصرية، إذ إنها تركت أشعاراً وجدانية. ولعل أهم ما في أمرها أنها زودت الصوفية بركيزتها الوجدانية، وأقصد مقولة الحب الإلهي الذي يفضي إلى كشف المحب وتجلِّي جمال المحبوب."
وعند مطلع القرن الثالث الهجري، كان التصوف قد انتشر في الكثير من البلدان الإسلامية كما ظهر ذو النون المصري وأبو يزيد البسطامي، وهما من أكابر رواد الصوفية المتطورة. وقد أصبح التصوف البغدادي في تلك الفترة عبئاً على الدولة وبعض رجال الفقه. وتشير بعض المصادر إلى محنة حلت بالصوفيين البغداديين في أواخر القرن الثالث الهجري. وكانت مدرسة بغداد الصوفية بزعامة الجنيد الذي كانوا يسمونه "سيد الطائفة" قد اتخذت من التوحيد موضوعاً محورياً لأقوالها وأبحاثها. وقد تلاشت هذه المدرسة بعد مقتل الحلاج سنة 309 هـ / 922 م. ويبدو أن محنة الحلاج كانت درساً قاسياً للصوفيين طوال قرون عديدة. ولا ريب في أن النِّفَّري وُلد في هذه الآونة، وربما شهد مقتل الحلاج. وهو ينتسب إلى بلدة نِفَّر (نيبور) القريبة من بابل والكوفة. وبدوره، التزم النِّفَّري بمبدأ الحذر والتنبُّه والتحفظ على ما يكتبه. وربما كان هذا السبب هو الذي جعله مجهولاً عند كتَّاب عصره البارزين.
الينبوع الأول وفي ظهور التأثيرات وحضور الصفات في النصوص النِّفَّرية، يقول اليوسف: "كثيراً ما تُعنى هذه النصوص بجدل الأضداد والمثنويات المتقابلة والمتنامية." فقد كتب النِّفَّري في الموقف الخامس: "وقال لي: إن علمت علماً لا ضد له / وجهلت جهلاً لا ضد له / فلست من الأرض ولا من السماء." ويوضح اليوسف: "إن الديانة المانوية هي ديانة تضاد بامتياز. إذ يعتقد المانويون – بتأثير من الديانة الزرادشتية – أن ثمة صراعاً أبدياً بين النور والظلام أو بين الخير والشر. وما يميز هاتين الديانتين المتأثرتين بالثقافة الهندية هو ميلهما العميق للزهد وازدراء المادة. وقد استمرت الديانة المانوية في الوجود حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي الموقف النِّفَّري تنبثق الرؤيا: "إن الرؤيا في نهاية المطاف في المنهج النِّفَّري لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن مقولة "الاستنارة" البوذية هذه. والجدير بالتنويه أن كلمة "بوذا" تعني المستنير أو الفرد الذي رأى الحقيقة الكلية برمتها." كما يورد مقارنة في معرض رأيه النقدي حول مصدر الرؤية النِّفَّرية بقوله: "مما هو جدير بالتنويه أن الديانة الجانيسية التي أنشأها الحكيم الهندي مهافيرا في أواسط القرن السادس قبل الميلاد تذهب إلى خمسة مستويات للاتصال وهي: العلم والمعرفة الرمزية والتبصُّر ومعرفة أفكار الآخرين ومعرفة الأفكار الشاملة. أما النِّفَّري ، كما نرى، فيعتقد بوجود ثلاثة مستويات للاتصال بالحقيقة وهي العلم والمعرفة والرؤية." وهنا يتوضح الفرق الحاسم بين النِّفَّري وابن عربي: فكلا الرجلين يستهدف الأحادية، إنما يبتغيها كل منهما عبر منهجه الخاص. فبحسب المؤلف: "فالأول ينجزها عبر حذف الطبيعة أو المادة بغية الإبقاء على الماوراء. أما الثاني فلا ينجزها إلا عبر حذف هذا الماوراء نفسه، أو عبر إدراجه في المادة أو في الطبيعة."
الوقفة والرؤية.. اللغة والمعرفة..
تتضح الغاية التي يجهد من أجلها النِّّفَّري في مضمار الرؤيا بأنها غاية من غايات الروح التي لا خروج للإنسان من شقائه إلا بها. ففي قوله: "الواقف فرد والعارف مزدوج" تأكيد على هذه الحقيقة. ويقودنا تحليل اليوسف إلى أن النِّفَّري شديد الاهتمام بمثنوية الوحدة والانشطار. فهو يصرح في الموقف التاسع: "وقال لي: رأس المعرفة حفظ حالك التي لا تقسمك / فإذا انقسمت فما أنت بالعارف ولا بالواقف." ويورد أيضاً: "وقال لي: ليس من أهل الغيبة مَن لم يكن من أهل الرؤية."
ويقول صاحب المقدمة في استخدام كلمة "السوى" التي يردِّدها النِّفَّري كثيراً: "ما من صوفي عمد قبل النِّفَّري في استعمال كلمة "السوى"، وهو الذي ابتكرها وجعل منها اسماً بدلاً من استثناء. والأهم من ذلك أن صاحب المواقف والمخاطبات قد اتخذها مصطلحاً من مصطلحات مذهبه وعقيدته. وكما جاء في الموقف التاسع والثلاثين: "والكون كله سواي" أو "يا عبد، المفازة كل ما سواي" وقال لي: "إن تبعك السوى وإلا تبعته"."
وعن تجربة النِّفَّري في اللغة يقول: "إنه قلَّ أن يتمتع بمثلها أي كاتب عربي آخر. فهو شديد القدرة على التعبير حتى لكأنه قد سَحَر الألفاظ فصارت تأتيه طوعاً لا كرهاً." يقول النِّفَّري في الموقف الثامن والعشرين: "وقال لي: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة / وقال لي: العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه." وكما جاء في مخاطبته: "يا عبد الحرف ناري الحرف خزانة سري / الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني." وفي منظور النِّفَّري أن الإنسان لا يبلغ إلى أصالته وغاية اكتماله إلا بالرؤيا. وحول جدلية الوقفة والمعرفة يقول: "إذا عرفت الوقفة لم تقبلك المعرفة." "وقال لي: الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح العلم والعلم روح الحياة." "كل واقف عارف وما كل عارف واقف."
تحليل محتوى الأساليب ثمة فرادة يتميز بها صاحب المقدمة في طريقة تحليل الأساليب. وخلفية محتوى كهذا تقوم على أن اللغة العربية والكتابة عموماً قد شهدت في زمن النِّفَّري تطوراً على صعيد النثر والشعر. ويشير المؤلف من خلال تنقيبه ومكتشفاته في عمق النصوص الصوفية إلى أن الحلاج قد سبق النِّفَّري إلى تثوير النص الصوفي من جوانبه الشكلية والفنية، متأثراً بما حدث قبله من ثورة في ميدان الشعر على أيدي رجال من أمثال النواسي وأبي تمام. وأثناء قراءته لنصوص النِّفَّري يلاحظ ما فحواه أن ذلك التراث الصغير الكمية لم يكتب بأسلوب واحد بل ربما هناك أربعة أساليب فنية متباينة. يقول أيضاً: "الغريب أن المقدمة التي كتبها آرثر يوحنا آربري، وهو محقق كتابي المخاطبات والمواقف ومترجمها، لم ينتبه إلى هذه الظاهرة، مع أنه قد أوغل في الأناة حين قرأ المخطوطات السبعة التي استخلص منها النص المنشور. وفي الحقيقة أن ثمة بعض الخطورة في الأمر، إذ هناك بعض النصوص المدسوسة على النِّفَّري التي ليست من تأليفه قط، بل ليست من تياره على الإطلاق." أما الأساليب الأربعة التي يوردها المؤلف فهي:
- الأسلوب المباشر الرائق الصافي الخالي من كل تعقيد.
- الأسلوب التجريدي الجاف.
- الأسلوب الموحي.
- الأسلوب الرمزي المدسوس.
وحول موضوع الخيال يعتبر اليوسف أن معظم الصوفية التراثيين هم أكثر أهل التراث اعتناءً، لا بصياغة الأخيلة والصورة الفنية فحسب، بل بمفهوم الخيال نفسه. والحقيقة أن محتويات الصوفية كلها ليست سوى أخيلة. ويقول أيضاً: "في الصوفية قبل سواها يكف العلوُّ على أن يكون مجرد عقيدة أو نظام تشريع أو موضوعاً برسم التفكير ويتحول إلى تجربة شخصية أصيلة تنزع صوب الغبطة الصافية التي من شأنها أن تنعش الروح بما تنطوي عليه من وصال في السرِّ الحميم."
إن ثمة تأكيداً عند اليوسف على مسألة اللغة التي يستخدمها الصوفية. فالكاتب الحدسي، أكان النِّفَّري أم سواه، يسلخ اللغة من حيث المألوف ويضفي عليها مسحة ميتافيزيقية أو أسطورية: "وقال لي: معلوم العلم الوجود ومرئي الرؤية الذات." ناهيك عن أن شهرة النِّفَّري لم تأتِ بسبب أفكاره بل بفضل خياله. ولهذا السبب صار تراثه ملهماً للشعراء في هذه الأيام.
إن النِّفَّري، كما يقول اليوسف في الخاتمة، "هو الحضور الغزير لروح الحرية المنداحة في الفسحة التي لا يملك أن يرتادها سوى أصحاب القامات الشاهقة. وهم سوف يتعرضون دوماً للسرقة والمحاكاة والتقليد من قبل الضعفاء. وبما أنه يتوسل الخيال والصورة السريالية وروح الأسطورة ليصوغ الرؤية الباذخة النادرة، فقد جاءت نصوصه أشبه بالتمائم أو الرقى التي يأهلها روح الغموض. ولهذا السبب قد التبس النِّفَّري في بعض الأحيان واستعصى على القراءة."
لقد أجاد اليوسف في شرحه للنِّفَّري وتقديم رؤياه لما يتمتع به هذا الناقد، صاحب المقدمة، من رؤية نافذة إلى عمق النص الصوفي الذي قدمه بأسلوب ساحر ولغة جذابة طازجة تبعث الحياة والروح في داخل النصوص. وهو السبَّاق دوماً قبل غيره إلى تقديم قراءة جد ناضجة من صلب منهجه النقدي. ولعل التراث الصوفي الأدبي لا يدين في عصرنا لأحد دينه لمنهج هذا الناقد والمعلِّم الكبير: يوسف اليوسف.
*** *** ***
أسماء الله الحسنى
"تحتل أسماء الله الحسنى مكانة خاصة لدى المتصوفة. ولا تزال الخلوة الأربعينية القاسية الموصى بها منذ العصور المبكرة تمارَس حتى اليوم. وفي القرن التاسع الميلادي نسمع للمرة الأولى عن حفلات موسيقية كانت تقود أحيانًا إلى رقص ووَجْدٍ وجذب دائري. بيد أن المتصوفين الأكثر حصانة ورصانة نظروا إلى ذلك بريبة." . وعن الحلاج، شهيد الحب الإلهي، تقول: "لا يزال شعراء العالم الإسلامي يتغنون بمصير الحلاج، العاشق القائل بمذهب وحدة الشهود والثائر اجتماعيًّا، الذي يدين الشعر الألماني له، باعتباره الفراشة التي تلقي بنفسها في اللهب لتتذوق تجربته أو معاناتة "مماتي في حياتي وحياتي في مماتي"."
الصوفية – مشبِعة بمظاهرها لجميع طبقات الشعب: "وجد فنانو المدن والفلاحون وعشاق الموسيقى أو طالبو التأمل الروحاني في التصوف وطنهم الروحاني وراحتهم النفسية؛ وبذلك لعبت الطرق الصوفية دورًا مهما في نشر الإسلام." ويعود الفضل إلى الصوفية في أسلمة بلاد عدة مثل الهند وأجزاء من أفريقيا. وتعتبر شيمِّل أنهم دعوا إلى المبادئ البسيطة للإسلام بنموذج الحب، من دون التطرق إلى مسائل معقدة ودينية وفقهية.
ولقد كان من الطبيعي أن تظهر مؤثرات من ثقافات غير إسلامية في الفكر الصوفي: "ففي عصر باكر، قام مفكرون صوفيون باقتباس أفكار غنوصية وهيلينية ونظريات أخرى من ثقافات أقدم من الإسلام لدمجها في فكرهم." ونحو العام 900 كانت الصوفية قد طوَّرت هرمية معقدة من الأولياء. وفي القرن الثاني عشر نشأ تصوف نور دقيق Lichtmystik على المستويات الشعبية. و الطريقة المتبعة آنذاك في النظر إلى الأولياء بمرتبة القداسة، وتقول بأن أهمية تقديس الأولياء وتقديس الأضرحة كانت في تزايد مستمر؛ وتظهر في ذلك تأثيرات العادات الأجنبية غير الإسلامية في الممارسات التي تدل على أضرحة الأولياء، مما ساهم في استياء أهل السنة من المتصوفين، "إلى حين مجيء ابن عربي العام 1240 وإحداثه تقاليد مختلفة في المذهب الصوفي عبر أعماله؛ فكان نموذجًا للتصوف آنذاك، إذ صار معه لفظ "العرفان" يُعتبَر أحسن وصف للصوفية، فشيد بذلك صرحًا عالميًّا سيطر بسبب بساطته الظاهرية على الفكر الصوفي في صورة شبه كلِّية. وهو يعرف بمذهبه في "وحدة الوجود"، وقد طور نظرية "الإنسان الكامل".
وفي العام 1100 تطور في إيران نوع من وصفية الحب، اعتقد أصحابه برؤية رونق الجمال الإلهي في إنسان محبوب، وأمسى الحب العذري جسرًا للحب الإلهي. وشرع أدباء المناطق الإيرانية ومتصوفوها يستخدمون لغتهم الأم بدلاً من اللغة العربية، ونظموا فيها أشعار غزل رقيقة. وكان شرق إيران موطن أوائل أولئك الشعراء وأعظمهم .
ولكن أعظم شعراء الفرس في هذا المضمار هو مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273) الذي هاجر مع والديه إلى الأناضول. وعن حبه الصوفي لجوَّال غامض لُقِّب بشمس الدين التبريزي تغنى الرومي بزهاء أربعين ألف بيت من الشعر في ديوانه شمس تبريز. وقد بلغت أشعاره قمة الوجد والانتشاء، وقصائده مفعمة بالموسيقى في غاية الروعة والجمال، برغم تلقائيتها. وقد ألف جلال الدين الرومي بعد ذلك منظومة المثنوي الصوفية التي تبدأ بالكلمات التالية: "أصغِ إلى الناي يحكي ويشكو ويتعذب من ألم الفراق." والناي هنا يتحول إلى رمز للنفس المنفصلة عن أصلها الإلهي . بعد ذلك، قام جلال الدين الرومي بتطوير الرقص الصوفي المحوري أو الدائري إلى طقس ديني مستقل، يرمز، وفق تأويله، إما إلى رقص النجوم أو إلى الموت والنشور.
فكأن "عرفان" ابن عربي و"غزل" الرومي الملتهب صاغا معالم الفكر الصوفي في العصور اللاحقة. ولا يمكن تصور الأشعار الفارسية من دون الجرعة المنعشة من الأفكار الصوفية، والمعنى المزدوج لكلِّ بيت هو الذي يجعله جذابًا منيرًا. والسؤال: هل كان ينبغي فهم حافظ الشيرازي كشاعر دنيوي أو كشاعر ديني؟ مطروح منذ قرون طويلة ولكن بالنسبة إلى المتخصص، فإن كلا المستويين صحيح. فالاستعارة جسر أو معبر للحقيقة، والأرضي رمز إلى السماوي.
كان للمذهب الصوفي أثر كبير في ثقافة العالم الإسلامي. فالصوفية عمقت الرسالة الأساسية للإسلام بالدفء والمشاعر الإنسانية وفتحت القلوب للجمال الإلهي. ونجد لدى مولانا جلال الدين الرومي أبسط وأجمل تعريف للصوفية: "ما هو التصوف؟" قال: "إحساس القلب بالسعادة حين يدنو وقت الحزن."
*** *** ***
الهندوسية، البوذية، الطاوية... ما الذي يفرِّق بين هذه الديانات أو العقائد، ولِمَ تتقاسم كلمات ذات معانٍ مختلفة: دهارما، سمسارا، كارما؟ هل يتخطَّى الجامع بينها الانجذاب إلى المسافات الواسعة، البحث عن البطء في مجتمع سريع، الهرب من أزمة المؤسَّسات الدينية نحو طرق إيمانية جديدة أكثر ليونة ظاهرياً، إلى التعاطف مع الدالاي لاما وقضية شعبه في التيبت؟
يوجِّه العالم الغربي أنظاره في كثافة نحو آلهة الشرق وحكمائه، حتى إن أكثر من خمسة ملايين فرنسي يهتمون بالبوذية أو يعتنقونها، وكثر يمارسون اليوغا أو التاي تشي تشوان في الحدائق العامة ويصغون إلى الذبذبات السماوية، أو يغرزون الإبر في أصداغهم. لكن هل يعرفون أن بوذا كان الأمير النيبالي سيدهرتا غوتما، وأن من سبقه كان أشد صرامة، ويُدعى جينَّا؟ هل يعرفون قصة مؤسِّس الطاوية لاوتسو الذي حبلت به أمه ثمانين عاماً وعاش مائتي عام؟
ممارسة هذه الديانات الوافدة من الشرق تتعدَّى سحر الشموع وروائح عيدان البخور ومزاج الـ"زِن" إلى اكتشاف عمق الذات من خلال رحلة داخلية بمرافقة مرشد أو غورو.
البوذية الشرقية :
على درب بوذا "اندفاع، تيقظ، ضبط للنفس، نظام... بفضل هذه العناصر يصنع الإنسان النبيه جزيرة لا يغمرها المد." لا يسعنا اختصار تعاليم البوذية كلها بهذه الحكمة، لكنها قد تسلِّط الضوء على الطريق الذي يسلكه الباحث عن الحقيقة على درب البوذا، هذا الأمير النيبالي الذي ولد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، والذي تخلَّى عن حياة القصر هرباً من السمسارا، وهي حلقة الولادة والموت المتكررة التي لا يمكن لأي هندي تجاوزها ما دام خاضعاً لقانون كارما ( الكارما هو الثمرة الأخلاقية لكلِّ كائن بشري بعد الموت ، ويستمر بالتقمص ).
بعد عشرة أعوام من التشرد الروحي، وجد الأمير الخلاص في اكتشافه اليقظة الكاملة والكلِّية، فأضحى بوذا، أي المتنوِّر أو اليقظ، وعلَّم الدهارما (الطريق نحو الحقيقة المطلقة والانعتاق) في شمال شرق الهند. في عامه الثمانين دخل في "انطفاء" كبير ومطلق. انتشرت عبادته في آسيا بدءاً من القرن الثالث قبل الميلاد.
تتلخص رسالة بوذا في أربع حقائق نبيلة:
1. حياتنا مليئة بالألم؛
2. ينبع هذا الألم من نفسية كل إنسان؛
3. في إمكان هذا الألم أن يتوقف؛
4. يكمن الحلُّ في اكتساب نظام معين وممارسة التأمل كي تتطور الحكمة.
الأمور التي نتعلق بها تفلت منَّا ذات حين مسبِّبة لنا العذاب، خاصة أننا نحاول السيطرة على كل شيء وعلى قانون الطبيعة الذي يفرض التحول. يحدد طريق البوذية هدفه بهدم هذا الصرح المبني على الوهم. على كل إنسان أن يتحرر من ألمه بالعمل ذهنياً على تغيير نظرته إلى الأمور. ولو شاء اعتناق البوذية عليه أن يضع ثقته ويتخذ ملجأه في بوذا، وفي الطريق الذي يعرضه عليه (الدهارما)، كما في جمعية ممارسي البوذية (سانغها).
ولكلِّ مدرسة بوذية أسلوبها، يتَّبعه معتنق هذه الديانة وممارسها. في التيبت أو اليابان، مثلاً، يمنح الراغب ثقته لراهب أو معلِّم، فيركع ويلفظ نذوره ثلاث مرات قبل أن يقتطع له المعلِّم خصلة من شعره رمزاً للتخلِّي والزهد. وتتعدى البوذية شعار "الحب والسلام" عبر التأمل كما هو مفهوم في الغرب، إلى ممارسة صعبة لهذه الديانة، بغية الوصول إلى اليقظة عبر احترام الآخر وعدم الاستسلام. كما يتم ترويض الموت بإخماد الألم (النيرفانا)، ويتضمن انطفاء نار الأهواء النفسية الرديئة والشهوات والتعلقات البشرية والشخصية، فيصل بالإنسان إلى الاستنارة والسعادة من خلال سلام الفكر والروح. يقترب مفهوم العراك المعنوي ضد الغرائز في البوذية من الجهاد الداخلي لمتصوفة الإسلام ويتضمن مبدأ اللاعنف في حقِّ أي كائن حي.
كي ينتصر على الشيخوخة، وعلى البؤس والمرض، على البوذي أن يعيش في طريقة صحيحة، متواضعة وكريمة، وأن يطمح إلى أن يكون قديساً، أو في الأقل أن يدخل جمعية الرهبان. ورغم الانقسامات التي طرأت على البوذية، ازدهرت هذه الديانة في شبه القارة الهندية وحلَّت في المرتبة الأولى مع بداية زمن المسيحية، محرضَّة ردة فعل هندوسية تجديدية، انتهت باسترجاع الهندوسية مكانتها السابقة في الهند وبإخلاء الهند من البوذية إخلاء يكاد يكون تاماً.
الهندوسية الشرقية :
الهندوسية تُعتبَر الهندوسية استمراراً للديانة الفيدية، وهي توحيدية متعددة الشكل، انتشرت منذ ألفي سنة قبل الميلاد. كانت تدعى أساساً البرهمانية، وترتكز على كتب الفيدا الطقوسية الأربعة التي كتبها الراؤون بالسنسكريتية، وتناقلتها التقاليد، منظِّمة الحياة الفردية والاجتماعية. يحافظ الرهبان البراهمة على النصوص والطقوس المقدسة ذات البعدين الكوني والاجتماعي والمؤدية إلى تحقيق الدهارما.
براهما هو الإله المطلق الأساسي في الهند، وهو بعيد جداً إلى حدِّ أنه لم يبقَ له فيها معابد؛ ويؤثَر عليه الهنود شيفا، مدمِّر الأشكال ومجدد الكون عبر رقصته الكونية. أما فيشنو فهو رسول دائم ومستمر، حافظ الخير ومصحِّح الشر، يتجسد على الأرض ليعيد النظام فيها إلى نصابه. بالنسبة إلى الهندوسية، كريشنا هو الرسول الثاني، وبوذا هو التاسع؛ أما العاشر فلا يزال مجهولاً، لكن بعضهم يرى فيه يسوع المسيح والبعض الآخر محمداً. فالهندوسية تستطيع أن تدمج في ديانتها المعتقدات الدينية الخارجية، محافظة على ركنيها الأساسيين وهما: الذبيحة والتقمص.
يصحِّح أحد الشيوخ الروحيين للهندوسية، شري شري رافي شنكر، نظرة الغرب إلى ديانته، مؤكداً على أن الهندوسية تعترف بإله واحد يتجسَّد في أشكال ومراحل مختلفة من التاريخ البشري، متخذاً أسماء ولغات وتعاليم مختلفة، تبعاً لحاجات كل زمن، معتبراً في المقابل أن الديانات التوحيدية الأخرى حرمت الله تنوعه وحوَّلته إلى إله أوحد، تعسفي ومتطلِّب. ويضيف أن الهندوسية تهب معتنقيها الحرية المطلقة في سلوك الطريق التي يجدونها الأفضل لبلوغ الله، من دون أن تحمِّلهم أوزار الخوف والذنب. وهي ديانة لا تحاول أن تفرض نفسها بالقوة على الآخرين، لأن كل ديانة تعتقد نفسها متفوقة على سائر الديانات تتسبب بالعنف الجسدي أو النفسي حيال الآخرين. هذا الشعور بالتفوق ناتج من عدم معرفة الديانات الأخرى؛ إذ لكلٍّ منها طبعه الخاص وعبقريته المطابقين لمزاج البلد الذي نشأت فيه وثقافته وعاداته.
كما يدعو شيخ الهندوسية الروحي هذا إلى معرفة الجوانب الصالحة من كلِّ ديانة وتقبُّل التنوع الديني في العالم عند بداية القرن الحادي والعشرين، ولا سيما أن في كل ديانة مكاناً للتطور تتكيف من خلاله مع الأزمنة المتغيرة، ذاك المكان الذي يمنع الديانات من الجمود أو التراجع والوقوع في الأصولية التي تقسِّم وتفرِّق وتحاكم نتيجة الجهل بالآخر.
حركة فن الحياة :
فن الحياة أنشأ شري شري رافي شنكر حركة "فن الحياة" عام 1982، وهي مؤسَّسة خيرية تهدف إلى تحسين نوعية الحياة جسدياً ومعنوياً عبر التسامي وتطوير إمكانات الفرد الداخلية واتخاذ مواقف اللاعنف من طريقة معرفة التنفس وأساليب أخرى تخفف الضغط عن أكثر من مليوني شخص موزعين على 130 بلداً في القارات الخمس.
يطبق شري رافي شنكر جوهر ديانته عملياً على الأرض، محاولاً إصلاح شوائب الهندوسية، بدءاً بمسكنه في بنغالور، حيث يستقبل المعتنقين والمعلِّمين من طبقات الهند المتعددة ومختلف الديانات، وصولاً إلى منع التجاوزات المتطرفة من بعض الهندوسيين في حق أقلِّيات دينية أخرى في الهند، مروراً باهتماماته البيئية المتنوعة، ليصب كل ذلك في جوهر رسالته التي يحددها بقدسية الحياة، داعياً إلى الاحتفال بها والاهتمام بالقريب ومشاركة ما نملك مع الأقل منا حظاً، لأن العالم كلَّه ملكنا وجميعنا واحد.
لو استهوت أحدَنا هذه الدعوة وصعب عليه تطبيقها، في إمكانه الاستعانة بمعلِّم روحي يساعده على توسيع آفاقه ومنحها مدى مختلفاً من غير أن يخشى فقدان حرية رأيه وتصرفاته، فيكتسب بذلك حرية داخلية، متحرراً من كبت الأفكار والتصرفات الموروثة ثقافياً ودينياً وعاطفياً، متخلِّياً عن سجن الأنا في سبيل اللقاء بالله.
كي يتم هذا اللقاء يمكن للإنسان اختيار طرق عديدة، منها الطاوية، وهي الدرب المنطلقة من الأزمنة قبل أصول الأزمنة والمؤدية إلى الخلود.
الطاوية الصينية :
الطاوية يقال إن مؤسِّس الطاوية لاوتسو ولد في القرن السادس قبل الميلاد في الصين الوسطى. يقال إن والدته حبلت به 72 أو 81 عاماً (أرقام رمزية) بعدما ابتلعت لؤلؤة من خمسة ألوان هوت من السماء وإنه عاش نحو مائتي عام... واقع أو أسطورة؟! ويقال أيضاً إنه كان فلكياً وأمين محفوظات البلاط قبل أن يسأم عادات زمانه السيئة، فيتخلَّى عن كل شيء متوجهاً نحو الغرب على ظهر جاموس، ناشراً تعاليمه للعالم قبل الوصول إلى الهند. وقد جُمِعَت تلك التعاليم في الـطاو ته كنغ ("كتاب الطريق والفضيلة")، جاعلة من كاتبها حكيماً محترماً شديد التأثير في الثقافة الصينية، رغم الطغيان الماوي منذ عام 1949. اكتشف الغرب هذا الكتاب منذ ثلاثة قرون بواسطة اليسوعيين ورغماً عنهم (إذ كانوا ينعتونه بالسحر)، وتُرجِمَ إلى أكثر من مائتي لغة. ويتناول الكتاب لغز الخليقة وكل شيء يتعلق بالإنسان ومكانه في الكون.
تشبه الطاوية حبلاً حساساً ومشدوداً بواسطة توتر قوتين متناقضتين، وهما اليِن واليانغ، ترتجَّان في قلب الإنسان والكون بالنَفَس ذاته qi. وقد استقى لاوتسو ديانته من تيارات الثقافة السحرية الموسومة بالشمانيَّة (عبادة الطبيعة والقوى الخفية في الصين السلفية)، مضيفاً إليها فلسفته الخاصة التي تتوافق فيها المعتقدات التقليدية عبر العصور والبوذية والكونفوشية (تقول الأسطورة إن لاوتسو وكونفوشيوس تبادلا تعلُّم الديانتين قبل أن يختلفا).
بكلمات قليلة (خمسة آلاف)، تتوزع على رسائل مقدسة، أشعار ونصائح إرشادية للشعب والحكام، تجلُّ الطاوية أهمية قوى الطبيعة (من ماء، نار، سماء، أرض، جبل، بحيرة، رعد وهواء) واتخاذ مسافة من العالم من غير الانعزال عنه، محاوِلة إقامة التوازن بين الأضداد في قلب الإنسان والكون – كأن "يكون الثقيل جذر الخفيف والسكون سيد القلق".
من قلب التناقضات تولد الحياة وتستمر. أليست أرض الهند أكبر شاهد حيٍّ على هذا التناقض الذي أعطى غاندي رجل السلام الأمثل وقد أُهرِقَ دمُه على يد برهماني؟ هي الهند نفسها التي احتمت في أرضها الأقليات على مرِّ العصور، من يهود ومسيحيين وأرمن وتيبتيين.
هي الأرض نفسها، مُذْ وجدت، تدور حول الشمس، ويبحث الإنسان فيها عن دوره، عن الحقيقة، عن علاقته بالله وبالكون. هو الإنسان الخائف على مصيره، الممزق بين أهوائه، اللاهث وراء أوهامه وأحلامه وسعادته، يحاول أن يجد الطمأنينة ويصغي إلى صوت السكون وسط ضحالة المادة وفراغ الروح.
أية ديانة يختار تحت قبة الإله الواحد؟ أي طريق؟ أية فلسفة؟
هي المحبة... وطن نهائي للنفوس.
*** *** ***
عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا
يمكن القول بدقة أن مشروع الجابري هو آخر وأكبر تظاهرة في حركتنا النقدية العربية الجديدة من أجل الاعتراف بالمعقول وإقصاء اللامعقول عن حياة العرب. فالاستراتيجية الرشدية التي بشَّرنا بها في كتابه نحن والتراث عاد ليوضح لنا ملامحها في كتابه تكوين العقل العربي. يقول الجابري: "إننا نعتقد أن الاستراتيجية الرشدية، أعني التي دشَّنها ومارسها ابن رشد، هي وحدها الكفيلة بتحرير العقل العربي من تشنجات المعقول الديني وردَّات اللامعقول العقلي. إن تحقيق مصالحة عقلانية بين المعقول الديني والمعقول العقلي (=العقل الكوني) على الطريقة الرشدية التي تعتمد الفصل بين الدين والفلسفة، وبالتالي تجاوز الحاجة إلى الغنوص gnose – إن تحقيق مصالحة من هذا النوع شرط ضروري لتحرير العقل العربي من الدوافع والأهداف التي جعلته يقيم اللامعقول العقلي وسيطاً بين الله والناس، بين الدين والفلسفة؛ الشيء الذي جعله يعاني من الحضور المكثف للغيب ومقولاته، ويجد نفسه، بالتالي، مهيأ للهروب، تحت وقع أي صدمة، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب... من المعقول إلى اللامعقول."
سوف أسترسل قليلاً في توضيح ملامح الاستراتيجية الرشدية لكي تأخذ المناقشة مجراها الواضح. ففي كتابه نحن والتراث (الذي نعود إليه كأساس وكمحطة أساسية في مشروعه) قام الجابري بشنِّ هجوم حاد على الفلسفة السينوية (نسبة إلى ابن سينا) وجذورها التاريخية. فمن وجهة نظره، ومن خلال حفرياته في تاريخ الفلسفة المشرقية وذلك عبر نوعين من القراءة، مباشرة وغير مباشرة (إسقاطية)، استنتج ما يلي:
أ. ابن سينا هو المدشِّن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط.
ب. عمل ابن سينا على تكريس لاعقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء عقلانية موهومة.
ت. كانت الفلسفة المشرقية السينوية، في آن واحد، تعبيراً عن وعي قومي مهزوم ووعي إيديولوجي مقلوب؛ فهي إحدى تجلِّيات الوعي القومي الفارسي المهزوم، لكنْ الحي دوماً، المتطلِّع إلى استعادة نفسه باستمرار وبكبرياء. ولذلك كان هدفه هو إنشاء فلسفة مشرقية ذات خصوصية قومية فارسية.
ث. يجب أن ننظر إلى العمل على دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين كجزء من نضال عام – سياسي اجتماعي ثقافي – ضد الحصار السني للدولة، قام به أبناء الشعوب المضطهَدة قومياً وطبقياً. وعبر هذا نستطيع أن نفهم الدوافع القومية–الإيديولوجية في فلسفة ابن سينا؛ وكذلك لماذا كانت الإسماعيلية – كرافد أساسي في تكوينية ابن سينا – إيديولوجيا الطبقات والقوميات المضطهَدة.
مثَّلت الفلسفة المشرقية السينوية، وامتداداتها النظرية على صعيد الفكر المجرد في المشرق العربي، نظاماً فكرياً في التراث الثقافي العربي الإسلامي يتميز عن نظام فكري آخر وجد تعبيره في الفكر النظري في المغرب. يرى الجابري، بهذا الصدد، أن ثمة قطيعة إبستمولوجية بين النظامين، قطيعة تمسُّ، في آن واحد، المنهج والمفاهيم والإشكالية.وقد وجد هذا النظام الفكري المغربي تعبيره في الاستراتيجية الرشدية؛ إذ إن المشروع الفلسفي لابن رشد كان يقوم أساساً على الفصل بين الفلسفة والدين حتى يتأتَّى لكل منهما الحفاظ على هويته الخاصة ويصبح في الإمكان رسم حدودهما وتعيين مجال كل منهما، من ناحية؛ والبرهنة، من ناحية أخرى، أنهما معاً يرميان إلى نفس الهدف. من هنا يمكن القول إن "المدرستين، الرشدية والسينوية، تمثلان مظهرين أساسيين، ومتمايزين، من مظاهر العقلانية في الإسلام؛ بل يمكن اعتبارهما اتجاهين عقلانيين، ليسا فقط متمايزين، بل متناقضي الاتجاه: العقلانية الرشدية عقلانية واقعية، والعقلانية الفارابية–السينوية عقلانية "صوفية"" ويضيف الجابري: "إن ابن رشد يرفض القول القائل بأن الله هو الملابِس لجميع ما ههنا والمحرِّك له، لأن هذا القول يؤدي في نظره إلى القول بأن ما يُدرَك من الأسباب والمسبِّبات باطل، لأن المعرفة بالمسبِّبات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها. فرفع هذه الأشياء – أي إنكار ارتباط المسبِّبات بالأسباب – هو مبطل للعلم ورفع له."
الاستراتيجية الرشدية تقول بالسببية، وبذلك ترفض التوسط وتنحاز للمعقول على حساب اللامعقول. فهدفها هو اجتثاث اللامعقول من حياتنا الذي يدفع باستمرار إلى الهروب إلى الأمام؛ خاصة وأن هذا اللامعقول وافد على الثقافة العربية الإسلامية – يسميه الجابري بـ"العقل المستقيل" – الذي تغذيه ثلاثة تيارات رئيسية:
أ. المانوية (نسبة إلى ماني) التي تجمع بين الزرادشتية والمسيحية والبوذية والتي استهدفت تقويض الأساس الفكري للدولة الإسلامية في العهد العباسي الأول؛
ب. الهرمسية (نسبة إلى هرمس) التي تقوم أساساً على نزعة صوفية إشراقية؛
ت. التيار الثالث هو الأفلاطونية المحدثة.
هذه التيارات الثلاثة – إلى جانب تيار رابع يتمثل في الإسرائيليات كرافد أساسي من روافد اللامعقول الذي قدم للفكر العربي الإسلامي الحديثَ حول البداية والنهاية – تزامنت جميعاً في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي وجمعها قاسم مشترك في كونها قد نهلت من الموروث الأسطوري البابلي القديم – وهذا ما يعتقده الجابري – لتبدأ بضخِّه من جديد عبر قنوات الموروث العربي الإسلامي. وقد توقف الجابري لشرحها في كتابه المعنون بـتكوين العقل العربي.
الهرمسية في ثنايا العقل العربي
في إطار نقده للعقل العربي يقول الجابري: "إن العقل العربي الذي سنقوم بتحليله (تحليل تاريخي وبنيوي ومن موقع إيديولوجي واعٍ) تحليلاً نقدياً ليس مقولة فارغة ولا مفهوماً ميتافيزيقياً ولا شعاراً إيديولوجياً للمدح والذم، وإنما نقصد به جملة من المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله فيها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها."
وانطلاقاً من أن عصر التدوين هو الإطار المرجعي للثقافة العربية الإسلامية، فإن الجابري يحدد الإطار الذي يعمل فيه – وهو إطار الثقافة العالِمة التي دشَّنها عصر التدوين – وينحِّي جانباً الذاكرة والمعيش والخرافة والأسطورة. يقول: "إننا قد اخترنا عن وعي التعامل مع الثقافة العالِمة وحدها، فتركنا جانباً الثقافة الشعبية، من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها." وفي ضوء اختياره للثقافة العالِمة كإطار، يتوجَّه من جديد لدراسة الأسطورة العالِمة – إن جازت لنا التسمية – بوصفها الإطار المرجعي للامعقول، التي تغلغلت في ثنايا العقل العربي وفرضت عليه رؤية ميثولوجية (= أسطورية) للكون ولعلاقة الإنسان بالطبيعة، وجدتْ تعبيرها في نظام العرفان. والجابري بذلك يقتفي أثر الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان في بحثه عن دور الخيال imaginaire (الأسطورة) في الفلسفة الشيعية الإسلامية. إن المكونات الأساسية للعقل العربي الإسلامي، كما يرى الجابري، كناية عن ثلاثة أنظمة: نظام البيان، ونظام العرفان، ونظام البرهان. وانطلاقاً من أن المعقول الإسلامي يتحدد انطلاقاً من اللامعقول، يبدأ الجابري بالبحث عن اللامعقول في ثنايا العقل العربي الذي يجد تعبيره في نظام العرفان. يميِّز الجابري هنا بين عرفانين: العرفان كموقف (فردي ونفسي وعملي، يتلخص في رفض العالم ونشدان الاتصال بالإله والدخول معه في نوع من الوحدة)؛ والعرفان كنظرية (يطغى فيه التفسير والتأويل ومحاولة تشييد نظرية دينية فلسفية تشرح تطور الخليقة من المبدأ إلى المعاد).
ما يهمنا هو العرفان كنظرية، كرؤية ميثية (= أسطورية) لله وللكون والإنسان، وجدت تعبيرها في ملحمة التكوين الهرمسي (رؤيا هرمس)، وشكَّلت، بتفرعاتها المانوية والزرادشتية والأفلوطونية المحدثة والإسرائيليات، حلفاً قوياً ساهم في رفد وغزو نظام البيان العربي الإسلامي (المعقول العقلي الديني العربي الذي يتحدد بثلاثة عناصر: القول بوجوب معرفة الله، والقول بوحدانيَّته، والقول بالنبوة) بكل عناصر اللامعقول الذي تتحدد عناصره بعكس عناصر المعقول الديني العربي الذي يمتح من الموروث القديم.
في كتابه الهام المُعَنَْوَن بـبنية العقل العربي حظيت الرؤية الهرمسية الأسطورية للكون وبدء الخليقة بالكثير من التفرد. فبعد أن عرض لها في كتابه الموسوم بـتكوين العقل العربي، قام في بنية العقل العربي بنقل هذه الرؤية الأسطورية بنصها إلى العربية، وقام بالشرح والتعليق عليها، وتابع تغلغلها في الفكر العربي الإسلامي عند الشيعة (أول من تَهَرْمَس في الإسلام)، ثم تابع تحولاتها داخل هذا الفكر، كما تجسدت في فكرة الإمامة، ثم انتقالها إلى المتصوفة الإسلاميين من السنة، كما يتجلَّى في شرحه لنصَّيْ الجنيد وابن عربي.
ويركز الجابري على رؤيا هرمس لأنها، من وجهة نظره، تنحو منحى أسطورياً يقدم الحل لمشكلة الشرِّ في العالم. وفي دراسته لأسطورة الخليقة الهرمسية، باعتبارها المنهل الذي ينهل منه جميع العرفانيين، يميز الجابري بين عدة مراحل (مراحل الخلق):
- المرحلة الأولى: التقرير بأولوية النور؛ فالنور هو العقل (الإله الأب).
- المرحلة الثانية: انفصال النور عن النار انفصالاً نهائياً.
- المرحلة الثالثة: إنجاب الإله الأب للابن (الإله الصانع).
- المرحلة الرابعة: ظهور الإنسان السماوي الأول على صورة الإله الأب الكلِّي.
- المرحلة الخامسة: تتضمن حديثاً عن يوم المعاد ومرحلة ما بعد الموت وعودة الروح إلى بارئها.
الرؤيا الهرمسية
الرؤيا الهرمسية هي البئر الذي يمتح منه العرفان كموقف والعرفان كنظرية. وهذه الرؤية سوف تمهِّد للانسحاب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقيل، وسيتاح لها، في القرنين الخامس والسادس الهجريين، أن تغزو نظام البيان العربي الإسلامي من خلال المتصوفة (ابن عربي والجنيد وغيرهما) الذين سعوا إلى تأسيس البيان على العرفان، بعكس ما فعله ابن رشد الذي عمل على تأسيس البيان على البرهان؛ وبذلك مهَّدوا لاستقالة العقل العربي في المشرق العربي أولاً، وفي المغرب العربي والأندلس لاحقاً، لتُكتَب عليه الغربة في أرض أخرى – وطوبى للغرباء!
إن العرفاني الذي يمتح من الأسطورة الهرمسية ويدَّعي الكشف والرؤيا والحلم والتأويل ("الشطح"، على حد تعبير الجابري) يمارس أبسط أنواع التفكير وأدنى درجاته، ويكرِّس باستمرار الهروبَ إلى عالم العقل المستقيل؛ بالإضافة إلى أنه يساهم في تكريس نظرة سحرية للعالم من خلال العرفان، كموقف وكنظرية. ولنترك للصياغة الجابرية أن تأخذ مجراها:
أ. العرفان، كموقف وكنظرية، تكريسٌ للنظرة السحرية للعالم، أولاً وأخيراً؛ فهو تكريس أيضاً للبنية العامة للثقافات القديمة التي يشكل فيها الفكر السحري، وليس العلم، الفاعلَ الأساسي – هذا حسب معلوماتنا الراهنة (القول للجابري). وهل يمكن تحقيق نهضة بالسحر؟
ب. العرفاني يهرب باستمرار إلى عالم الميثولوجيا المفلسفة.
ج – الكشف العرفاني ليس شيئاً فوق العقل، كما يدعي العرفانيون، بل هو أدنى درجات الفعالية العقلية؛ ليس شيئاً خارقاً للعادة، ليس منحة من طرف قوة عليا، بل هو فعل العادة الذهنية غير المراقَبة، فعل المخيِّلة التي تغذِّيها، لا المعطيات الذهنية الموضوعية الحسية، ولا المعطيات العقلية الرياضية، بل معطيات شعور حالم غير قادر على مواجهة الواقع والتكيُّف معه والعمل على السيطرة عليه سيطرة مادية أو عقلية أو كليهما معاً، فيلجأ إلى عالم خيالي خاص به، ينتقي عناصره من الدين والأساطير والمعارف الشائعة.
باختصار، إن الجابري، من خلال حفرياته في تاريخ الأسطورة العالِمة، يعزو تخلُّفنا الحضاري وانحطاطنا الفكري، في المشرق والمغرب، إلى ارتدادنا إلى أشكال من الفكر الأسطوري، كان أجدادنا ممَّن أسَّسوا البيان العربي الإسلامي (المعقول العقلي) قد تجاوزوه – خاصة وأن الخطاب القرآني الذي يؤسِّس للبيان هو خطاب عقلاني، كما يرى الجابري – إلى أشكال من الفكر الأسطوري، استطاعت الشعوبية الفارسية أن تجعل منه باطناً للحركات الثورية الإسلامية المضادة (الشيعة الإسماعيلية) التي بقيت تحمل في ثنايا إيديولوجيتها تناقضاً صارخاً بين الشكل الثوري (من حيث هي إيديولوجيا الطبقات الفقيرة والمحرومة) وبين المضمون الباطني "المُؤسْطَر" المتخلف. صحيح أن للأسطورة منطقها الخاص، كما يكتب الجابري، "بوصفها شكلاً من أشكال التعبير ونمطاً من أنماط التصور له منطقه الخاص" ؛ غير أن ما يقلقه هو هذا التوظيف العرفاني للأساطير، كما تمثَّل في الإيديولوجيا الشيعية؛ التوظيف الذي بلغ ذروته في التأويلات الباطنية للفكر الشيعي التي وجدت تعبيرها الحيَّ في فلسفة ابن سينا الشعوبية مثلاً.
باختصار أيضاً ، يدعونا الجابري إلى نفي اللامعقول نفياً نهائياً. ففي ذلك وحده الخلاص!
بحثاً عن الله
روبرت هولمز
هل مشاعرنا الدينية مجرَّد نتاج لطريقة عمل الدماغ ليس إلا؟ بوب هولمز التقى الباحثين الذين يسعون لتفسير أكثر خواطرنا قداسة. ***
لقد شعر أينشتاين بذلك. و"ذلك" هو ما يدفع الناس إلى الكنائس والصلاة والتأمل والرقص المقدس وإلى ما هنالك من طقوس. ولعلَّه قُيِّض لك أنت أيضًا أن تشعر بشيء مماثل – في الجبال أو على شاطئ البحر أو ربما لدى إصغائك إلى مقطوعة موسيقية قريبة إلى قلبك بصفة خاصة. في الواقع، صرَّح حوالى نصف الناس أنهم عاشوا نوعًا من التجربة الصوفية أو الدينية. وهذه الخبرة كانت عند بعضهم عارمة إلى حدٍّ تغيَّرتْ معها حياتُهم إلى الأبد.
ولكن ما هو هذا الـ"ذلك"؟ أهو حضور الله يا ترى؟ أم هي لمحة من مستوى أعلى من الكينونة؟ أم هو فقط المكافئ الصوفي للسَّابقِ رؤيته ، حيلة من حِيَل الدماغ على الذات الواعية؟ في مستوى معين، طبعًا، تستلزم كلُّ أفكارنا وأحاسيسنا – مهما كانت غير اعتيادية – مشاركةَ الدماغ. وبالفعل، دفعتْ التجارب التي أُجرِيَتْ على الدماغ علماءَ الأعصاب لأن يقترحوا أن الشعور الديني قد يكون قد بُرمِج داخلنا بطريقة ما. فلماذا تختلف إذًا الخبرات الدينية التي يعيشها الناس اختلافًا كليًّا، بحيث يتأثر بعضهم بها تأثرًا عميقًا بينما لا يأبه لها آخرون؟
لقد شغف آندرو نيوبرغ، عالم الأعصاب من جامعة بنسلفانيا في فيلاديلفيا، بنظرةِ بيولوجيا الأعصاب إلى الدين منذ أكثر من عقد. وهو يعترف أن هذا دورٌ غريبُ الأطوار للعالِم ويقول: «لطالما شغلني قول الناس إنني شخص متديِّن يسعى للبرهنة على وجود الله أو إنني شخص متهكِّم يسعى للبرهنة على عدم وجود الله ؛ لكننا نحاول توخِّي الحياد في مقاربتنا لهذا الموضوع». في بداية هذا الشهر، نشر نيوبرغ كتابًا يعرض أكملَ نظريةٍ حتى تاريخه حول كيفية نشوء الخبرات الصوفية أو الدينية في الدماغ.
انكبَّ نيوبرغ مع المرحوم يوجين داكويلي، زميله في جامعة بنسلفانيا، على دراسة الأحاسيس التي تختص بالخبرات الدينية، إنما التي يتشارك بها أناس من معتقدات مختلفة. أحد هذه الأحاسيس هو الشعور بالـ"الوحدة مع الكون" الذي افتُتِنَ به أينشتاين. وهنالك أيضًا الشعور بالرَّوْع الذي يصاحب مثل هذه الكشوف ويجعلها تكتسي بأهمية أكبر وتنشحن بمعانٍ أسمى وبمعنى ما أكثر حقيقية من حيواتنا اليومية.
غير أن نيوبرغ قد أدرك أنه من شبه المستحيل دراسة الكشوف النادرة والمتلاشية في المخبر. فاضطر إلى تجاهل الخبرات التي تطرأ مرةً واحدة على نحو غير متوقع ليركِّز، بدلاً من ذلك، على التأمل والصلاة الرزينين، لكن القابلين للتكرار.
وبفضل زميلٍ لهما يمارس البوذية التيبتية، استطاع نيوبرغ وداكويلي أن يجدا ثمانية من مَهَرَةِ المتأمِّلين قبلوا بالخضوع إلى عملية تصويرٍ لأدمغتهم. وقد أتى المتطوعون إلى المخبر فرادى؛ فكان أحد الفنيين يُدخِل أنبوبًا في وريد ذراع كل منهم. ثم كان المتطوع يبدأ بالتأمل كالعادة مُركِّزًا عن قصد على نفس الصورة، وهي غالبًا لرمزٍ دينيٍّ ما. والهدف كان مراقبةَ بدءِ انحلال الشعور اليومي بالذات حيث يصبح المتأمل واحدًا مع الصورة. يقول مايكل بيم، أحد المتأملين وأحد الباحثين المشاركين في هذه الدراسة: «إنه شعور بسقوطِ كلِّ الحدود، وكأن فيلم حياتك قد انقطع، فترى بذلك الضوء الذي يسمح لهذا الفيلم بأن يُعرَض».
في الغرفة المجاورة كان نيوبرغ وداكويلي ينتظران مختبئين. وعندما كان المتأمل يشعر بتنامي الإحساس بالاتحاد [مع الصورة/الكون] – بعد حوالى ساعة من الزمان عادة – كانا يعطيان الأمر للباحثين بحقن عنصرٍ استشفافي مشعٍّ عبر الأنبوب الداخِلوَريدي. وخلال دقائق قليلة، وبسرعة، كان العنصر الاستشفافي يقصد الدماغَ بكميات أوفر بحيث يتدفق الدم بشدة أكبر، الأمر الذي ينعكس نشاطًا دماغيًا أعلى. لاحقًا استُخدِمَ الماسح [سكانر] لقياس توزع العنصر الاستشفافي للتوصل إلى صورةٍ عن نشاط الدماغ في لحظة الارتباط. وقد سمحت هذه العملية، التي تدعى التصوير الطبقي الكومبيوتري باستخدام الابتعاث الفوتوني المفرد ، للمتطوعين أن يمارسوا التأمل في جوِّ المخبر، الهادئ مقارنةً بهدير السكانر وضيقه. وبعد الانتهاء من هذه الاختبارات قارنَ نيوبرغ وداكويلي نشاطَ أدمغة المتطوعين خلال التأمل مع مُسوحات أجريت خلال راحتهم.
لم يُفاجَئ الباحثون، ربما، بوجود نشاط مكثَّف في أجزاء الدماغ الناظمة للانتباه – وهذه إشارة إلى تركيز المتأملين العميق. ولكنهم وجدوا شيئًا آخر أيضًا. فخلال التأمل كان جزءٌ من الفَصِّ الجداري في اتِّجاه أعلى ومؤخرة الدماغ أقل نشاطًا منه خلال راحة المتأملين. بهذا أدرك نيوبرغ وداكويلي مبتهجين أن هذا الجزء هو بالضبط منطقةُ الدماغ التي ينشأ فيها التمييز بين الذات والآخرين.
بشكل عام، يتعامل الجانب الموجود في نصف الدماغ الأيسر من هذه المنطقة مع إحساس الفرد بصورة جسمه، بينما يتعامل الجانب المقابل في نصف الدماغ الأيمن مع السياق – أي الزمان والمكان اللذين تقيم فيهما الذات. فاعتقد الباحثون أنه ربما عندما يتنامى شعور المتأملين بالوحدة فإنهم يَعزلون تدريجيًا هاتين المنطقتين عن الإشارات اللمسية والوضعية التي عادة ما تساعد على إيجاد صورة الجسم.
يقول نيوبرغ: «عندما ننظر إلى المتأملين نلاحظ أنهم حقًّا يوقِفون إحساسَهم بالعالم الخارجي، فلا تعود المناظر والأصوات تشوِّشهم. ولهذا لا تصل أية إشارات إلى الفَصِّ الجداري». فعندما تُحرَم هاتان المنطقتان من المَدَدِ تكفَّان عن الدوران، فيشعر الشخص ببدء انحلال الحدود بين الذات والآخر. ومع اختفاء السياق الزمني والمكاني يعتري الشخصَ شعورٌ بالأبدية وبلانهاية المكان.
كرَّر نيوبرغ هذه التجربة مؤخرًا مع راهباتٍ فرانسيسكانيات خلال الصلاة. وظهر لديهن – وهنَّ اللواتي تتمحور صلاتهن على الكلمات أكثر من تركيزها على الصور – نشاطٌ في مناطق اللغة من الدماغ. بيد أنهن أوقفن أيضًا عملَ منطقةِ الذات عينِها التي أوقف المتأملون عملَها عندما وصلوا إلى أوج شعورهم بالوحدة.
هذا الشعور بالوحدة مع الكون ليس الخاصية الوحيدة للخبرات الدينية العارمة؛ فهي تحمل في طيَّاتها أيضًا شحنةً عاطفيةً هائلة وشعورًا بالورع وبمدلولٍ عميق. ويتفق علماء الأعصاب عمومًا على أن هذا الإحساس ينشأ في منطقة من الدماغ مختلفة عن الفصِّ الجداري: أي في "الدماغ العاطفي" أو الجهاز المحيطي المتوضِّع عميقًا في الفصين الصدغيين على كلا جانبي الدماغ.
الجهاز المحيطي limbic system هو جزء من دماغنا يعود إلى المراحل الأولى من التطور. ووظيفته اليوم هي رصد خبراتنا ووضع بطاقاتٍ عاطفية على الأحداث ذات المدلول الخاص، كرؤية وجه طفلك مثلاً، يدوَّن عليها "هذا مهم". وخلال تجربة دينية عارمة يعتقد الباحثون أن الجهاز المحيطي ينشط نشاطًا غير اعتيادي، فيضفي مدلولاً خاصًا على كلِّ شيء.
وهذا يمكن أن يفسر لماذا يجد أولئك الذي عاشوا مثل هذه الخبرات صعوبةً جمَّة في وصفها للآخرين.: «إن مضمون الخبرة – أي مكوِّناتها المرئية والحسية – هو عين ما يختبره الفرد كلَّ الوقت؛ إلا أن الجهاز المحيطي الصدغي يمهر هذه اللحظات على أنها ذات أهمية كبيرة للفرد وعلى أنها تتميز بفرح وتناغم عظيمين. وعندما يتم الحديث عن هذه الخبرة إلى الآخرين لا يمكن إيصال سوى المضامين والحسِّ باختلافها؛ أما الإحساس العميق فلا يمكن إيصاله».
الوفير من الدلائل يدعم فكرة أن الجهاز المحيطي مهم للخبرات الدينية. وهنالك ظاهرة أكثر شهرة لدى الأشخاص الذين يعانون من نوبات صَرَعٍ محصورة في الجهاز المحيطي، أو في الفصين الصدغيين عمومًا، ممَّن بلَّغوا أحيانًا عن مكابدتهم خبراتٍ عميقة خلال النوبات. يقول سيفر: «هذا مشابه لما يختبره الأشخاص الذين يكابدون هداية دينية، إذ يشعرون بإحساس الرؤية عبر ذواتهم الجوفاء أو واقعهم السطحي بواقعٍ أعمق». وكنتيجة لذلك، حسب قوله، عاش المصابون بالصرع عبر التاريخ تجارب صوفية عظيمة. فالروائي الروسي فيودور ديستويفسكي، على سبيل المثال، كتب عن "لمسِه لله" خلال نوبات الصرع. وهناك في التاريخ شخصيات دينية أخرى عانت ربما من الصرع، كالقديس بولس وجان دارك والقديسة تريزا الآفيلية وعمانوئيل سويدنبورغ، مؤسِّس كنيسة أورشليم الجديدة في القرن الثامن عشر.
وعلى نفس المنوال، يقول جرَّاحو الأعصاب الذين ينبِّهون الجهاز المحيطي خلال جراحات الدماغ المفتوح إن مرضاهم بلَّغوا أحيانًا عن اختبارهم لأحاسيسَ دينية. كما أن مرض آلزهايمر، الذي كثيرًا ما يعطِّل في مراحله الأولى عملَ الجهاز المحيطي، عادةً ما يقترن بتراجعٍ في الاهتمام الديني، حسب قول سيفر.
يمكن للغنى الذي يضفيه التنبيه المحيطي على الاختبار أن يفسر لماذا تعوِّل الأديان على الطقوس تعويلاً كبيرًا، على حد زعم نيوبرغ الذي يضيف أن حركات الطقوس المتعمَّدة والمُؤسلَبة تميزها عن الأفعال اليومية وتساعد الدماغ على اعتبارها ذات مدلول خاص. الموسيقى أيضًا يمكن أن تؤثر على الجهاز المحيطي، وفق تقارير صدرت عن باحثين يابانيين سنة 1997، فتدفعه نحو غبطة هائجة أو هادئة؛ كما يمكن أن يكون للغناء وللحركات الطقوسية التأثير عينه. وقد ظهر أن التأمل يحرِّض التهيج والاسترخاء، غالبًا في آنٍ معًا. يقول نيوبرغ: «أحيانًا يشير الناس إلى ذلك بالسعادة الناشطة»، وهو يعتقد أن هذا الاقتران بين الضدَّين يضيف إلى قوة التجربة.
وحتى لو قصَّرت أحاسيس الورع والورع هذه عن الخبرات الشخصية مع الله التي يبلِّغ عنها الكثير من الناس، حسب أيِّ شخص يشك في قدرة الدماغ على توليد خبرات دينية حيث أن أيَّ شخص يمكن أن يقابل الله إذا ما ارتدى خوذته الخاصة.
استخدم بيرسنغر لسنوات طويلة تقنيةً يُطلَق عليها التنبيه المغناطيسي العبرجمجمي،[ii] وذلك لتوليد أنواع عديدة من التجارب السريالية لدى أناس عاديين.[iii] فمن خلال التجريب والتعلُّم من الأخطاء، بالإضافة إلى بعض التخمين المتمرِّس، توصَّل إلى أن تيارًا مغناطيسيًّا ضعيفًا – 1 مايكروتِسلا،[iv] أي ما يعادل تقريبًا التيار المغناطيسي الذي تولِّده شاشة الحاسوب – يدور بعكس اتجاه عقارب الساعة وفقَ نمطٍ معقد حول الفصين الصدغيين يسبِّب لدى أربعة من كلِّ خمسة أشخاص شعورًا بحضورٍ شبحي معهم في الغرفة.
وتأويل الناس لهذا الحضور يتوقف على نزعاتهم ومعتقداتهم. فإذا كان شخصٌ محببٌ قد توفي مؤخرًا يمكن أن يشعروا بأن هذا الشخص قد عاد لزيارتهم. كما يعتبر المتدينون غالبًا أن هذا الحضور هو الله. يقول بيرسنغر: «هذا ما يحصل في المخبر. فتصوَّر ما يحصل إذا كان الشخص بمفرده مستلقيًا في سريره ليلاً أو راكعًا في الكنيسة حيث للسياق أهمية كبيرة». وقد ارتدى بيرسنغر خوذته بنفسه وشعر بالحضور، على الرغم من أن التجربة كانت أقل غنى نظرًا إلى أنه كان يعلم ماذا سيحدث.
لا يقبل الجميع بأن أشباح بيرسنغر يمكن أن تعادل ما يختبره المتدينون. يقول جوليان شيندلر ، الناطق باسم مكتب كبير الحاخامات في لندن: «هذا منفصل عن كلِّ ما هو تجربة دينية أصيلة، على غرار العقاقير المنشِّطة نفسيًا التي تؤثر على المزاج ولكن ليس بطريقة شرعية. إنها بنوع ما ليست البضاعة الأصلية».
وبغضِّ النظر عن صلاحيتها، تُظهِر تجارب الخبرات الصوفية أنها لا تتألف فقط مما ندركه ولكن أيضًا من تأويلنا لما ندرك. «وكأننا ندخل في كوَّة أو في تجويف، والبطاقة التي ستُلصَق عندئذٍ لتصنيف الخبرة ستؤثر على طريقة تذكُّر الشخص لها. وهذا يحدث خلال ثوانٍ معدودات». وهنالك وجه ثالث أيضًا، وهو التعزيز الذي يحصل عليه البشر، بما هم حيوانات اجتماعية، من المشاركة في الطقوس الدينية مع الآخرين.
«الدين هو هذه العناصر الثلاثة مجتمعة، وهي مُبَرمَجة في أدمغتنا. فنحن مُبرمَجون لاختبار تجارب من وقت إلى آخر تمنحنا شعورًا بحضورٍ ما. وكحيوانات رئيسة نحن مُبرمَجون لتصنيف تجاربنا. نحن نتوق للتفاعل الاجتماعي وللقرب المكاني مع آخرين على شاكلتنا. أما المضمون فليس مُبرمَجًا. فإذا ما عشتَ خبرة مع الله وكان معتقدكَ أن تقتل كلَّ من لا يعتقد بما تعتقد يمكنكَ أن تفهم لماذا يكمن الخطر الحقيقي في المضمون المنبثق عن الثقافة».
إذًا أين نحن من كل هذا؟ لسبب من الأسباب – طبيعيًا كان أو خارقًا للطبيعة – فإن أدمغتنا الكبيرة والقوية تسمح بنوعٍ غير مألوفٍ من التجارب التي ندعوها دينًا. غير أنه من الصعب إضافة أي شيء على ذلك.«بمعنى ما، اكتشفتْ البيولوجيا التي ما فتئت تتطور شيئًا جديدًا عن الكون. فكلُّ الثقافات تقريبًا عندها هذا الشعور الديني. ولكن هل يقدم لنا ذلك أيَّ تَبَصُّر لفهم بذرة الكون؟ هذا هو السؤالٌ المؤرقٌ».
والمشكِّكون في الدين سرعان ما يزعمون أن برمَجَة الدماغ تبرهن على أن الله غير موجود حقًّا وعلى أن الأمر كلَّه يحدث في الدماغ. يقولون أن «القاسم المشترك الحقيقي هنا هو نشاط الدماغ، وليس شيئًا آخر. ليس ثمة ما يقطع فيما إذا كان هذا مفروضًا من الخارج أو أنك تدخل على خطٍّ كيان إلهي».
إلا أن نيوبرغ غير أكيد إذ يقول: «لا يمكننا أن نقول إنهم على خطأ. ولكن، من جهة أخرى، إذا كنتَ شخصًا متديِّنًا فمن المنطقي أن يكون دماغك قادرًا على فعل ذلك لأنه إذا كان هناك إله فمن الطبيعي أن يكون قد صمَّم الدماغ بشكل يسمح بالتفاعل معه بطريقة أو بأخرى. ولا يمكننا الحكم على ذلك بالخطأ. المشكلة هي أن كل تجاربنا متساوية من حيث إنها جميعًا تحصل في الدماغ. فتجربتنا مع الواقع وتجربتنا مع العلم وخبراتنا الصوفية تحدث جميعًا في الدماغ».
الطريقة الوحيدة عمليًّا التي نحكم بها على واقعية خبرة ما هي مدى الشعور بأنها حقيقية: «يمكنك أن ترى حلمًا وتشعر وقتئذٍ وكأنه حقيقة؛ ولكن عندما تستيقظ لا تعود تشعر بواقعية هذا الحلم. والمشكلة هي أن الناس عندما يعيشون تجربة صوفية فإنهم يعتقدون أنها أكثر واقعية من الواقع القاعدي – حتى عندما يعودون إلى الواقع القاعدي. وهذا يقلب كلَّ المعايير». وهذا يعني في نظر نيوبرغ أن للعلوم الاختزالية حدودًا مهما بلغت قوتها.
يوافق خبراء الأديان على ذلك فيقول هاربر: «بوسعك أن تقول إن قصائد شكسبير ليست سوى مزيجًا من رصاص القلم والسيلولوز. ولكن يمكن أن تقول أيضًا إنها دَفقُ روح عظيمة، وأنت على صواب في كلا الحالتين». ثم يضيف بأن هنالك عدة مستويات للتفسير، كلُّ واحد منها صائب على مستواه دون أن يقدم تفسيرًا شاملاً.
يقول نيوبرغ إنه على غرار علماء الفيزياء الذين لا يستطيعون فهم الإلكترون فهمًا كاملاً كجُسَيِّم أو كموجة، بل بكونه كليهما معًا، نحن بحاجة إلى العلم وإلى فهم أكثر ذاتية وروحانية معًا حتى نستطيع أن نعانق طبيعةَ الواقع الكاملة.
الصوفي يصيخ السمع...
- التصوف، حيث لا يُقيَّض للداخل إليه أن يدرك عوالمه المجهولة، إلا إذا عَبَرَ العتمة. إذ تستحيل فيه الرؤيا من دون إغلاق البصر. فالتصوف هو إغلاق العين، على ما يقول كولن ولسن. وهو رؤية ما لا يراه الآخرون.
- القرآن كجامع للوجود. وفيما هو كلمات الله المرموقة التي توازي الوجود وترمز إليه، كما توازي الإنسان وترمز إلى حقائقه. القرآن في مثل هذا التصور موازٍ للوجود وموازٍ للإنسان في الوقت نفسه. وهو – مثل الوجود والإنسان – له جانبان: جانب باطن كلياً هو جمعيَّته من حيث هو قرآن تنزَّل على قلب النبي وما زال يتنزَّل متجدداً على قلوب العارفين؛ وجانب ظاهر من حيث تلاوته باللسان وتحويله إلى أصوات وحروف منطوقة. وهذه التفرقة بين جانبي القرآن الباطن والظاهر تمكِّن ابن عربي – بسهولة – من حل معضلة قِدَم القرآن وحدوثه. هذه الموازاة بين القرآن والوجود والإنسان تؤدي إلى تحرُّر العارف في فهمه للنص القرآني من حدود المعطيات اللغوية المباشرة، حيث يمكنه أن يرى القرآن في ضوء وجودي ونَفَس أشمل. ولا تصبح العلاقة بين العارف والنص – في ظل هذا الفهم – علاقة انفصال، بل هي علاقة تَوَحُّد منظور إليها من جانبين وباعتبارين. إن العارف يقرأ في القرآن الوجود بأسره، كما يقرأ فيه نفسه ومعارفه. إذ الوجود كلمات الله، والعارف – أو الإنسان الكامل – هو كلمة الله الجامعة
- وابن عربي، كناطق للباطن وعارف به ، يأتي نصه ليضيء على وجود، يبدو لسواه من غير أهل المقام عدماً معتماً؛ بينما هو، في الحقيقة، الحقيقةُ عينها. وجود نوراني، ألوانُه مشعةٌ، مبهرةٌ، لا نهاية لعددها وتنوعها وتغيُّرها المستديم.
في هذه النوافذ الثلاث يستلزم الدخول أقصى المجاهدة. وعلى الداخل، حتى لو كان باحثاً آتياً من خارج مقامات الصوفية، أن يُعِدًّ العدة لامتحان صعب. إذ الكلام على التصوُّف والقرآن، ومن خلال ابن عربي بالذات، يماثل البحث عن حقائق الوجود بوسائط لغوية تستعصي على الفهم والإدراك السهل. حيث يشتبك العقل الفلسفي بالعرفان الذوقي، وكلاهما بعلم الكلام والفقه والشريعة.
يعدُّ بحث فلسفة التأويل لنصر حامد أبو زيد – من إحدى زواياه – امتداداً للدراسة التي قام بها الباحث في مرحلة سابقة عن قضية المجاز في القرآن عند المعتزلة (الاتجاه العقلي في التفسير). وقد انتهى الباحث في دراسته السابقة إلى أن المجاز تحوَّل في يد المتكلِّمين إلى سلاح لرفع التناقض المتوهَّم بين آيات القرآن من جهة، وبين القرآن وأدلة العقل من جهة أخرى. وقد كانت هذه النتيجة هي الأساس الذي حدا بالباحث إلى محاولة استكشاف منطقة أخرى من مناطق الفكر الديني – هي منطقة التصوُّف – لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني واستكناه طبيعتها ومناقشة المعضلات التي تثيرها، وذلك استكمالاً للجانبين الرئيسيين في التراث: الجانب العقلي كما يمثل له المعتزلة، والجانب الذوقي عند المتصوفة. وخلال الفترة الطويلة التي استغرقها هذا البحث تعدَّل كثير من الأفكار والمفاهيم التي انطلق منها الباحث، خاصة المفهوم الرئيسي الذي تقوم عليه الدراسة وهو مفهوم التأويل. لقد بدأ الباحث دراسته الأولى من خلال المفهوم الشائع في فكرنا الديني والفلسفي المعاصر الذي يرى التأويل جهداً عقلياً ذاتياً لإخضاع النص الديني لتصورات المفسِّر ومفاهيمه وأفكاره. وهي نظرة تُغفِلُ دور النص وما يرتبط به من تراث تفسيري وتأثيره على فكر المفسِّر. إن العلاقة بين المفسِّر والنص ليست علاقة إخضاع من جانب المفسِّر وخضوع من جانب النص؛ فالأحرى القول إنها علاقة جدلية قائمة على التفاعل المتبادل.
التصوف في الاسلام
سوف نسجل للمؤلف براعته في توليف دراسته، على الأخص لجهة قدرته على التعامل ولغة ابن عربي الإشارية الرمزية. لقد اعتمد على أهم ما كتب الشيخ الأكبر في عرض فلسفته الذوقية ونظرته إلى الوجود من خلال تأويل القرآن الكريم. وهي: الفتوحات المكِّية، فصوص الحكم والتدبيرات الإلهية، فضلاً عن الاستعانة أحياناً بمراجع أخرى مثل: تنزُّل الأملاك، كتاب الواو والنون والميم، ترجمان الأشواق، وسواها. وهذه مرجعيات تشكل بجملتها المشروع الرؤيوي للوجود عند ابن عربي. وهي مرجعيات صعبة المراس نظراً إلى لغتها غير العادية. يقول العلامة نيكولسون في وصف أسلوب ابن عربي في فصوص الحكم: "إنه يأخذ نصاً من القرآن أو الحديث ويؤوِّله بالطريقة التي نعرفها في كتابات فيلون اليهودي وأوريجنس الإسكندري. ونظرياته في هذا الكتاب صعبة الفهم، وأصعب من ذلك شرحها وتفسيرها، لأن لغته اصطلاحية خاصة، مجازية معقدة في معظم الأحيان. وأي تفسير حرفي لها يُفسِد معناها. ولكننا إذا أهملنا اصطلاحاته تعذَّر فهم كتابه وتعذَّر الوصول إلى فكرة واضحة عن معانيه. ويمثل الكتاب في جملته نوعاً خاصاً من التصوُّف المدرسي العميق الغامض."
ويعلق أبو العلا عفيفي على غموض أسلوب ابن عربي وأهل الصوفية عموماً فيقول: "المعروف عن الصوفية إطلاقاً أنهم قومٌ لا يتكلمون بلسان عموم الخلق، ولا يخوضون فيما يخوض فيه الناس من مسائل علم الظاهر، وإنما يتكلمون بلسان الرمز والإشارة – إما ضَناً بما يقولون على من ليسوا أهلاً له، وإما لأن لغة العموم لا تفي بالتعبير عن معانيهم وما يحسونه في أذواقهم ومواجدهم. أما ما يرمزون إليه فحقائق العلم الباطن الذي يتلقونه وراثة عن النبي، وهذه الحقائق لا يستقل بفهمها عقلٌ، ولا بالتعبير عنها لغة. وهذان الأمران وحدهما كافيان في تفسير الصعوبات التي تعترض سبيل الباحث في فهم معاني الصوفية ومراميهم. ولذا كان الحذر ألزم ما يلزم الناظر في أقوالهم حين يحلِّلها أو يؤوِّلها أو يحكم عليها."
لم يخفَ على الباحث وجه التحدي في التعاطي ولغة ابن عربي. فهو قد أدرك منذ الابتداء أن تحدياً كهذا يستلزم الأخذ بجماع النص الذي يقدمه كبير الصوفية؛ أي الأخذ باللغة والمعنى فيما هما كلٌّ متكامل. إذ اللغة هي المعنى، والمعنى هو اللغة. فلا فصل بينهما، حتى من الناحية الوظيفية التي تؤديها اللغة لبلوغ القصد في خصوصية تأويل القرآن عند ابن عربي. لذا لا يجد الباحث مفراً – في دراسة التأويل – من مواجهة فلسفة ابن عربي كلِّها في جوانبها الوجودية والمعرفية، إلى جانب مفاهيمه الخاصة بماهية النص الديني ودوره المعرفي والوجودي، ومفهوم اللغة بمستوياتها المتعددة باعتبارها الوسيط الذي يتجلى من خلاله النص. الوجود، في نظر ابن عربي، خيال يماثل الصور التي تتراءى للنائم في أحلامه. والمراتب المختلفة والمتعددة للوجود، من أولها إلى آخرها (الوجود الإنساني) تخضع جميعاً لهذا التصور. من هذا المنطلق يفرِّق ابن عربي بين ظاهر الوجود وباطنه، ويرى ضرورة النفاذ من الظاهر الحسي المتعيِّن إلى الباطن الروحي العميق، في رحلة تأويليَّة لا يقوم بها إلا الإنسان، لأنه الكون الجامع الذي اجتمعت فيه حقائق الوجود وحقائق الألوهة في الوقت نفسه. يتماثل مع هذا التصور الوجودي تصوُّرُ ابن عربي للنص الديني؛ فهو الوجود المتجلِّي من خلال اللغة، وهو – بالمثل – يتكوَّن من ظاهر وباطن، وهما مراتب ومستويات تتماثل مع مراتب الوجود ومستوياته. ولا ينفصل تأويل الوجود عن تأويل النص والنفاذ إلى مستوياته المتعددة التي لا يفهمها إلا الإنسان الكامل الذي تحقَّق بباطن الوجود وتجاوز ظاهره
ويذهب الباحث إلى الاستشهاد بابن عربي نفسه في تبيين لغته الحادة الخصوصية، حيث يقول في الفتوحات المكية عن عقيدته بأنها نفس عقيدة أهل السنة الأشاعرة ويضيف: "فهذه عقيدة العوام من أهل الإسلام، أهل التقليد وأهل النظر ملخَّصة مختصرة... ثم أتلوها بعقيدة خواص أهل الله من أهل الطريق المحقِّقين، أهل الكشف والوجود... وأما التصريح بعقيدة الخواص، فما أفردتها على التعيين لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبدَّدة في أبواب هذا الكتاب، مستوفاة، مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا متفرقة. فمن رزَقَهُ الله الفهم فيها يعرف قدرها، ويميزها من غيرها؛ فإنه العلم الحق والقول الصدق، وليس وراءها مرمى، ويستوي فيها البصير والأعمى، تُلحِق الأباعد بالأداني وتَلْحَم الأسافل بالأعالي."
إن المعضلة، كما يطرحها ابن عربي، هي معضلة الوجود المعرفة. وهي أكبر من أن تتسع لها اللغة العادية الاصطلاحية المتداولة – كما يقرِّر الباحث. ولذلك لا بد من استخدام لغة رمزية جديدة تتغلب على هذه المعضلة وتنفذ من إطار سجن اللغة العادية الضيق. ولكن اللغة الجديدة لابد أن تتسم ببعض الغموض. وهذا عائد في رأي ابن عربي نفسه "إلى ما تعطيه الألفاظ من القوة في أصل وضعها، لا ما هو عليه الأمر في نفسه عند أهل الأذواق". وهذا يعني أن الأصل – أصل الحقيقة المعرفية – هو الذي يقرِّر اللغة المناسبة له، المطابقة لسيرورته الباطنية؛ إذ الحقيقة هنا مجموعة مستترة إلاَّ عمَّن مَنَّ الله عليهم بالكشف. هنا تكمن تأويليَّة ابن عربي للقرآن. بوصفه لغة إلهية تتسع رحابتها للوجود كله، وللإنسان كله، بما هو علة هذا الوجود.
والموازاة بين القرآن والوجود والإنسان تؤدي إلى تحرر العارف، في فهمه للنص القرآني، من حدود المعطيات اللغوية المباشرة، حيث يمكن له أن يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل. ولا تصبح العلاقة بين العارف والنص – في ظل هذا الفهم – علاقة انفصال، بل هي علاقة توحُّد، منظوراً إليها من جانبين وباعتبارين. إن العارف يقرأ في القرآن الوجود بأسره، كما يقرأ فيه نفسه ومعارفه، إذ الوجود كلمات الله، والعارف – أو الإنسان الكامل – هو كلمة الله الجامعة.
العارفون، بحسب ابن عربي في الفتوحات 4/161، يدركون حقيقة أن الله هو المتكلِّم على كل لسان: "فكل قائل عندهم فليس إلاَّ الله، وكل قول علمٌ إلهيٌّ. وما بقيت الصيغة إلا في صورة السماع من ذلك، فإن ثَمَّ قول امتثال شرعاً وقول ابتلاء، فما بقي إلا الفهم الذي به يقع التفاضل."
العارف، إذن، يرى الوجود كله كلمات الله، ويرى كل كلام في الوجود كلاماً لله. وهذا الكلام الوجودي ينقسم إلى ما يجب امتثاله شرعاً – وهو كلام الله المباشر بالأمر والنهي، وما يُعَدُّ ابتلاء – وهو كلام كل متكلِّم في الوجود. هذا الكلام–الابتلاء قد يكون خيراً وقد يكون شراً، والفهم هو الذي يفرِّق بين هذين المستويين. إن استماع الصوفي للكلام – أياً كان الناطق به –
يعتمد على الفهم. والاستماع والفهم مصطلحان يدلان على معنى واحد، فيستطيع التفرقة بين الكلام الذي يجب امتثاله – وهو الكلام المباشر – وبين الكلام الابتلاء – وهو كلام الله من خلال المتكلِّمين. الكلام الذي يجب امتثاله هو كلام الله على لسان المرسل بالوحي المُنزَل؛ أما كلام الابتلاء فهو كلام الله على ألسنة البشر وغيرهم من الكائنات. والصوفي قادر على سماع هذا الكلام كله، وقادر، في الوقت نفسه، على أن يميِّز بين مستويات الكلام ومراتبه (ص 279).
منذ الابتداء، يوضِّح الباحث المقصود من التأويل القرآني عند ابن عربي. وهو يرمي بذلك إلى محاولة إزالة ما يلتبس العلاقة بين التفسير والتأويل. ذلك أن الفارق بين الاصطلاحين جوهري – لاسيما إذا جرى التعامل معهما بمعناهما ومفهومهما الشائع. ومع ذلك، فإن كثيرين ممن يفرِّقون بين تفسير القرآن لدى شيوخ الشريعة والفقه واللغة، وتأويله لدى شيوخ الصوفية، يقعون في لبس إضافي. أغلبهم يُعْلي من شأن التفسير ويغضُّ من قيمة التأويل على أساس من موضوعية الأول وذاتية الثاني.
الموضوعية في الحالة الأولى موضوعية تاريخية تفترض إمكان أن يتجاوز المفسِّر إطار واقعه التاريخي وهموم عصره، وأن يتبنى موقف المعاصرين للنص، ويفهم النص كما فهموه في إطار معطيات اللغة التاريخية عصر نزوله. ومثل هذا التصور يقع في تناقض منطقي من الوجهة الدينية الاعتقادية التي ينطلق منها أصحابه؛ إذ النص عندهم صالح لكل زمان ومكان لأنه يحتوي كل الحقائق ويعد جماعاً للمعرفة التامة. ومثل هذا الاعتقاد يتناقض تماماً مع القول بضرورة اعتماد المفسِّر على المأثورات المرويَّة عن الجيل الأول أو الجيل الثاني على الأكثر، والوقوف عند فهمهم وتفسيرهم للنص.
ولكي يحلَّ أصحاب هذا التصور مثل هذا التعارض المنطقي، ذهبوا إلى أن المعرفة الدينية لا تتطور، وأن جيل الصحابة والتابعين قد أوتوا المعرفة الكاملة التامة، فيما يتصل بالوحي ومعناه، وأن التمسك بمعرفتهم هو العاصم من الزلل والانحراف. وهكذا انتهى الأمر بهم إلى عزل المعرفة الدينية عن غيرها من أنواع المعرفة، من جهة، وإلى إنكار تطور المعرفة الإنسانية، من جهة أخرى. وهنا يعطي الباحث دليلاً تاريخياً نموذجياً على هذه الحالة ابن تيميَّة وتلميذه ابن القيِّم حيث هما من أكبر ممثلي هذا الاتجاه .
والإشارة إلى هذا الاتجاه التفسيري ضرورية لكي يستقيم البحث في التأويل من وجهة نظر الصوفية وعلى التعيين من وجهة نظر شيخهم الأكبر ابن عربي.
ويبرِّر الباحث اختيار ابن عربي دون سواه من المتصوفة والفلاسفة لدراسة التأويل بثلاثة أسباب رئيسية:
الأول: أهمية ابن عربي ودوره في تاريخ الفكر الإسلامي.
الثاني: إن دراسة ابن عربي نفسه تثير بشكل واسع معضلة التأويل، كما تنعكس هذه المعضلة في التفسيرات المختلفة والمتعارضة أحياناً التي عرضت لفكر ابن عربي وقيمته.
الثالث: إحساس الباحث المبكر، الذي أكدته الدراسة، أن التأويل عند ابن عربي ليس مجرَّد وسيلة في مواجهة النص، بل هو منهج فلسفي كامل ينتظم الوجود والنص معاً. حين أن ابن عربي يطرح لنا فلسفة في التأويل قد تساعدنا على كشف الجوانب المشابهة في فكر غيره، سواء السابقين عليه أو التالين له.
لقد جرى تقسيم البحث إلى ثلاثة أبواب، والأبواب إلى فصول بحسب اقتضاء الحاجة العلمية.
الباب الثاني خُصِّص للتأويل والإنسان، وذلك من خلال تحليل مستويات ثلاثة في تصور ابن عربي لعلاقة الإنسان بالوجود. الأول، هو علاقة الإنسان بالعالم، أي تحليل جوانب الاختلاف بين الإنسان والعالم من حيث ظاهره الذي يتماثل مع حقائق الكون ويضمُّها في كيانه الصغير.
والثاني، دراسة الجانب الباطن في الإنسان ومماثلته لحقائق الألوهة، من حيث إنه خُلِقَ على الصورة الإلهية وجمع في حقيقته وباطنه حقائق كل الأسماء الإلهية التي توجَّهت على إيجاد العالم.
والثالث، تعرُّض لمعضلة المعرفة الإنسانية وتأكيد ابن عربي على أن المعرفة لا تتم إلا بتجاوز ظاهر الإنسان – وهو ظاهر الكون – إلى باطنه الروحي الإلهي من خلال رحلة خيالية.
الباب الثالث والأخير، مكوَّن من فصول ثلاثة: يهتم الفصل الأول بتحليل العلاقة بين القرآن والوجود، وتماثُل مستويات النص القرآني مع مراتب الوجود الأربعة، وتماثلها مع مراتب العارفين.
والفصل الثاني خُصِّص للُّغة والوجود؛ وفيه محاولة تحليل مفهوم ابن عربي للُّغة في جانبيها الإلهي والإنساني، بدءاً من المستوى الصوتي للغة، وانتهاءً إلى مستوى التركيب. وجرى التركيز في تحليل الجانب الدلالي على تأكيد ابن عربي على ذاتية العلاقة التي بين الدال والمدلول في اللغة في جانبها الإلهي. وهي العلاقة التي لا يكتشفها إلا الصوفي، ومن خلال اكتشافها يرى القرآن في ضوء وجودي أشمل.
وقد كان الفصل الثالث والأخير عن قضايا التأويل وفيه تحليل مفهوم التنزيه والتشبيه، والمُحكَم والمُتَشابه، والجبر والاختيار، والثواب والعقاب. وهي مجرد نماذج لا يمكن الادعاء – بحسب الباحث – أنها تستوفي كل الجوانب التطبيقية لتأويل القرآن في فكر ابن عربي.
*** *** ***
مقدمة النفري
المنهج النقدي عند يوسف سامي اليوسف: مقدمة للنِّفَّري... ارتياد العلو مع المنهجية الصوفية ماهر اليوسفي..
ينسجم الناقد يوسف اليوسف مع منهجه النقدي الذي بدأ مشواره منذ السبعينيات، مراكِماً بدراية وعناية كل جديد في دراساته ومؤلفاته النقدية لما في ذلك من رؤيا عالية الوقار لا تنتهي عند كشف النصوص الصوفية، بل تتخطى ذلك في الشعر والشعراء التراثيين والمعاصرين، إضافة لدراساته النقدية المتنوعة في الأدب المعاصر. ومؤلفه الجديد مقدمة للنِّفَّري، الصادر عن دار الينابيع بدمشق، يُعتبَر بحق من أهم الكتب التي استعرضت وشرحت صاحب المواقف والمخاطبات. إذ إن المكتبة العربية تفتقد إلى مؤلفات كهذه. وبدوره قام هذا الناقد الفذ، بلغته الممتلئة ورؤيته النافذة، بقول ما لم يقله أحد بعد عن النِّفَّري، وكان السبَّاق إلى ذلك دوماً منذ إصدار كتابه مختارات في بداية الثمانينات، وبعدها كتيِّب ابن الفارض شاعر الحب الإلهي. وها هو ذا يعود ليضيء التراث الصوفي – ومع النِّفَّري تحديداً – بـ "مقدِّمته" الرائعة.
وفي تعريفه للـ"موقف" النِّفَّريِّ، يقول اليوسف: "إنه القبض على تفتح الذات عن الوجود الداخلي الصرف الذي تكتنزه منذ الأزل، إنه انكشاف مخبوءات الذات والوجود وعوالمها أمام الذات نفسها. ففي قناعة النفري أن الواقف على الحق وفي الحق يعرف من داخله ولا تنبجس معارفه إلا من أشواقه وأذواقه. أما غير العارف وغير الواقف فلا تأتيه معارفه إلا من الأشياء."
وجديد القول عند الدخول في عالم الاستبصار الصوفي هو أن الدراسات التي خصَّصها العالم العربي للتراث الفذ الذي تركه محمد بن عبد الجبار النِّفَّري، المتوفى عام 345 هـ / 965 م الذي لا نعرف عن مسيرة حياته سوى النزر اليسير، ظلت شحيحة. ولم يكن هذا الشحُّ من قبيل المصادفة. فعلى حد تعبير الناقد أن النصوص النِّفَّرية قد أوغلت في التجديد والعلوِّ إلى حد جعلها غريبة عن الذهن الحديث الجانح إلى العزوف إلى المتعاليات.
أثناء مطالعتنا للـمقدمة نلمس بوضوح تبيان الاختلاف ما بين النِّفَّري وباقي أعلام الصوفية، من ابن عربي والحلاج وابن الفارض وغيرهم. فالخطاب النِّفَّري يختلف كثيراً عن الموروث الصوفي العام، بوصفه "حواراً بين طرفين يجمع المثنويات، أولهما مطلق وثانيهما محدود".
ويوغل الناقد يوسف اليوسف في أعماق النصوص الصوفية لاستكشاف رؤيتها لتصب في كنه الذائقة والمعنى على السواء. ففي قراءته للنص يقول: "قاعدة النِّفَّري تتلخص في أن الإنسان، أو العالي والكامل من البشر، موصول ومحاط بالرعاية دوماً. فإن في ميسورك النظر إليه بوصفه بطلاً يرود واقعاً سماوياً لا حياة للروح إلا فيه، أو بواسطته وحده، إذ لاريب في أن الرجل يأنف من العالم الخارجي، بل هو يمقت كل ما ينزع إلى التجسُّد." ولكن إذا ما نظرنا إلى الأسلوب الذي يمتاز فيه النِّفَّري عن غيره فإننا نكاد نقرأه قراءة سطحية وتقليدية برغم صعوبة النص. ويأتي الناقد بدوره شارحاً محتوى الأساليب التي سنستعرضها لاحقاً. يقول اليوسف: "لعل ما يميز أسلوب النِّفَّري أنه ينبثق من طاقة حدسية لا مصدر لها سوى الراقة السرية الراخمة في أعماق النفس البشرية؟ وللحق أن كل ما هو أصلي ينبثق من جذر حدسي يتعذر إدراكه بواسطة المفاهيم والتصورات الذهنية. وبفضل هذا الزخم الاستبصاري استطاع الرجل أن يحيل اللغة المنثورة إلى شعر أو إلى برهة تتوسط بين الشعر والنثر، بل توفق بينهما على نحو مدهش."
جوهر الصوفية نشأت الصوفية على شعور الاغتراب. وهذا جذرها الأول. إنها تقوم على أساس عريق في إظهار المستور والكشف عن الحقائق. ويعتمد المؤلف هنا في تحليله تعريفاً يقوم على رؤية تجعل من حقيقة مقولة "الكون الساقط" التي أوجبت القول بالاغتراب بسبب عدم تجانس الروح والمادة، أساس الأسس في فهم الصوفية، في عواملها الذاتية حصراً. فلقد ذهب أحد الصوفية إلى تعريف التصوف بأنه "النظر إلى الكون بعين النقص". يقول اليوسف: "إن الصوفية بهذا المعنى دفاع ضد الخواء ومحاولة جلَّى لإيلاج الملاء في صميم العالم..." ويحدد بأن الصوفية لا تفهم الحرية إلا من حيث هي الله نفسه، مثلما أنه لا تفهم الله إلا بوصفه الحرية الخالصة. ولكن ما هو واضح تماماً أن الصوفية تربط الحرية بالتمرد على المعطى، أو على الكون وقوانين الطبيعة وكذلك على المجتمع وما يسوده من قوى تاريخية ومادية.
ومما هو معلوم أن الصوفية دفعوا ثمن تمردهم باهظاً. فهم مضطهَدون على الدوام. كما أن رفض الصوفي للعالم هو أساس الحرية الصوفية.
ومما هو جدير بالملاحظة أن اليوسف يذهب في دراسته إلى جوهر الصوفية الخالص في بناء مقارنة لإظهار مفارقة جديرة بالتنبه. يقول: "ومن وجهة نظر صوفية، لا يجوز للمرء أن يعرِّف الإنسان بأنه الكائن الذي هو برسم الموت. وهذا تعريف وجودي يسعك أن تستخلصه من كتاب الوجود والزمان للفيلسوف الألماني مارتن هايدغر. فالصوفية الأصلية أو النقية لا ترى في الموت إلا الدرب التي تفضي إلى المحبوب أو إلى الوطن المقصود. ولهذا فقد عمد بعض الصوفية إلى صنع عرس لمن يتوفى منهم. وهذا مأخذ أخذه عليهم ابن الجوزي في تلبيس إبليس وهو كتاب خصصه لدحض الصوفية وإدانتها."
وقد تباينت آراء النقاد المهتمين والمختصين في التراث الصوفي في تعريفهم للصوفية ذلك منذ القدم. فبخصوص الأصل الذي جاءت منه كلمة "صوفية"، كما يبيِّن المؤلف في كتابه، ارتكبت الآراء النقدية أغلاطاً كثيرة، ولاسيما عند أولئك الذين عرَّفوا الصوفية بأنها مشتقة من كلمة صوفيا Sophia – وهي لفظة يونانية معناها الحكمة.
يقول اليوسف: "فإن كلمة الصوفية مشتقة من لفظة "الصوف" دون أدنى لبس. ولقد تنبه بعض القدماء من الصوفيين إلى هذا الأمر وذكروا ذلك صراحة في بعض الأحيان، فقال السهروردي البغدادي في عوارف المعارف: "إنهم سُموا صوفية نسبة إلى اللبسة، لأنهم اختاروا لبس الصوف لكونه أرفق ولأنه كان لباس الأنبياء عليهمأأ السلام," ثم أضاف: "وهذا الاختيار يناسب الاشتقاق، لأنه يقال "تصوَّف" أي لبس الصوف، كما يقال "تقمَّص" أي لبس القميص..." ولقد أيَّد ابن خلدون هذا الرأي في المقدمة. ويضيف المؤلف: "إن كلمة الصوفي هي نسبة عربية صحيحة. والجدير بالتنويه أن الجنيد حين رسخ الأركان الثمانية للتصوف قد جعل لبس الصوف واحداً منها. والحقيقة أن الصوفيين ما لبسوا الصوف لوفرته في المجتمعات الرعوية وحسب، ولا لخشونته بحيث يصبح أداة لتحقيق الرغبة في إذلال النفس والجسد وكفى، بل لأن الصوف رمزية مستترة في جوهر الشأن. فكلُّنا يعلم أن الأغنام التي يؤخذ منها الصوف هي الحيوان الذي يغلب استخدامه ضحية للإله منذ عهد قديم. وعلى أية حال فإن لبس الصوف ينطوي على نزعة قربانية. ومما تشير إليه المصادر الصوفية أنه كان من لباس السيد المسيح، وهو من كان لقبه "حمل الله" [agnus Dei]. ومن شأن هذا المعنى أن يعزز العلاقة القائمة بين الصوف والقربان، وأن يؤكد أن لبس الصوف قد كان رمزاً ذا دلالة عميقة في مرحلة من مراحل التاريخ القديم."
ولعل فهمنا يتزايد مع الصوفية في حالة الاستنطاق الذاتية. يوضح مؤلف المقدمة أن ثمة فكرتين مهمتين لا تملك أن تفهم الصوفية إلا بهما: "أما الأولى، فخلاصتها أن الروح في المنفى، وأن صبوتها إنما تنصب على موطنها الأصلي الذي هو." وأما الفكرة الثانية، "فمؤداها أن مقولة "الوجد الصوفي" هي المقولة السيدة في كل تجربة صوفية نقية أو أصلية. والوجد والوجدان تشتقهما اللغة العربية من مصدر ثلاثي واحد كما تشتق كلمة "الوجود" من المصدر إياه. وهذا يتضمن ما فحواه أن الوجد هو الوجود على الأصالة، وأن كل حياة بغير وجد هي حياة الاتِّضاع. وما الاتِّضاع والغثاثة سوى الافتقار إلى الماهية والأصالة."
بهذا تقودنا تعريفات يوسف اليوسف إلى مبنى ومعنى بذات الوقت في المفهوم الصوفي. وبرأينا أن الرجل قد أجهد نفسه في النظر إلى الأعماق والجوهر، ربما في نظرة التأمل الذاتي التي من شأنها أن تدخل بواطن الأشياء بمنهجية الرؤية النقدية عنده، التي شقها على نحو عسير وبصلابة وكبرياء. وهنا تقودنا هذه النظرة إلى استخلاص جوهره: "حين يرفض الصوفي الدنيا يتجرد لتجربة الوجد أو تجربة الوجدان والوجود الأصيل، فإنه لا يرفض شيئاً إلا غربته ومنفاه وخواء الكون وضحالته، ولكنه في الوقت نفسه يعزِّز حنينه المنهوم إلى الوطن الحقيقي الذي لا يشعر بالسكينة والطمأنينة والحرية والألفة إلا إذا دخله واستقر فيه إلى الأبد. وههنا بالضبط يتبدى الإنسان بوصفه الكائن المتناهي الذي يشتاق إلى اللانهاية، والزائل الذي تتصبَّاه الديمومة."
الصوفية وعصر النِّفَّري يشير المؤلف إلى أن التصوف الإسلامي قد نشأ في النصف الجنوبي من العراق، أو حصراً في الكوفة والبصرة. فعلى هذا الإقليم ازدهرت أقدم الحضارات في التاريخ البشري، ولاسيما الحضارة السومرية والأكادية والبابلية. ولقد كانت بابل هي عاصمة الديانة المانوية ومركزها المقدس. إذ صُلِب ماني في تلك المدينة التي أصبحت بعد موته عاصمة المانوية تماماً. ولقد نمت الثقافة في الكوفة خلال النصف الأول في القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي، ولا أدل على ذلك من ظهور مدرسة النحو الكوفية، ومن كون تلك المدينة مركزاً للشعر العربي آنذاك. وإن ثمة إجماعاً بين المهتمين بتاريخ الصوفية على أن أبا هاشم الكوفي، المتوفى عام 150 هـ / 768 م، هو أول مَن سُمِّي "الصوفي" في التاريخ الإسلامي كله. وقد جاءت الصوفية الإسلامية كرد فعل على الفساد المتفشي آنذاك، وكان الطابع الغالب على الصوفيين الأوائل هو الطابع الأخلاقي، كما جاءت كتابات المحاسبي (المتوفى 857 م)، الذي هو رأس المدرسة البغدادية في التصوف وأول المؤلفين. وقد سُمِّي الحارث بن أسد بـ"المحاسبي" لأنه اعتاد على محاسبة نفسه. "ظهرت صراحة في النصف الثاني من القرن الثاني الهجري أو الثامن الميلادي. ففي هذا الطور عاشت رابعة العدوية، وهي امرأة من البصرة توفيت عام 185 هـ / 801 م، بعدما استطاعت أن تؤسس التراث الصوفي المكتوب لأول مرة في تاريخ اللغة العربية. وللحق أن التراث الصوفي قد بدأ مع هذه المرأة البصرية، إذ إنها تركت أشعاراً وجدانية. ولعل أهم ما في أمرها أنها زودت الصوفية بركيزتها الوجدانية، وأقصد مقولة الحب الإلهي الذي يفضي إلى كشف المحب وتجلِّي جمال المحبوب."
وعند مطلع القرن الثالث الهجري، كان التصوف قد انتشر في الكثير من البلدان الإسلامية كما ظهر ذو النون المصري وأبو يزيد البسطامي، وهما من أكابر رواد الصوفية المتطورة. وقد أصبح التصوف البغدادي في تلك الفترة عبئاً على الدولة وبعض رجال الفقه. وتشير بعض المصادر إلى محنة حلت بالصوفيين البغداديين في أواخر القرن الثالث الهجري. وكانت مدرسة بغداد الصوفية بزعامة الجنيد الذي كانوا يسمونه "سيد الطائفة" قد اتخذت من التوحيد موضوعاً محورياً لأقوالها وأبحاثها. وقد تلاشت هذه المدرسة بعد مقتل الحلاج سنة 309 هـ / 922 م. ويبدو أن محنة الحلاج كانت درساً قاسياً للصوفيين طوال قرون عديدة. ولا ريب في أن النِّفَّري وُلد في هذه الآونة، وربما شهد مقتل الحلاج. وهو ينتسب إلى بلدة نِفَّر (نيبور) القريبة من بابل والكوفة. وبدوره، التزم النِّفَّري بمبدأ الحذر والتنبُّه والتحفظ على ما يكتبه. وربما كان هذا السبب هو الذي جعله مجهولاً عند كتَّاب عصره البارزين.
الينبوع الأول وفي ظهور التأثيرات وحضور الصفات في النصوص النِّفَّرية، يقول اليوسف: "كثيراً ما تُعنى هذه النصوص بجدل الأضداد والمثنويات المتقابلة والمتنامية." فقد كتب النِّفَّري في الموقف الخامس: "وقال لي: إن علمت علماً لا ضد له / وجهلت جهلاً لا ضد له / فلست من الأرض ولا من السماء." ويوضح اليوسف: "إن الديانة المانوية هي ديانة تضاد بامتياز. إذ يعتقد المانويون – بتأثير من الديانة الزرادشتية – أن ثمة صراعاً أبدياً بين النور والظلام أو بين الخير والشر. وما يميز هاتين الديانتين المتأثرتين بالثقافة الهندية هو ميلهما العميق للزهد وازدراء المادة. وقد استمرت الديانة المانوية في الوجود حتى القرن الثالث عشر الميلادي.
وفي الموقف النِّفَّري تنبثق الرؤيا: "إن الرؤيا في نهاية المطاف في المنهج النِّفَّري لا تختلف كثيراً أو قليلاً عن مقولة "الاستنارة" البوذية هذه. والجدير بالتنويه أن كلمة "بوذا" تعني المستنير أو الفرد الذي رأى الحقيقة الكلية برمتها." كما يورد مقارنة في معرض رأيه النقدي حول مصدر الرؤية النِّفَّرية بقوله: "مما هو جدير بالتنويه أن الديانة الجانيسية التي أنشأها الحكيم الهندي مهافيرا في أواسط القرن السادس قبل الميلاد تذهب إلى خمسة مستويات للاتصال وهي: العلم والمعرفة الرمزية والتبصُّر ومعرفة أفكار الآخرين ومعرفة الأفكار الشاملة. أما النِّفَّري ، كما نرى، فيعتقد بوجود ثلاثة مستويات للاتصال بالحقيقة وهي العلم والمعرفة والرؤية." وهنا يتوضح الفرق الحاسم بين النِّفَّري وابن عربي: فكلا الرجلين يستهدف الأحادية، إنما يبتغيها كل منهما عبر منهجه الخاص. فبحسب المؤلف: "فالأول ينجزها عبر حذف الطبيعة أو المادة بغية الإبقاء على الماوراء. أما الثاني فلا ينجزها إلا عبر حذف هذا الماوراء نفسه، أو عبر إدراجه في المادة أو في الطبيعة."
الوقفة والرؤية.. اللغة والمعرفة..
تتضح الغاية التي يجهد من أجلها النِّّفَّري في مضمار الرؤيا بأنها غاية من غايات الروح التي لا خروج للإنسان من شقائه إلا بها. ففي قوله: "الواقف فرد والعارف مزدوج" تأكيد على هذه الحقيقة. ويقودنا تحليل اليوسف إلى أن النِّفَّري شديد الاهتمام بمثنوية الوحدة والانشطار. فهو يصرح في الموقف التاسع: "وقال لي: رأس المعرفة حفظ حالك التي لا تقسمك / فإذا انقسمت فما أنت بالعارف ولا بالواقف." ويورد أيضاً: "وقال لي: ليس من أهل الغيبة مَن لم يكن من أهل الرؤية."
ويقول صاحب المقدمة في استخدام كلمة "السوى" التي يردِّدها النِّفَّري كثيراً: "ما من صوفي عمد قبل النِّفَّري في استعمال كلمة "السوى"، وهو الذي ابتكرها وجعل منها اسماً بدلاً من استثناء. والأهم من ذلك أن صاحب المواقف والمخاطبات قد اتخذها مصطلحاً من مصطلحات مذهبه وعقيدته. وكما جاء في الموقف التاسع والثلاثين: "والكون كله سواي" أو "يا عبد، المفازة كل ما سواي" وقال لي: "إن تبعك السوى وإلا تبعته"."
وعن تجربة النِّفَّري في اللغة يقول: "إنه قلَّ أن يتمتع بمثلها أي كاتب عربي آخر. فهو شديد القدرة على التعبير حتى لكأنه قد سَحَر الألفاظ فصارت تأتيه طوعاً لا كرهاً." يقول النِّفَّري في الموقف الثامن والعشرين: "وقال لي: كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة / وقال لي: العبارة ستر فكيف ما ندبت إليه." وكما جاء في مخاطبته: "يا عبد الحرف ناري الحرف خزانة سري / الحرف يعجز عن أن يخبر عن نفسه، فكيف يخبر عني." وفي منظور النِّفَّري أن الإنسان لا يبلغ إلى أصالته وغاية اكتماله إلا بالرؤيا. وحول جدلية الوقفة والمعرفة يقول: "إذا عرفت الوقفة لم تقبلك المعرفة." "وقال لي: الوقفة روح المعرفة والمعرفة روح العلم والعلم روح الحياة." "كل واقف عارف وما كل عارف واقف."
تحليل محتوى الأساليب ثمة فرادة يتميز بها صاحب المقدمة في طريقة تحليل الأساليب. وخلفية محتوى كهذا تقوم على أن اللغة العربية والكتابة عموماً قد شهدت في زمن النِّفَّري تطوراً على صعيد النثر والشعر. ويشير المؤلف من خلال تنقيبه ومكتشفاته في عمق النصوص الصوفية إلى أن الحلاج قد سبق النِّفَّري إلى تثوير النص الصوفي من جوانبه الشكلية والفنية، متأثراً بما حدث قبله من ثورة في ميدان الشعر على أيدي رجال من أمثال النواسي وأبي تمام. وأثناء قراءته لنصوص النِّفَّري يلاحظ ما فحواه أن ذلك التراث الصغير الكمية لم يكتب بأسلوب واحد بل ربما هناك أربعة أساليب فنية متباينة. يقول أيضاً: "الغريب أن المقدمة التي كتبها آرثر يوحنا آربري، وهو محقق كتابي المخاطبات والمواقف ومترجمها، لم ينتبه إلى هذه الظاهرة، مع أنه قد أوغل في الأناة حين قرأ المخطوطات السبعة التي استخلص منها النص المنشور. وفي الحقيقة أن ثمة بعض الخطورة في الأمر، إذ هناك بعض النصوص المدسوسة على النِّفَّري التي ليست من تأليفه قط، بل ليست من تياره على الإطلاق." أما الأساليب الأربعة التي يوردها المؤلف فهي:
- الأسلوب المباشر الرائق الصافي الخالي من كل تعقيد.
- الأسلوب التجريدي الجاف.
- الأسلوب الموحي.
- الأسلوب الرمزي المدسوس.
وحول موضوع الخيال يعتبر اليوسف أن معظم الصوفية التراثيين هم أكثر أهل التراث اعتناءً، لا بصياغة الأخيلة والصورة الفنية فحسب، بل بمفهوم الخيال نفسه. والحقيقة أن محتويات الصوفية كلها ليست سوى أخيلة. ويقول أيضاً: "في الصوفية قبل سواها يكف العلوُّ على أن يكون مجرد عقيدة أو نظام تشريع أو موضوعاً برسم التفكير ويتحول إلى تجربة شخصية أصيلة تنزع صوب الغبطة الصافية التي من شأنها أن تنعش الروح بما تنطوي عليه من وصال في السرِّ الحميم."
إن ثمة تأكيداً عند اليوسف على مسألة اللغة التي يستخدمها الصوفية. فالكاتب الحدسي، أكان النِّفَّري أم سواه، يسلخ اللغة من حيث المألوف ويضفي عليها مسحة ميتافيزيقية أو أسطورية: "وقال لي: معلوم العلم الوجود ومرئي الرؤية الذات." ناهيك عن أن شهرة النِّفَّري لم تأتِ بسبب أفكاره بل بفضل خياله. ولهذا السبب صار تراثه ملهماً للشعراء في هذه الأيام.
إن النِّفَّري، كما يقول اليوسف في الخاتمة، "هو الحضور الغزير لروح الحرية المنداحة في الفسحة التي لا يملك أن يرتادها سوى أصحاب القامات الشاهقة. وهم سوف يتعرضون دوماً للسرقة والمحاكاة والتقليد من قبل الضعفاء. وبما أنه يتوسل الخيال والصورة السريالية وروح الأسطورة ليصوغ الرؤية الباذخة النادرة، فقد جاءت نصوصه أشبه بالتمائم أو الرقى التي يأهلها روح الغموض. ولهذا السبب قد التبس النِّفَّري في بعض الأحيان واستعصى على القراءة."
لقد أجاد اليوسف في شرحه للنِّفَّري وتقديم رؤياه لما يتمتع به هذا الناقد، صاحب المقدمة، من رؤية نافذة إلى عمق النص الصوفي الذي قدمه بأسلوب ساحر ولغة جذابة طازجة تبعث الحياة والروح في داخل النصوص. وهو السبَّاق دوماً قبل غيره إلى تقديم قراءة جد ناضجة من صلب منهجه النقدي. ولعل التراث الصوفي الأدبي لا يدين في عصرنا لأحد دينه لمنهج هذا الناقد والمعلِّم الكبير: يوسف اليوسف.
*** *** ***
أسماء الله الحسنى
"تحتل أسماء الله الحسنى مكانة خاصة لدى المتصوفة. ولا تزال الخلوة الأربعينية القاسية الموصى بها منذ العصور المبكرة تمارَس حتى اليوم. وفي القرن التاسع الميلادي نسمع للمرة الأولى عن حفلات موسيقية كانت تقود أحيانًا إلى رقص ووَجْدٍ وجذب دائري. بيد أن المتصوفين الأكثر حصانة ورصانة نظروا إلى ذلك بريبة." . وعن الحلاج، شهيد الحب الإلهي، تقول: "لا يزال شعراء العالم الإسلامي يتغنون بمصير الحلاج، العاشق القائل بمذهب وحدة الشهود والثائر اجتماعيًّا، الذي يدين الشعر الألماني له، باعتباره الفراشة التي تلقي بنفسها في اللهب لتتذوق تجربته أو معاناتة "مماتي في حياتي وحياتي في مماتي"."
الصوفية – مشبِعة بمظاهرها لجميع طبقات الشعب: "وجد فنانو المدن والفلاحون وعشاق الموسيقى أو طالبو التأمل الروحاني في التصوف وطنهم الروحاني وراحتهم النفسية؛ وبذلك لعبت الطرق الصوفية دورًا مهما في نشر الإسلام." ويعود الفضل إلى الصوفية في أسلمة بلاد عدة مثل الهند وأجزاء من أفريقيا. وتعتبر شيمِّل أنهم دعوا إلى المبادئ البسيطة للإسلام بنموذج الحب، من دون التطرق إلى مسائل معقدة ودينية وفقهية.
ولقد كان من الطبيعي أن تظهر مؤثرات من ثقافات غير إسلامية في الفكر الصوفي: "ففي عصر باكر، قام مفكرون صوفيون باقتباس أفكار غنوصية وهيلينية ونظريات أخرى من ثقافات أقدم من الإسلام لدمجها في فكرهم." ونحو العام 900 كانت الصوفية قد طوَّرت هرمية معقدة من الأولياء. وفي القرن الثاني عشر نشأ تصوف نور دقيق Lichtmystik على المستويات الشعبية. و الطريقة المتبعة آنذاك في النظر إلى الأولياء بمرتبة القداسة، وتقول بأن أهمية تقديس الأولياء وتقديس الأضرحة كانت في تزايد مستمر؛ وتظهر في ذلك تأثيرات العادات الأجنبية غير الإسلامية في الممارسات التي تدل على أضرحة الأولياء، مما ساهم في استياء أهل السنة من المتصوفين، "إلى حين مجيء ابن عربي العام 1240 وإحداثه تقاليد مختلفة في المذهب الصوفي عبر أعماله؛ فكان نموذجًا للتصوف آنذاك، إذ صار معه لفظ "العرفان" يُعتبَر أحسن وصف للصوفية، فشيد بذلك صرحًا عالميًّا سيطر بسبب بساطته الظاهرية على الفكر الصوفي في صورة شبه كلِّية. وهو يعرف بمذهبه في "وحدة الوجود"، وقد طور نظرية "الإنسان الكامل".
وفي العام 1100 تطور في إيران نوع من وصفية الحب، اعتقد أصحابه برؤية رونق الجمال الإلهي في إنسان محبوب، وأمسى الحب العذري جسرًا للحب الإلهي. وشرع أدباء المناطق الإيرانية ومتصوفوها يستخدمون لغتهم الأم بدلاً من اللغة العربية، ونظموا فيها أشعار غزل رقيقة. وكان شرق إيران موطن أوائل أولئك الشعراء وأعظمهم .
ولكن أعظم شعراء الفرس في هذا المضمار هو مولانا جلال الدين الرومي (1207-1273) الذي هاجر مع والديه إلى الأناضول. وعن حبه الصوفي لجوَّال غامض لُقِّب بشمس الدين التبريزي تغنى الرومي بزهاء أربعين ألف بيت من الشعر في ديوانه شمس تبريز. وقد بلغت أشعاره قمة الوجد والانتشاء، وقصائده مفعمة بالموسيقى في غاية الروعة والجمال، برغم تلقائيتها. وقد ألف جلال الدين الرومي بعد ذلك منظومة المثنوي الصوفية التي تبدأ بالكلمات التالية: "أصغِ إلى الناي يحكي ويشكو ويتعذب من ألم الفراق." والناي هنا يتحول إلى رمز للنفس المنفصلة عن أصلها الإلهي . بعد ذلك، قام جلال الدين الرومي بتطوير الرقص الصوفي المحوري أو الدائري إلى طقس ديني مستقل، يرمز، وفق تأويله، إما إلى رقص النجوم أو إلى الموت والنشور.
فكأن "عرفان" ابن عربي و"غزل" الرومي الملتهب صاغا معالم الفكر الصوفي في العصور اللاحقة. ولا يمكن تصور الأشعار الفارسية من دون الجرعة المنعشة من الأفكار الصوفية، والمعنى المزدوج لكلِّ بيت هو الذي يجعله جذابًا منيرًا. والسؤال: هل كان ينبغي فهم حافظ الشيرازي كشاعر دنيوي أو كشاعر ديني؟ مطروح منذ قرون طويلة ولكن بالنسبة إلى المتخصص، فإن كلا المستويين صحيح. فالاستعارة جسر أو معبر للحقيقة، والأرضي رمز إلى السماوي.
كان للمذهب الصوفي أثر كبير في ثقافة العالم الإسلامي. فالصوفية عمقت الرسالة الأساسية للإسلام بالدفء والمشاعر الإنسانية وفتحت القلوب للجمال الإلهي. ونجد لدى مولانا جلال الدين الرومي أبسط وأجمل تعريف للصوفية: "ما هو التصوف؟" قال: "إحساس القلب بالسعادة حين يدنو وقت الحزن."
*** *** ***
الهندوسية، البوذية، الطاوية... ما الذي يفرِّق بين هذه الديانات أو العقائد، ولِمَ تتقاسم كلمات ذات معانٍ مختلفة: دهارما، سمسارا، كارما؟ هل يتخطَّى الجامع بينها الانجذاب إلى المسافات الواسعة، البحث عن البطء في مجتمع سريع، الهرب من أزمة المؤسَّسات الدينية نحو طرق إيمانية جديدة أكثر ليونة ظاهرياً، إلى التعاطف مع الدالاي لاما وقضية شعبه في التيبت؟
يوجِّه العالم الغربي أنظاره في كثافة نحو آلهة الشرق وحكمائه، حتى إن أكثر من خمسة ملايين فرنسي يهتمون بالبوذية أو يعتنقونها، وكثر يمارسون اليوغا أو التاي تشي تشوان في الحدائق العامة ويصغون إلى الذبذبات السماوية، أو يغرزون الإبر في أصداغهم. لكن هل يعرفون أن بوذا كان الأمير النيبالي سيدهرتا غوتما، وأن من سبقه كان أشد صرامة، ويُدعى جينَّا؟ هل يعرفون قصة مؤسِّس الطاوية لاوتسو الذي حبلت به أمه ثمانين عاماً وعاش مائتي عام؟
ممارسة هذه الديانات الوافدة من الشرق تتعدَّى سحر الشموع وروائح عيدان البخور ومزاج الـ"زِن" إلى اكتشاف عمق الذات من خلال رحلة داخلية بمرافقة مرشد أو غورو.
البوذية الشرقية :
على درب بوذا "اندفاع، تيقظ، ضبط للنفس، نظام... بفضل هذه العناصر يصنع الإنسان النبيه جزيرة لا يغمرها المد." لا يسعنا اختصار تعاليم البوذية كلها بهذه الحكمة، لكنها قد تسلِّط الضوء على الطريق الذي يسلكه الباحث عن الحقيقة على درب البوذا، هذا الأمير النيبالي الذي ولد في منتصف القرن السادس قبل الميلاد، والذي تخلَّى عن حياة القصر هرباً من السمسارا، وهي حلقة الولادة والموت المتكررة التي لا يمكن لأي هندي تجاوزها ما دام خاضعاً لقانون كارما ( الكارما هو الثمرة الأخلاقية لكلِّ كائن بشري بعد الموت ، ويستمر بالتقمص ).
بعد عشرة أعوام من التشرد الروحي، وجد الأمير الخلاص في اكتشافه اليقظة الكاملة والكلِّية، فأضحى بوذا، أي المتنوِّر أو اليقظ، وعلَّم الدهارما (الطريق نحو الحقيقة المطلقة والانعتاق) في شمال شرق الهند. في عامه الثمانين دخل في "انطفاء" كبير ومطلق. انتشرت عبادته في آسيا بدءاً من القرن الثالث قبل الميلاد.
تتلخص رسالة بوذا في أربع حقائق نبيلة:
1. حياتنا مليئة بالألم؛
2. ينبع هذا الألم من نفسية كل إنسان؛
3. في إمكان هذا الألم أن يتوقف؛
4. يكمن الحلُّ في اكتساب نظام معين وممارسة التأمل كي تتطور الحكمة.
الأمور التي نتعلق بها تفلت منَّا ذات حين مسبِّبة لنا العذاب، خاصة أننا نحاول السيطرة على كل شيء وعلى قانون الطبيعة الذي يفرض التحول. يحدد طريق البوذية هدفه بهدم هذا الصرح المبني على الوهم. على كل إنسان أن يتحرر من ألمه بالعمل ذهنياً على تغيير نظرته إلى الأمور. ولو شاء اعتناق البوذية عليه أن يضع ثقته ويتخذ ملجأه في بوذا، وفي الطريق الذي يعرضه عليه (الدهارما)، كما في جمعية ممارسي البوذية (سانغها).
ولكلِّ مدرسة بوذية أسلوبها، يتَّبعه معتنق هذه الديانة وممارسها. في التيبت أو اليابان، مثلاً، يمنح الراغب ثقته لراهب أو معلِّم، فيركع ويلفظ نذوره ثلاث مرات قبل أن يقتطع له المعلِّم خصلة من شعره رمزاً للتخلِّي والزهد. وتتعدى البوذية شعار "الحب والسلام" عبر التأمل كما هو مفهوم في الغرب، إلى ممارسة صعبة لهذه الديانة، بغية الوصول إلى اليقظة عبر احترام الآخر وعدم الاستسلام. كما يتم ترويض الموت بإخماد الألم (النيرفانا)، ويتضمن انطفاء نار الأهواء النفسية الرديئة والشهوات والتعلقات البشرية والشخصية، فيصل بالإنسان إلى الاستنارة والسعادة من خلال سلام الفكر والروح. يقترب مفهوم العراك المعنوي ضد الغرائز في البوذية من الجهاد الداخلي لمتصوفة الإسلام ويتضمن مبدأ اللاعنف في حقِّ أي كائن حي.
كي ينتصر على الشيخوخة، وعلى البؤس والمرض، على البوذي أن يعيش في طريقة صحيحة، متواضعة وكريمة، وأن يطمح إلى أن يكون قديساً، أو في الأقل أن يدخل جمعية الرهبان. ورغم الانقسامات التي طرأت على البوذية، ازدهرت هذه الديانة في شبه القارة الهندية وحلَّت في المرتبة الأولى مع بداية زمن المسيحية، محرضَّة ردة فعل هندوسية تجديدية، انتهت باسترجاع الهندوسية مكانتها السابقة في الهند وبإخلاء الهند من البوذية إخلاء يكاد يكون تاماً.
الهندوسية الشرقية :
الهندوسية تُعتبَر الهندوسية استمراراً للديانة الفيدية، وهي توحيدية متعددة الشكل، انتشرت منذ ألفي سنة قبل الميلاد. كانت تدعى أساساً البرهمانية، وترتكز على كتب الفيدا الطقوسية الأربعة التي كتبها الراؤون بالسنسكريتية، وتناقلتها التقاليد، منظِّمة الحياة الفردية والاجتماعية. يحافظ الرهبان البراهمة على النصوص والطقوس المقدسة ذات البعدين الكوني والاجتماعي والمؤدية إلى تحقيق الدهارما.
براهما هو الإله المطلق الأساسي في الهند، وهو بعيد جداً إلى حدِّ أنه لم يبقَ له فيها معابد؛ ويؤثَر عليه الهنود شيفا، مدمِّر الأشكال ومجدد الكون عبر رقصته الكونية. أما فيشنو فهو رسول دائم ومستمر، حافظ الخير ومصحِّح الشر، يتجسد على الأرض ليعيد النظام فيها إلى نصابه. بالنسبة إلى الهندوسية، كريشنا هو الرسول الثاني، وبوذا هو التاسع؛ أما العاشر فلا يزال مجهولاً، لكن بعضهم يرى فيه يسوع المسيح والبعض الآخر محمداً. فالهندوسية تستطيع أن تدمج في ديانتها المعتقدات الدينية الخارجية، محافظة على ركنيها الأساسيين وهما: الذبيحة والتقمص.
يصحِّح أحد الشيوخ الروحيين للهندوسية، شري شري رافي شنكر، نظرة الغرب إلى ديانته، مؤكداً على أن الهندوسية تعترف بإله واحد يتجسَّد في أشكال ومراحل مختلفة من التاريخ البشري، متخذاً أسماء ولغات وتعاليم مختلفة، تبعاً لحاجات كل زمن، معتبراً في المقابل أن الديانات التوحيدية الأخرى حرمت الله تنوعه وحوَّلته إلى إله أوحد، تعسفي ومتطلِّب. ويضيف أن الهندوسية تهب معتنقيها الحرية المطلقة في سلوك الطريق التي يجدونها الأفضل لبلوغ الله، من دون أن تحمِّلهم أوزار الخوف والذنب. وهي ديانة لا تحاول أن تفرض نفسها بالقوة على الآخرين، لأن كل ديانة تعتقد نفسها متفوقة على سائر الديانات تتسبب بالعنف الجسدي أو النفسي حيال الآخرين. هذا الشعور بالتفوق ناتج من عدم معرفة الديانات الأخرى؛ إذ لكلٍّ منها طبعه الخاص وعبقريته المطابقين لمزاج البلد الذي نشأت فيه وثقافته وعاداته.
كما يدعو شيخ الهندوسية الروحي هذا إلى معرفة الجوانب الصالحة من كلِّ ديانة وتقبُّل التنوع الديني في العالم عند بداية القرن الحادي والعشرين، ولا سيما أن في كل ديانة مكاناً للتطور تتكيف من خلاله مع الأزمنة المتغيرة، ذاك المكان الذي يمنع الديانات من الجمود أو التراجع والوقوع في الأصولية التي تقسِّم وتفرِّق وتحاكم نتيجة الجهل بالآخر.
حركة فن الحياة :
فن الحياة أنشأ شري شري رافي شنكر حركة "فن الحياة" عام 1982، وهي مؤسَّسة خيرية تهدف إلى تحسين نوعية الحياة جسدياً ومعنوياً عبر التسامي وتطوير إمكانات الفرد الداخلية واتخاذ مواقف اللاعنف من طريقة معرفة التنفس وأساليب أخرى تخفف الضغط عن أكثر من مليوني شخص موزعين على 130 بلداً في القارات الخمس.
يطبق شري رافي شنكر جوهر ديانته عملياً على الأرض، محاولاً إصلاح شوائب الهندوسية، بدءاً بمسكنه في بنغالور، حيث يستقبل المعتنقين والمعلِّمين من طبقات الهند المتعددة ومختلف الديانات، وصولاً إلى منع التجاوزات المتطرفة من بعض الهندوسيين في حق أقلِّيات دينية أخرى في الهند، مروراً باهتماماته البيئية المتنوعة، ليصب كل ذلك في جوهر رسالته التي يحددها بقدسية الحياة، داعياً إلى الاحتفال بها والاهتمام بالقريب ومشاركة ما نملك مع الأقل منا حظاً، لأن العالم كلَّه ملكنا وجميعنا واحد.
لو استهوت أحدَنا هذه الدعوة وصعب عليه تطبيقها، في إمكانه الاستعانة بمعلِّم روحي يساعده على توسيع آفاقه ومنحها مدى مختلفاً من غير أن يخشى فقدان حرية رأيه وتصرفاته، فيكتسب بذلك حرية داخلية، متحرراً من كبت الأفكار والتصرفات الموروثة ثقافياً ودينياً وعاطفياً، متخلِّياً عن سجن الأنا في سبيل اللقاء بالله.
كي يتم هذا اللقاء يمكن للإنسان اختيار طرق عديدة، منها الطاوية، وهي الدرب المنطلقة من الأزمنة قبل أصول الأزمنة والمؤدية إلى الخلود.
الطاوية الصينية :
الطاوية يقال إن مؤسِّس الطاوية لاوتسو ولد في القرن السادس قبل الميلاد في الصين الوسطى. يقال إن والدته حبلت به 72 أو 81 عاماً (أرقام رمزية) بعدما ابتلعت لؤلؤة من خمسة ألوان هوت من السماء وإنه عاش نحو مائتي عام... واقع أو أسطورة؟! ويقال أيضاً إنه كان فلكياً وأمين محفوظات البلاط قبل أن يسأم عادات زمانه السيئة، فيتخلَّى عن كل شيء متوجهاً نحو الغرب على ظهر جاموس، ناشراً تعاليمه للعالم قبل الوصول إلى الهند. وقد جُمِعَت تلك التعاليم في الـطاو ته كنغ ("كتاب الطريق والفضيلة")، جاعلة من كاتبها حكيماً محترماً شديد التأثير في الثقافة الصينية، رغم الطغيان الماوي منذ عام 1949. اكتشف الغرب هذا الكتاب منذ ثلاثة قرون بواسطة اليسوعيين ورغماً عنهم (إذ كانوا ينعتونه بالسحر)، وتُرجِمَ إلى أكثر من مائتي لغة. ويتناول الكتاب لغز الخليقة وكل شيء يتعلق بالإنسان ومكانه في الكون.
تشبه الطاوية حبلاً حساساً ومشدوداً بواسطة توتر قوتين متناقضتين، وهما اليِن واليانغ، ترتجَّان في قلب الإنسان والكون بالنَفَس ذاته qi. وقد استقى لاوتسو ديانته من تيارات الثقافة السحرية الموسومة بالشمانيَّة (عبادة الطبيعة والقوى الخفية في الصين السلفية)، مضيفاً إليها فلسفته الخاصة التي تتوافق فيها المعتقدات التقليدية عبر العصور والبوذية والكونفوشية (تقول الأسطورة إن لاوتسو وكونفوشيوس تبادلا تعلُّم الديانتين قبل أن يختلفا).
بكلمات قليلة (خمسة آلاف)، تتوزع على رسائل مقدسة، أشعار ونصائح إرشادية للشعب والحكام، تجلُّ الطاوية أهمية قوى الطبيعة (من ماء، نار، سماء، أرض، جبل، بحيرة، رعد وهواء) واتخاذ مسافة من العالم من غير الانعزال عنه، محاوِلة إقامة التوازن بين الأضداد في قلب الإنسان والكون – كأن "يكون الثقيل جذر الخفيف والسكون سيد القلق".
من قلب التناقضات تولد الحياة وتستمر. أليست أرض الهند أكبر شاهد حيٍّ على هذا التناقض الذي أعطى غاندي رجل السلام الأمثل وقد أُهرِقَ دمُه على يد برهماني؟ هي الهند نفسها التي احتمت في أرضها الأقليات على مرِّ العصور، من يهود ومسيحيين وأرمن وتيبتيين.
هي الأرض نفسها، مُذْ وجدت، تدور حول الشمس، ويبحث الإنسان فيها عن دوره، عن الحقيقة، عن علاقته بالله وبالكون. هو الإنسان الخائف على مصيره، الممزق بين أهوائه، اللاهث وراء أوهامه وأحلامه وسعادته، يحاول أن يجد الطمأنينة ويصغي إلى صوت السكون وسط ضحالة المادة وفراغ الروح.
أية ديانة يختار تحت قبة الإله الواحد؟ أي طريق؟ أية فلسفة؟
هي المحبة... وطن نهائي للنفوس.
*** *** ***
عقلانية ابن رشد وصوفية ابن سينا
يمكن القول بدقة أن مشروع الجابري هو آخر وأكبر تظاهرة في حركتنا النقدية العربية الجديدة من أجل الاعتراف بالمعقول وإقصاء اللامعقول عن حياة العرب. فالاستراتيجية الرشدية التي بشَّرنا بها في كتابه نحن والتراث عاد ليوضح لنا ملامحها في كتابه تكوين العقل العربي. يقول الجابري: "إننا نعتقد أن الاستراتيجية الرشدية، أعني التي دشَّنها ومارسها ابن رشد، هي وحدها الكفيلة بتحرير العقل العربي من تشنجات المعقول الديني وردَّات اللامعقول العقلي. إن تحقيق مصالحة عقلانية بين المعقول الديني والمعقول العقلي (=العقل الكوني) على الطريقة الرشدية التي تعتمد الفصل بين الدين والفلسفة، وبالتالي تجاوز الحاجة إلى الغنوص gnose – إن تحقيق مصالحة من هذا النوع شرط ضروري لتحرير العقل العربي من الدوافع والأهداف التي جعلته يقيم اللامعقول العقلي وسيطاً بين الله والناس، بين الدين والفلسفة؛ الشيء الذي جعله يعاني من الحضور المكثف للغيب ومقولاته، ويجد نفسه، بالتالي، مهيأ للهروب، تحت وقع أي صدمة، من عالم الشهادة إلى عالم الغيب... من المعقول إلى اللامعقول."
سوف أسترسل قليلاً في توضيح ملامح الاستراتيجية الرشدية لكي تأخذ المناقشة مجراها الواضح. ففي كتابه نحن والتراث (الذي نعود إليه كأساس وكمحطة أساسية في مشروعه) قام الجابري بشنِّ هجوم حاد على الفلسفة السينوية (نسبة إلى ابن سينا) وجذورها التاريخية. فمن وجهة نظره، ومن خلال حفرياته في تاريخ الفلسفة المشرقية وذلك عبر نوعين من القراءة، مباشرة وغير مباشرة (إسقاطية)، استنتج ما يلي:
أ. ابن سينا هو المدشِّن الفعلي لمرحلة الجمود والانحطاط.
ب. عمل ابن سينا على تكريس لاعقلانية صميمة في الفكر العربي الإسلامي تحت غطاء عقلانية موهومة.
ت. كانت الفلسفة المشرقية السينوية، في آن واحد، تعبيراً عن وعي قومي مهزوم ووعي إيديولوجي مقلوب؛ فهي إحدى تجلِّيات الوعي القومي الفارسي المهزوم، لكنْ الحي دوماً، المتطلِّع إلى استعادة نفسه باستمرار وبكبرياء. ولذلك كان هدفه هو إنشاء فلسفة مشرقية ذات خصوصية قومية فارسية.
ث. يجب أن ننظر إلى العمل على دمج الدين في الفلسفة والفلسفة في الدين كجزء من نضال عام – سياسي اجتماعي ثقافي – ضد الحصار السني للدولة، قام به أبناء الشعوب المضطهَدة قومياً وطبقياً. وعبر هذا نستطيع أن نفهم الدوافع القومية–الإيديولوجية في فلسفة ابن سينا؛ وكذلك لماذا كانت الإسماعيلية – كرافد أساسي في تكوينية ابن سينا – إيديولوجيا الطبقات والقوميات المضطهَدة.
مثَّلت الفلسفة المشرقية السينوية، وامتداداتها النظرية على صعيد الفكر المجرد في المشرق العربي، نظاماً فكرياً في التراث الثقافي العربي الإسلامي يتميز عن نظام فكري آخر وجد تعبيره في الفكر النظري في المغرب. يرى الجابري، بهذا الصدد، أن ثمة قطيعة إبستمولوجية بين النظامين، قطيعة تمسُّ، في آن واحد، المنهج والمفاهيم والإشكالية.وقد وجد هذا النظام الفكري المغربي تعبيره في الاستراتيجية الرشدية؛ إذ إن المشروع الفلسفي لابن رشد كان يقوم أساساً على الفصل بين الفلسفة والدين حتى يتأتَّى لكل منهما الحفاظ على هويته الخاصة ويصبح في الإمكان رسم حدودهما وتعيين مجال كل منهما، من ناحية؛ والبرهنة، من ناحية أخرى، أنهما معاً يرميان إلى نفس الهدف. من هنا يمكن القول إن "المدرستين، الرشدية والسينوية، تمثلان مظهرين أساسيين، ومتمايزين، من مظاهر العقلانية في الإسلام؛ بل يمكن اعتبارهما اتجاهين عقلانيين، ليسا فقط متمايزين، بل متناقضي الاتجاه: العقلانية الرشدية عقلانية واقعية، والعقلانية الفارابية–السينوية عقلانية "صوفية"" ويضيف الجابري: "إن ابن رشد يرفض القول القائل بأن الله هو الملابِس لجميع ما ههنا والمحرِّك له، لأن هذا القول يؤدي في نظره إلى القول بأن ما يُدرَك من الأسباب والمسبِّبات باطل، لأن المعرفة بالمسبِّبات لا تكون على التمام إلا بمعرفة أسبابها. فرفع هذه الأشياء – أي إنكار ارتباط المسبِّبات بالأسباب – هو مبطل للعلم ورفع له."
الاستراتيجية الرشدية تقول بالسببية، وبذلك ترفض التوسط وتنحاز للمعقول على حساب اللامعقول. فهدفها هو اجتثاث اللامعقول من حياتنا الذي يدفع باستمرار إلى الهروب إلى الأمام؛ خاصة وأن هذا اللامعقول وافد على الثقافة العربية الإسلامية – يسميه الجابري بـ"العقل المستقيل" – الذي تغذيه ثلاثة تيارات رئيسية:
أ. المانوية (نسبة إلى ماني) التي تجمع بين الزرادشتية والمسيحية والبوذية والتي استهدفت تقويض الأساس الفكري للدولة الإسلامية في العهد العباسي الأول؛
ب. الهرمسية (نسبة إلى هرمس) التي تقوم أساساً على نزعة صوفية إشراقية؛
ت. التيار الثالث هو الأفلاطونية المحدثة.
هذه التيارات الثلاثة – إلى جانب تيار رابع يتمثل في الإسرائيليات كرافد أساسي من روافد اللامعقول الذي قدم للفكر العربي الإسلامي الحديثَ حول البداية والنهاية – تزامنت جميعاً في النصف الثاني من القرن الثاني الميلادي وجمعها قاسم مشترك في كونها قد نهلت من الموروث الأسطوري البابلي القديم – وهذا ما يعتقده الجابري – لتبدأ بضخِّه من جديد عبر قنوات الموروث العربي الإسلامي. وقد توقف الجابري لشرحها في كتابه المعنون بـتكوين العقل العربي.
الهرمسية في ثنايا العقل العربي
في إطار نقده للعقل العربي يقول الجابري: "إن العقل العربي الذي سنقوم بتحليله (تحليل تاريخي وبنيوي ومن موقع إيديولوجي واعٍ) تحليلاً نقدياً ليس مقولة فارغة ولا مفهوماً ميتافيزيقياً ولا شعاراً إيديولوجياً للمدح والذم، وإنما نقصد به جملة من المفاهيم والفعاليات الذهنية التي تحكم، بهذه الدرجة أو تلك من القوة والصرامة، رؤية الإنسان العربي إلى الأشياء وطريقة تعامله فيها في مجال اكتساب المعرفة، مجال إنتاجها وإعادة إنتاجها."
وانطلاقاً من أن عصر التدوين هو الإطار المرجعي للثقافة العربية الإسلامية، فإن الجابري يحدد الإطار الذي يعمل فيه – وهو إطار الثقافة العالِمة التي دشَّنها عصر التدوين – وينحِّي جانباً الذاكرة والمعيش والخرافة والأسطورة. يقول: "إننا قد اخترنا عن وعي التعامل مع الثقافة العالِمة وحدها، فتركنا جانباً الثقافة الشعبية، من أمثال وقصص وخرافات وأساطير وغيرها." وفي ضوء اختياره للثقافة العالِمة كإطار، يتوجَّه من جديد لدراسة الأسطورة العالِمة – إن جازت لنا التسمية – بوصفها الإطار المرجعي للامعقول، التي تغلغلت في ثنايا العقل العربي وفرضت عليه رؤية ميثولوجية (= أسطورية) للكون ولعلاقة الإنسان بالطبيعة، وجدتْ تعبيرها في نظام العرفان. والجابري بذلك يقتفي أثر الفيلسوف الفرنسي هنري كوربان في بحثه عن دور الخيال imaginaire (الأسطورة) في الفلسفة الشيعية الإسلامية. إن المكونات الأساسية للعقل العربي الإسلامي، كما يرى الجابري، كناية عن ثلاثة أنظمة: نظام البيان، ونظام العرفان، ونظام البرهان. وانطلاقاً من أن المعقول الإسلامي يتحدد انطلاقاً من اللامعقول، يبدأ الجابري بالبحث عن اللامعقول في ثنايا العقل العربي الذي يجد تعبيره في نظام العرفان. يميِّز الجابري هنا بين عرفانين: العرفان كموقف (فردي ونفسي وعملي، يتلخص في رفض العالم ونشدان الاتصال بالإله والدخول معه في نوع من الوحدة)؛ والعرفان كنظرية (يطغى فيه التفسير والتأويل ومحاولة تشييد نظرية دينية فلسفية تشرح تطور الخليقة من المبدأ إلى المعاد).
ما يهمنا هو العرفان كنظرية، كرؤية ميثية (= أسطورية) لله وللكون والإنسان، وجدت تعبيرها في ملحمة التكوين الهرمسي (رؤيا هرمس)، وشكَّلت، بتفرعاتها المانوية والزرادشتية والأفلوطونية المحدثة والإسرائيليات، حلفاً قوياً ساهم في رفد وغزو نظام البيان العربي الإسلامي (المعقول العقلي الديني العربي الذي يتحدد بثلاثة عناصر: القول بوجوب معرفة الله، والقول بوحدانيَّته، والقول بالنبوة) بكل عناصر اللامعقول الذي تتحدد عناصره بعكس عناصر المعقول الديني العربي الذي يمتح من الموروث القديم.
في كتابه الهام المُعَنَْوَن بـبنية العقل العربي حظيت الرؤية الهرمسية الأسطورية للكون وبدء الخليقة بالكثير من التفرد. فبعد أن عرض لها في كتابه الموسوم بـتكوين العقل العربي، قام في بنية العقل العربي بنقل هذه الرؤية الأسطورية بنصها إلى العربية، وقام بالشرح والتعليق عليها، وتابع تغلغلها في الفكر العربي الإسلامي عند الشيعة (أول من تَهَرْمَس في الإسلام)، ثم تابع تحولاتها داخل هذا الفكر، كما تجسدت في فكرة الإمامة، ثم انتقالها إلى المتصوفة الإسلاميين من السنة، كما يتجلَّى في شرحه لنصَّيْ الجنيد وابن عربي.
ويركز الجابري على رؤيا هرمس لأنها، من وجهة نظره، تنحو منحى أسطورياً يقدم الحل لمشكلة الشرِّ في العالم. وفي دراسته لأسطورة الخليقة الهرمسية، باعتبارها المنهل الذي ينهل منه جميع العرفانيين، يميز الجابري بين عدة مراحل (مراحل الخلق):
- المرحلة الأولى: التقرير بأولوية النور؛ فالنور هو العقل (الإله الأب).
- المرحلة الثانية: انفصال النور عن النار انفصالاً نهائياً.
- المرحلة الثالثة: إنجاب الإله الأب للابن (الإله الصانع).
- المرحلة الرابعة: ظهور الإنسان السماوي الأول على صورة الإله الأب الكلِّي.
- المرحلة الخامسة: تتضمن حديثاً عن يوم المعاد ومرحلة ما بعد الموت وعودة الروح إلى بارئها.
الرؤيا الهرمسية
الرؤيا الهرمسية هي البئر الذي يمتح منه العرفان كموقف والعرفان كنظرية. وهذه الرؤية سوف تمهِّد للانسحاب من عالم الواقع إلى عالم العقل المستقيل، وسيتاح لها، في القرنين الخامس والسادس الهجريين، أن تغزو نظام البيان العربي الإسلامي من خلال المتصوفة (ابن عربي والجنيد وغيرهما) الذين سعوا إلى تأسيس البيان على العرفان، بعكس ما فعله ابن رشد الذي عمل على تأسيس البيان على البرهان؛ وبذلك مهَّدوا لاستقالة العقل العربي في المشرق العربي أولاً، وفي المغرب العربي والأندلس لاحقاً، لتُكتَب عليه الغربة في أرض أخرى – وطوبى للغرباء!
إن العرفاني الذي يمتح من الأسطورة الهرمسية ويدَّعي الكشف والرؤيا والحلم والتأويل ("الشطح"، على حد تعبير الجابري) يمارس أبسط أنواع التفكير وأدنى درجاته، ويكرِّس باستمرار الهروبَ إلى عالم العقل المستقيل؛ بالإضافة إلى أنه يساهم في تكريس نظرة سحرية للعالم من خلال العرفان، كموقف وكنظرية. ولنترك للصياغة الجابرية أن تأخذ مجراها:
أ. العرفان، كموقف وكنظرية، تكريسٌ للنظرة السحرية للعالم، أولاً وأخيراً؛ فهو تكريس أيضاً للبنية العامة للثقافات القديمة التي يشكل فيها الفكر السحري، وليس العلم، الفاعلَ الأساسي – هذا حسب معلوماتنا الراهنة (القول للجابري). وهل يمكن تحقيق نهضة بالسحر؟
ب. العرفاني يهرب باستمرار إلى عالم الميثولوجيا المفلسفة.
ج – الكشف العرفاني ليس شيئاً فوق العقل، كما يدعي العرفانيون، بل هو أدنى درجات الفعالية العقلية؛ ليس شيئاً خارقاً للعادة، ليس منحة من طرف قوة عليا، بل هو فعل العادة الذهنية غير المراقَبة، فعل المخيِّلة التي تغذِّيها، لا المعطيات الذهنية الموضوعية الحسية، ولا المعطيات العقلية الرياضية، بل معطيات شعور حالم غير قادر على مواجهة الواقع والتكيُّف معه والعمل على السيطرة عليه سيطرة مادية أو عقلية أو كليهما معاً، فيلجأ إلى عالم خيالي خاص به، ينتقي عناصره من الدين والأساطير والمعارف الشائعة.
باختصار، إن الجابري، من خلال حفرياته في تاريخ الأسطورة العالِمة، يعزو تخلُّفنا الحضاري وانحطاطنا الفكري، في المشرق والمغرب، إلى ارتدادنا إلى أشكال من الفكر الأسطوري، كان أجدادنا ممَّن أسَّسوا البيان العربي الإسلامي (المعقول العقلي) قد تجاوزوه – خاصة وأن الخطاب القرآني الذي يؤسِّس للبيان هو خطاب عقلاني، كما يرى الجابري – إلى أشكال من الفكر الأسطوري، استطاعت الشعوبية الفارسية أن تجعل منه باطناً للحركات الثورية الإسلامية المضادة (الشيعة الإسماعيلية) التي بقيت تحمل في ثنايا إيديولوجيتها تناقضاً صارخاً بين الشكل الثوري (من حيث هي إيديولوجيا الطبقات الفقيرة والمحرومة) وبين المضمون الباطني "المُؤسْطَر" المتخلف. صحيح أن للأسطورة منطقها الخاص، كما يكتب الجابري، "بوصفها شكلاً من أشكال التعبير ونمطاً من أنماط التصور له منطقه الخاص" ؛ غير أن ما يقلقه هو هذا التوظيف العرفاني للأساطير، كما تمثَّل في الإيديولوجيا الشيعية؛ التوظيف الذي بلغ ذروته في التأويلات الباطنية للفكر الشيعي التي وجدت تعبيرها الحيَّ في فلسفة ابن سينا الشعوبية مثلاً.
باختصار أيضاً ، يدعونا الجابري إلى نفي اللامعقول نفياً نهائياً. ففي ذلك وحده الخلاص!
بحثاً عن الله
روبرت هولمز
هل مشاعرنا الدينية مجرَّد نتاج لطريقة عمل الدماغ ليس إلا؟ بوب هولمز التقى الباحثين الذين يسعون لتفسير أكثر خواطرنا قداسة. ***
لقد شعر أينشتاين بذلك. و"ذلك" هو ما يدفع الناس إلى الكنائس والصلاة والتأمل والرقص المقدس وإلى ما هنالك من طقوس. ولعلَّه قُيِّض لك أنت أيضًا أن تشعر بشيء مماثل – في الجبال أو على شاطئ البحر أو ربما لدى إصغائك إلى مقطوعة موسيقية قريبة إلى قلبك بصفة خاصة. في الواقع، صرَّح حوالى نصف الناس أنهم عاشوا نوعًا من التجربة الصوفية أو الدينية. وهذه الخبرة كانت عند بعضهم عارمة إلى حدٍّ تغيَّرتْ معها حياتُهم إلى الأبد.
ولكن ما هو هذا الـ"ذلك"؟ أهو حضور الله يا ترى؟ أم هي لمحة من مستوى أعلى من الكينونة؟ أم هو فقط المكافئ الصوفي للسَّابقِ رؤيته ، حيلة من حِيَل الدماغ على الذات الواعية؟ في مستوى معين، طبعًا، تستلزم كلُّ أفكارنا وأحاسيسنا – مهما كانت غير اعتيادية – مشاركةَ الدماغ. وبالفعل، دفعتْ التجارب التي أُجرِيَتْ على الدماغ علماءَ الأعصاب لأن يقترحوا أن الشعور الديني قد يكون قد بُرمِج داخلنا بطريقة ما. فلماذا تختلف إذًا الخبرات الدينية التي يعيشها الناس اختلافًا كليًّا، بحيث يتأثر بعضهم بها تأثرًا عميقًا بينما لا يأبه لها آخرون؟
لقد شغف آندرو نيوبرغ، عالم الأعصاب من جامعة بنسلفانيا في فيلاديلفيا، بنظرةِ بيولوجيا الأعصاب إلى الدين منذ أكثر من عقد. وهو يعترف أن هذا دورٌ غريبُ الأطوار للعالِم ويقول: «لطالما شغلني قول الناس إنني شخص متديِّن يسعى للبرهنة على وجود الله أو إنني شخص متهكِّم يسعى للبرهنة على عدم وجود الله ؛ لكننا نحاول توخِّي الحياد في مقاربتنا لهذا الموضوع». في بداية هذا الشهر، نشر نيوبرغ كتابًا يعرض أكملَ نظريةٍ حتى تاريخه حول كيفية نشوء الخبرات الصوفية أو الدينية في الدماغ.
انكبَّ نيوبرغ مع المرحوم يوجين داكويلي، زميله في جامعة بنسلفانيا، على دراسة الأحاسيس التي تختص بالخبرات الدينية، إنما التي يتشارك بها أناس من معتقدات مختلفة. أحد هذه الأحاسيس هو الشعور بالـ"الوحدة مع الكون" الذي افتُتِنَ به أينشتاين. وهنالك أيضًا الشعور بالرَّوْع الذي يصاحب مثل هذه الكشوف ويجعلها تكتسي بأهمية أكبر وتنشحن بمعانٍ أسمى وبمعنى ما أكثر حقيقية من حيواتنا اليومية.
غير أن نيوبرغ قد أدرك أنه من شبه المستحيل دراسة الكشوف النادرة والمتلاشية في المخبر. فاضطر إلى تجاهل الخبرات التي تطرأ مرةً واحدة على نحو غير متوقع ليركِّز، بدلاً من ذلك، على التأمل والصلاة الرزينين، لكن القابلين للتكرار.
وبفضل زميلٍ لهما يمارس البوذية التيبتية، استطاع نيوبرغ وداكويلي أن يجدا ثمانية من مَهَرَةِ المتأمِّلين قبلوا بالخضوع إلى عملية تصويرٍ لأدمغتهم. وقد أتى المتطوعون إلى المخبر فرادى؛ فكان أحد الفنيين يُدخِل أنبوبًا في وريد ذراع كل منهم. ثم كان المتطوع يبدأ بالتأمل كالعادة مُركِّزًا عن قصد على نفس الصورة، وهي غالبًا لرمزٍ دينيٍّ ما. والهدف كان مراقبةَ بدءِ انحلال الشعور اليومي بالذات حيث يصبح المتأمل واحدًا مع الصورة. يقول مايكل بيم، أحد المتأملين وأحد الباحثين المشاركين في هذه الدراسة: «إنه شعور بسقوطِ كلِّ الحدود، وكأن فيلم حياتك قد انقطع، فترى بذلك الضوء الذي يسمح لهذا الفيلم بأن يُعرَض».
في الغرفة المجاورة كان نيوبرغ وداكويلي ينتظران مختبئين. وعندما كان المتأمل يشعر بتنامي الإحساس بالاتحاد [مع الصورة/الكون] – بعد حوالى ساعة من الزمان عادة – كانا يعطيان الأمر للباحثين بحقن عنصرٍ استشفافي مشعٍّ عبر الأنبوب الداخِلوَريدي. وخلال دقائق قليلة، وبسرعة، كان العنصر الاستشفافي يقصد الدماغَ بكميات أوفر بحيث يتدفق الدم بشدة أكبر، الأمر الذي ينعكس نشاطًا دماغيًا أعلى. لاحقًا استُخدِمَ الماسح [سكانر] لقياس توزع العنصر الاستشفافي للتوصل إلى صورةٍ عن نشاط الدماغ في لحظة الارتباط. وقد سمحت هذه العملية، التي تدعى التصوير الطبقي الكومبيوتري باستخدام الابتعاث الفوتوني المفرد ، للمتطوعين أن يمارسوا التأمل في جوِّ المخبر، الهادئ مقارنةً بهدير السكانر وضيقه. وبعد الانتهاء من هذه الاختبارات قارنَ نيوبرغ وداكويلي نشاطَ أدمغة المتطوعين خلال التأمل مع مُسوحات أجريت خلال راحتهم.
لم يُفاجَئ الباحثون، ربما، بوجود نشاط مكثَّف في أجزاء الدماغ الناظمة للانتباه – وهذه إشارة إلى تركيز المتأملين العميق. ولكنهم وجدوا شيئًا آخر أيضًا. فخلال التأمل كان جزءٌ من الفَصِّ الجداري في اتِّجاه أعلى ومؤخرة الدماغ أقل نشاطًا منه خلال راحة المتأملين. بهذا أدرك نيوبرغ وداكويلي مبتهجين أن هذا الجزء هو بالضبط منطقةُ الدماغ التي ينشأ فيها التمييز بين الذات والآخرين.
بشكل عام، يتعامل الجانب الموجود في نصف الدماغ الأيسر من هذه المنطقة مع إحساس الفرد بصورة جسمه، بينما يتعامل الجانب المقابل في نصف الدماغ الأيمن مع السياق – أي الزمان والمكان اللذين تقيم فيهما الذات. فاعتقد الباحثون أنه ربما عندما يتنامى شعور المتأملين بالوحدة فإنهم يَعزلون تدريجيًا هاتين المنطقتين عن الإشارات اللمسية والوضعية التي عادة ما تساعد على إيجاد صورة الجسم.
يقول نيوبرغ: «عندما ننظر إلى المتأملين نلاحظ أنهم حقًّا يوقِفون إحساسَهم بالعالم الخارجي، فلا تعود المناظر والأصوات تشوِّشهم. ولهذا لا تصل أية إشارات إلى الفَصِّ الجداري». فعندما تُحرَم هاتان المنطقتان من المَدَدِ تكفَّان عن الدوران، فيشعر الشخص ببدء انحلال الحدود بين الذات والآخر. ومع اختفاء السياق الزمني والمكاني يعتري الشخصَ شعورٌ بالأبدية وبلانهاية المكان.
كرَّر نيوبرغ هذه التجربة مؤخرًا مع راهباتٍ فرانسيسكانيات خلال الصلاة. وظهر لديهن – وهنَّ اللواتي تتمحور صلاتهن على الكلمات أكثر من تركيزها على الصور – نشاطٌ في مناطق اللغة من الدماغ. بيد أنهن أوقفن أيضًا عملَ منطقةِ الذات عينِها التي أوقف المتأملون عملَها عندما وصلوا إلى أوج شعورهم بالوحدة.
هذا الشعور بالوحدة مع الكون ليس الخاصية الوحيدة للخبرات الدينية العارمة؛ فهي تحمل في طيَّاتها أيضًا شحنةً عاطفيةً هائلة وشعورًا بالورع وبمدلولٍ عميق. ويتفق علماء الأعصاب عمومًا على أن هذا الإحساس ينشأ في منطقة من الدماغ مختلفة عن الفصِّ الجداري: أي في "الدماغ العاطفي" أو الجهاز المحيطي المتوضِّع عميقًا في الفصين الصدغيين على كلا جانبي الدماغ.
الجهاز المحيطي limbic system هو جزء من دماغنا يعود إلى المراحل الأولى من التطور. ووظيفته اليوم هي رصد خبراتنا ووضع بطاقاتٍ عاطفية على الأحداث ذات المدلول الخاص، كرؤية وجه طفلك مثلاً، يدوَّن عليها "هذا مهم". وخلال تجربة دينية عارمة يعتقد الباحثون أن الجهاز المحيطي ينشط نشاطًا غير اعتيادي، فيضفي مدلولاً خاصًا على كلِّ شيء.
وهذا يمكن أن يفسر لماذا يجد أولئك الذي عاشوا مثل هذه الخبرات صعوبةً جمَّة في وصفها للآخرين.: «إن مضمون الخبرة – أي مكوِّناتها المرئية والحسية – هو عين ما يختبره الفرد كلَّ الوقت؛ إلا أن الجهاز المحيطي الصدغي يمهر هذه اللحظات على أنها ذات أهمية كبيرة للفرد وعلى أنها تتميز بفرح وتناغم عظيمين. وعندما يتم الحديث عن هذه الخبرة إلى الآخرين لا يمكن إيصال سوى المضامين والحسِّ باختلافها؛ أما الإحساس العميق فلا يمكن إيصاله».
الوفير من الدلائل يدعم فكرة أن الجهاز المحيطي مهم للخبرات الدينية. وهنالك ظاهرة أكثر شهرة لدى الأشخاص الذين يعانون من نوبات صَرَعٍ محصورة في الجهاز المحيطي، أو في الفصين الصدغيين عمومًا، ممَّن بلَّغوا أحيانًا عن مكابدتهم خبراتٍ عميقة خلال النوبات. يقول سيفر: «هذا مشابه لما يختبره الأشخاص الذين يكابدون هداية دينية، إذ يشعرون بإحساس الرؤية عبر ذواتهم الجوفاء أو واقعهم السطحي بواقعٍ أعمق». وكنتيجة لذلك، حسب قوله، عاش المصابون بالصرع عبر التاريخ تجارب صوفية عظيمة. فالروائي الروسي فيودور ديستويفسكي، على سبيل المثال، كتب عن "لمسِه لله" خلال نوبات الصرع. وهناك في التاريخ شخصيات دينية أخرى عانت ربما من الصرع، كالقديس بولس وجان دارك والقديسة تريزا الآفيلية وعمانوئيل سويدنبورغ، مؤسِّس كنيسة أورشليم الجديدة في القرن الثامن عشر.
وعلى نفس المنوال، يقول جرَّاحو الأعصاب الذين ينبِّهون الجهاز المحيطي خلال جراحات الدماغ المفتوح إن مرضاهم بلَّغوا أحيانًا عن اختبارهم لأحاسيسَ دينية. كما أن مرض آلزهايمر، الذي كثيرًا ما يعطِّل في مراحله الأولى عملَ الجهاز المحيطي، عادةً ما يقترن بتراجعٍ في الاهتمام الديني، حسب قول سيفر.
يمكن للغنى الذي يضفيه التنبيه المحيطي على الاختبار أن يفسر لماذا تعوِّل الأديان على الطقوس تعويلاً كبيرًا، على حد زعم نيوبرغ الذي يضيف أن حركات الطقوس المتعمَّدة والمُؤسلَبة تميزها عن الأفعال اليومية وتساعد الدماغ على اعتبارها ذات مدلول خاص. الموسيقى أيضًا يمكن أن تؤثر على الجهاز المحيطي، وفق تقارير صدرت عن باحثين يابانيين سنة 1997، فتدفعه نحو غبطة هائجة أو هادئة؛ كما يمكن أن يكون للغناء وللحركات الطقوسية التأثير عينه. وقد ظهر أن التأمل يحرِّض التهيج والاسترخاء، غالبًا في آنٍ معًا. يقول نيوبرغ: «أحيانًا يشير الناس إلى ذلك بالسعادة الناشطة»، وهو يعتقد أن هذا الاقتران بين الضدَّين يضيف إلى قوة التجربة.
وحتى لو قصَّرت أحاسيس الورع والورع هذه عن الخبرات الشخصية مع الله التي يبلِّغ عنها الكثير من الناس، حسب أيِّ شخص يشك في قدرة الدماغ على توليد خبرات دينية حيث أن أيَّ شخص يمكن أن يقابل الله إذا ما ارتدى خوذته الخاصة.
استخدم بيرسنغر لسنوات طويلة تقنيةً يُطلَق عليها التنبيه المغناطيسي العبرجمجمي،[ii] وذلك لتوليد أنواع عديدة من التجارب السريالية لدى أناس عاديين.[iii] فمن خلال التجريب والتعلُّم من الأخطاء، بالإضافة إلى بعض التخمين المتمرِّس، توصَّل إلى أن تيارًا مغناطيسيًّا ضعيفًا – 1 مايكروتِسلا،[iv] أي ما يعادل تقريبًا التيار المغناطيسي الذي تولِّده شاشة الحاسوب – يدور بعكس اتجاه عقارب الساعة وفقَ نمطٍ معقد حول الفصين الصدغيين يسبِّب لدى أربعة من كلِّ خمسة أشخاص شعورًا بحضورٍ شبحي معهم في الغرفة.
وتأويل الناس لهذا الحضور يتوقف على نزعاتهم ومعتقداتهم. فإذا كان شخصٌ محببٌ قد توفي مؤخرًا يمكن أن يشعروا بأن هذا الشخص قد عاد لزيارتهم. كما يعتبر المتدينون غالبًا أن هذا الحضور هو الله. يقول بيرسنغر: «هذا ما يحصل في المخبر. فتصوَّر ما يحصل إذا كان الشخص بمفرده مستلقيًا في سريره ليلاً أو راكعًا في الكنيسة حيث للسياق أهمية كبيرة». وقد ارتدى بيرسنغر خوذته بنفسه وشعر بالحضور، على الرغم من أن التجربة كانت أقل غنى نظرًا إلى أنه كان يعلم ماذا سيحدث.
لا يقبل الجميع بأن أشباح بيرسنغر يمكن أن تعادل ما يختبره المتدينون. يقول جوليان شيندلر ، الناطق باسم مكتب كبير الحاخامات في لندن: «هذا منفصل عن كلِّ ما هو تجربة دينية أصيلة، على غرار العقاقير المنشِّطة نفسيًا التي تؤثر على المزاج ولكن ليس بطريقة شرعية. إنها بنوع ما ليست البضاعة الأصلية».
وبغضِّ النظر عن صلاحيتها، تُظهِر تجارب الخبرات الصوفية أنها لا تتألف فقط مما ندركه ولكن أيضًا من تأويلنا لما ندرك. «وكأننا ندخل في كوَّة أو في تجويف، والبطاقة التي ستُلصَق عندئذٍ لتصنيف الخبرة ستؤثر على طريقة تذكُّر الشخص لها. وهذا يحدث خلال ثوانٍ معدودات». وهنالك وجه ثالث أيضًا، وهو التعزيز الذي يحصل عليه البشر، بما هم حيوانات اجتماعية، من المشاركة في الطقوس الدينية مع الآخرين.
«الدين هو هذه العناصر الثلاثة مجتمعة، وهي مُبَرمَجة في أدمغتنا. فنحن مُبرمَجون لاختبار تجارب من وقت إلى آخر تمنحنا شعورًا بحضورٍ ما. وكحيوانات رئيسة نحن مُبرمَجون لتصنيف تجاربنا. نحن نتوق للتفاعل الاجتماعي وللقرب المكاني مع آخرين على شاكلتنا. أما المضمون فليس مُبرمَجًا. فإذا ما عشتَ خبرة مع الله وكان معتقدكَ أن تقتل كلَّ من لا يعتقد بما تعتقد يمكنكَ أن تفهم لماذا يكمن الخطر الحقيقي في المضمون المنبثق عن الثقافة».
إذًا أين نحن من كل هذا؟ لسبب من الأسباب – طبيعيًا كان أو خارقًا للطبيعة – فإن أدمغتنا الكبيرة والقوية تسمح بنوعٍ غير مألوفٍ من التجارب التي ندعوها دينًا. غير أنه من الصعب إضافة أي شيء على ذلك.«بمعنى ما، اكتشفتْ البيولوجيا التي ما فتئت تتطور شيئًا جديدًا عن الكون. فكلُّ الثقافات تقريبًا عندها هذا الشعور الديني. ولكن هل يقدم لنا ذلك أيَّ تَبَصُّر لفهم بذرة الكون؟ هذا هو السؤالٌ المؤرقٌ».
والمشكِّكون في الدين سرعان ما يزعمون أن برمَجَة الدماغ تبرهن على أن الله غير موجود حقًّا وعلى أن الأمر كلَّه يحدث في الدماغ. يقولون أن «القاسم المشترك الحقيقي هنا هو نشاط الدماغ، وليس شيئًا آخر. ليس ثمة ما يقطع فيما إذا كان هذا مفروضًا من الخارج أو أنك تدخل على خطٍّ كيان إلهي».
إلا أن نيوبرغ غير أكيد إذ يقول: «لا يمكننا أن نقول إنهم على خطأ. ولكن، من جهة أخرى، إذا كنتَ شخصًا متديِّنًا فمن المنطقي أن يكون دماغك قادرًا على فعل ذلك لأنه إذا كان هناك إله فمن الطبيعي أن يكون قد صمَّم الدماغ بشكل يسمح بالتفاعل معه بطريقة أو بأخرى. ولا يمكننا الحكم على ذلك بالخطأ. المشكلة هي أن كل تجاربنا متساوية من حيث إنها جميعًا تحصل في الدماغ. فتجربتنا مع الواقع وتجربتنا مع العلم وخبراتنا الصوفية تحدث جميعًا في الدماغ».
الطريقة الوحيدة عمليًّا التي نحكم بها على واقعية خبرة ما هي مدى الشعور بأنها حقيقية: «يمكنك أن ترى حلمًا وتشعر وقتئذٍ وكأنه حقيقة؛ ولكن عندما تستيقظ لا تعود تشعر بواقعية هذا الحلم. والمشكلة هي أن الناس عندما يعيشون تجربة صوفية فإنهم يعتقدون أنها أكثر واقعية من الواقع القاعدي – حتى عندما يعودون إلى الواقع القاعدي. وهذا يقلب كلَّ المعايير». وهذا يعني في نظر نيوبرغ أن للعلوم الاختزالية حدودًا مهما بلغت قوتها.
يوافق خبراء الأديان على ذلك فيقول هاربر: «بوسعك أن تقول إن قصائد شكسبير ليست سوى مزيجًا من رصاص القلم والسيلولوز. ولكن يمكن أن تقول أيضًا إنها دَفقُ روح عظيمة، وأنت على صواب في كلا الحالتين». ثم يضيف بأن هنالك عدة مستويات للتفسير، كلُّ واحد منها صائب على مستواه دون أن يقدم تفسيرًا شاملاً.
يقول نيوبرغ إنه على غرار علماء الفيزياء الذين لا يستطيعون فهم الإلكترون فهمًا كاملاً كجُسَيِّم أو كموجة، بل بكونه كليهما معًا، نحن بحاجة إلى العلم وإلى فهم أكثر ذاتية وروحانية معًا حتى نستطيع أن نعانق طبيعةَ الواقع الكاملة.