شيخ الأسرار الباطنية
28-01-2012, 15:01
الإنسان والعقل
منذ وجد الإنسان أو منذ أن وعى ھذا الإنسان وجوده وھو یسأل عن ماھیتھ عن قدراتھ
العقلیة وعن السبیل إلى تحصیل المعرفة بمفھومھا الشمولي الواسع یقطع الأشواط والسنین
من عمره ابتغاء تحقیق ذالك الاقتراب من تحقیقھ ومنذ وجد الإنسان وھو یتمثل بھذا السؤال
(من أنا) فیجد نفسھ – كما یقول كاتبا (الإنسان والعقل) – (
ولد وما معه من عتاد أو زاد ودون
علم أو معرفة أو تمييز بين الصواب والخطأ وما من أحد يولد إلا ويأتي من مكانه المجھول غير
مستأذن لأحد ولا طارق لباب لا يعرف نفسه ولا يعرف عن نفسه ثم لا يعرف عنه شيء إنه لم
يكن شيئا فأصبح شيئا بين الأشياء يعتنى به ويعطى له اسم دون اختيار فيتعلم مما يحيط به فيجد
أن مسطرة الحياة جعلت دون استشارته ثم يتعلم كذلك مما يحيط به ومن تجاربه واكتشافاته والعقل
دليله ودليل العقل العلم بالمعرفة المبھمة يطرح الإنسان السؤال (من أنا)فكان الإنسان ھو نفسه
سؤالا في الحياة
).
إن حیرة ھذا الإنسان تجعلھ یتمنى لو أنھ كان أول الخلق حتى یعرف خلقتھ إنھ یعیش حیاتھ
یكتشف كنوز الطبیعة (ولا یخترعھا) فیستغلھا ویرتب اكتشافاتھ ترتیبا خاصا بالعقل فیجد
كأن الأشیاء خاضعى لھ ناسیا أنھ ھو أیضا خاضع للأشیاء التي علمتھ دون إرادة منھ كم ا
علمتھ الطبیعة إنھ ینسى أنھ أول من یقع استغلالھ كأن الطبیعة تستغلھ لنفسھا لتعرف نفسھ ا
بواسطة عقل الإنسان
إن الإنسان توارث العلم ولم یرث معرفة نفسھ كاملة بوسیلة دین أو عقیدة فھو في
محاولاتھ المستمرة لإبعاد الجھل عن نفسھ ینطلق باحثا بعقلھ في عقلھ لعلھ یجد نفسھ في نفسھ
أو یفھم ما حولھ بدقة فلا یجد بغیتھ لأن الطبیعة علمتھ أنما ھو في أحضانھا متمتع دون أن
تعرفھ على نفسھ فیرید لذلك تركھا لیفكر في داخلھ في عقلھ فیجد أن للعقل مراتب كثیرة
ومتعددة وأن فیھ صورة أخرى لھذه الطبیعة التي أراد التخلص من استدلالھا لتفكیره غیر
أنھا لیست كالطبیعة الأولى الظاھرة الملموسة فھذه یسبح فیھا بخیالھ دون عائق ویحلق دون
أجنحة ویجد فیھا شبھ ما في الطبیعة الأولى(الظاھرة) من صحاري وأشجار وفواكھ ومن
شمس وقمر ونجوم وكواكب فیتعامل معھا بخیالھ ویسرح فیھا بفكره دون أن تعرفھ ھي
الأخرى على نفسھ وعقلھ ولا یجیبھ عقلھ أبدا على السؤال المعضلة إذ العقل نفسھ ھو السؤال
في الإنسان كما أن الإنسان ھو السؤال في الحیاة فكیف إذن یمكن الجواب على سؤال بسؤال.
كتاب (الإنسان والعقل) یستنفد جمیع أشكال الإجابة عن السؤال الإنسان (عقلھ) والسؤال –
الحیاة (الإنسان) قبل الانتقال إلى مقومات وعوامل الإدراك البشري المتمثلة في حواسھ إذ
للحواس قوة تؤثر بھا في العقل وبالمقابل تتأثر ھي نفسھا بھ كما أن ھذه الحواس مجتمعة
تخلق وجودا ملموسا لحركة الشعور واللاشعور في نقط حساسة من جسد الإنسان بحیث
یمكن بالحركة المدروسة جعلھا تتحرك فتتحرك معھا مراتب العقل الذي یحتضن الحركة
الكلیة للجسم وبجمع حركتي الجسم والعقل معا في حركة واحدة مركزة بحیث یتحقق
للشخص الممارس لھذه الحركة خروج عن جسمھ بقوة العقل الذي احتوى قوة حركة الجسم
وحملھا معھ فیتم بذلك تحریك الأشیاء من بعید دون لمسھا كما یتم التحدث إلى أشخاص
آخرین بشكل فكري صوري دونما حاجة إلى الاقتراب منھم أو مخاطبتھم باللسان وذلك
باستعمال قوة الحاسة السادسة التي تجمع قوى الحواس الخمس وھي نفس القوة التي
یستخدمھا الإنسان الممارس والمحنك في ھذا المجال للدخول إلى المراتب العلویة من العقل
أو ما یطلق علیھ (العقل الفعال) الذي یوجد فوق كل حاسة وھو نفسھ ما یطلق المتصوفة علیھ
اسم(الحاسة السابعة) كل ھذا یكون ھدفھ ھو تحقیق إدراك العلوم الكونیة بالإلھام الخارج عن
موارد الطبیعة وھذا ما لا یمكن قط لكون الحاسة السادسة لا تستقل البتة عن الحواس الخمس
المعروفة التي تتحكم فیھا تحكما لا ینفصم إلا بالموت
علاقة الإنسان بالطبیعة والارتباط الوثیق بینھما یسوق كتاب (الإنسان والعقل) بما یؤكد ن
الطبیعة بما تشملھ من عناصر وظواھر ھي التي تنقل صورھا إلى العقل البشري فتكون
بذلك أبعاده وإدراكاتھ فلا یتخیل أویتصور إلا ضمن سیاقھا ونمطھا والأشكال التي تتجلى بھ ا
في العالم الظاھري ولذلك یظل كل ما یصل إلیھ الإنسان من علوم ومعارف خاضعا لبیئتھ
وبعیدا عن الحقیقة الثابتة ولذلك أیضا اختلفت ھذه العلوم وتباینت تبعا لاختلاف البیئات
وتنوعھا إلا أنھا ظلت رھینة باقتناع الإنسان بھا وھذا اقتناع صعب تحقیقھ لأنھ یفرض على
الإنسان الاقتناع بالغیب وحصر المعرفة وتحدیدھا والإنسان بالطبع لا یقبل غیر ما ھو
خاضع للحواس وللرؤیة وخاضع للتجربة والاستعمال
ولأن الحقیقة التي یبحث عنھا الإنسان في خوضھ للعلوم والمعارف ھي حقیقة الكون
وحقیقتھ ھو نفسھ ولأن ھذه الحقیقة تدل الإنسان على قوة الأشیاء الكامنة فیھا فإن ھذ ا
الإنسان یسعى باستمرار لتحصیل ھذه القوة حتى یمارس بواسطتھا التملك والسیطرة .
إن الحقیقة المجردة ھي حكمة كل الحكماء وخلاص كل باحث وللوصول إلیھا وجب على
المرء أن یستعمل العقل دون استغلال قوى ھذا العقل في تحقیق المنفعة والاستكثار فحسب
من الحاجیات والشھوات والملذات
إن خطأ الإنسان بدأ منذ أن حاول تسخیر الطبیعة كلھا لھ؟ فھو ینسى إن في ھذه الطبیعة م ا
ھو فعلا مسخر لھ یأتیھ بیسر وبدون عناء وأن فیھا مقابل ذلك ما ھو مسخر لھا ھي نفسھ ا
لیحفظ لھا سر حركتھا ودوامھا ھذا الخطأ جعل العلم یظھر في شكلین مختلفین تمام
الاختلاف (علم علم) و(علم جھل) فكان (علم العلم) ھو معرفة الحقیقة المجردة دون استغلال
منفعي؟ وكان (علم الجھل) ھو تلك المعرفة التي لا تحمل سوى الضرر للإنسان من حیث
یحسبھا تأتي إلیھ بالمنفعة ورغم ھذه الأخیرة تبقى علما حقا لأنھا معرفة ككل المعارف إلا أن
الإنسان یجب علیھ إزاءھا ألا یتجاوز الحدود كلما أدرك أن في ذلك ضرار علیھ وخطر ا
محدقا بھ
إن الإنسان إذا لحق بھ أي تغییر فإنھ لن یكون سوى ذا خطر علیھ؟ أما الطبیعة ففي
مقدورھا أن تغیر ما غیره الإنسان فیھا لأنھا تمتلك الإمكانیة والقدرة الكامنتین للرجوع إلى
أصلھا الذي كانت علیھ في البدء
إن ھذه الطبیعة تحتوي أسرارا یصعب الخوض فیھا بالآلات والأجھزة غیر الجاھزة التي
توصل الإنسان على استنباطھا ، ولكن یمكن الوصول إلیھا وبولوغھا بقوى العقل فھي كأنھ ا
معادن (ھوائیة) لا ترى ولا تلمس ولكنھا تحمل قوى یمكن للإنسان جلبھا واستعمالھا غیر
أنھا بقدر ما ھي مضرة بجسمھ بقدر ما یمكنھ إدراكھا وحصرھا والتحكم فیھا بقوى عقلھ إنھ ا
صورة ثانیة لما في الطبیعة الظاھرة فكأنھا طبیعة ثابتة أو كأنھا أرض أخرى فوق أرضن ا
التي نعیش علیھا إلا أنھا لیست مادیة ملموسة
ولذلك یمكن للعقل أن یدرك معالمھا بقواه لأنھا في النھایة من الطبیعة نفسھ ا
وقد یتوصل الإنسان إلى تمییز ھذه القوى وفصلھا وجمعھا وبذلك یمكنھ أن یصل إلى
اكتشاف كیفیة وأسبابا اختفاء بعض الأشیاء فجأة وظھورھا أیضا فجأة في أصقاع
وأجواء الأرض كما یحدث عند مثلث برمودا .
إن الإنسان مازال لم یدرك مجموع قوى عقلھ كما أنھ لم یستعمل بعد الوظائف العقلیة
المتوفرة لدیھ بل لا یعرف حقیقة الإمكانیات المتوفرة لدیھ في ھذا المجال ولو قدر لھ أن
یتمكن من ھذه المعرفة حق تمكن لوجد نفسھ یعیش نمطا آخر من الحیاة غیر نمطھ وأسلوبھ
الحالیین ولاحتاج إلى غیر ما یحتاج إلیھ في الوقت الراھن والحالة الراھنة ولاستطاع
- ربما- أن ینتقل بالمعرفة دونما حاجة إلى قطع الأبعاد والمسافات ولأمكن ساعتھا القول إن
كل ما في الطبیعة مسخر لھ حقا ودون استثناء ومادام الإنسان الحالي متجھ صوب المادیات
فسیظل ھذا مجرد حلم فحسب كحلم الإنسان بجنة فوق الأرض أو فوق كوكب آخر وبحیاة
یغمرھا الأمن والسلم الدائمین وھذا ما لن یستطیع تحقیقھ إذا لم ینكب على البحث عن أصلھ
وأصل الأشیاء المحیطة بھ وطبعا سیكون إذا ھو انقلب إلى ھذا البحث منعوتا من لدن
الآخرین بالجنون والخوف لأنھ سیكون بالنسبة إلیھم قد فقد توازنھ وعقلھ (والمقاییس
مقاییسھم) كما سبق أن قیل في حق عدد غیر قلیل من العارفین والأنبیاء والرسل والحكماء
قد یقول الإنسان إن الخلاص یكمن في اتخاذ العقل كعصى الأعمى یسترشد بھ في إدراك
حقیقة الأشیاء وحقیقة نفسھ لكن كیف یمكن لھذا الإنسان أن یدرك الحقیقة بالعقل وحده ،
والعقل لیس مرشدا وإنما قوة تسجل المعرفة في خلایا الدماغ .إن العقل لو كان ھو المرشد
حقا لما اختلف الإنسان قط ولما عاش جھلا البتة ولما تباینت بالتالي الأفكار والعقائد
والمشارب أن الإنسان شيء واحد منذ خلق وھو لم یكن منذ ذلك الحین سوى إنسانا وكفى
رغم أنھ في القدیم كانت لدیھ القوة العقلیة والكافیة لیغیر في جسمھ وشكلھ وھذه قوة استمدھ ا
من الطبیعة وربما وصل إلیھا من جدید إذا ھو ركز طرق وأسالیب بحثھ على ذلك ولو أن
الإنسان توصل الآن إلى أسباب استخراج قوى الطبیعة وأسالیب استعمالھا فیما یغیر بھ شكلھ
وصورتھ لأمكنھ أن یصدق ما یسمیھ الآن بخرافات الأولین ولتغیرت نظرتھ العصریة إلى
نفسھ وإلى حقیقة أمره ولكن ما أصعب أن یغیر الإنسان اعتقاده ، لاسیما إذا كان ھذ ا
الاعتقاد یمنحھ راحة النفس وخصوصا إذا كان ینفي وجود أو احتمال وجود أیة حیاة أخرى
بعد الموت لأنھ بھذا النفي سیظل یعیش وقد تملص من المسؤولیة وكفى نفسھ عناء الانضباط
والالتزام والمحاسبة سواء أكان من العقلاء الأسویاء أو من غیرھم
إن القوى العقلیة التي یتوفر علیھا الإنسان تمنحھ القدرة الكاملة – إذا نماھا بالممارسة
والتدریب المستمر والتركیز – على التحكم فیھا وتوجیھھا (عن طریق إدراك نقط تمركز
ھذه القوى في الجسم) وتركیزھا ثم الانطلاق بھا إلى حیث یشعر وكأن للطبیعة بمجملھ ا
وجودا بداخلھ وفي ھذه النقطة بالذات – حسب صاحبي كتاب(الإنسان والعقل) – یقع البعض
في الخطأ والخلط فیحسب أنھ ضم النجوم والكواكب بیدیھ وقد یدعي الألوھیة أو یدعي
الاتحاد والحلول(كما فعل بعض البوذیین والیوغیین والمتصوفة من المنحرفین) وھذا الخط أ
یقع فیھ المرء عندما یكون قد أساء طریقة وصولھ إلى جمیع القوى الإیجابیة والقوى السلبیة
فیھ أما إذا كان الأسلوب سلیما فإن الممارس سیجد أنھ إنما أدرك قوى الطبیعة بعقلھ
ووضعھا في مكانھا الصحیح بسماتھا الحقیقیة ویجد نفسھ أیضا ملتزما السكون والھدوء دون
خلط أو شطح حتى یجتاز ھذه المرتبة من مراتب قوى العقل دون الوقوع في الخلط أو الخطأ
یرى البعض أن قوى العقل المدربة تستطیع البقاء بعد فناء الجسد لأنھا أصلا أكبر من أن
یحدھا مجرد دماغ ھو مرتبط فحسب بالمادة بل یمكن لھذه القوى العقلیة أن تدخل جسدا آخر
للإنسان حي وھذا ما یلجأ البعض على إلصاقھ بالجن أو العفاریت أو المردة وإن كان ھؤلاء
في حل منھ بینما یعزه بعض آخر إلى الأرواح أو ما شابھ ذلك
ھذه القوى لا تعیش بعد ذھاب الجسد بالنسبة للإنسان وحده بل بالنسبة للطبیعة أیضا إذ
تبقى القوة الكامنة في معبد مثلا أو في قصر من القصور التي ركزت فیھا ھذه القوة حتى بعد
اندثار ھذا المعبد أو الصر وتحولھ إلى جوف الأرض فتجد بعض الأشخاص یشاھد بغتة أو
بطریقة التركیز البناء المذكور بكل تفاصیلھ وجزئیاتھ وكأنھ لایزال قائما في مكانھ بینما لا
یستطیع الشخص العادي في حالاتھ العادیة أن یبصر ذلك أو یحسھ .
فبالنسبة للإنسان إذن یمكن للقوى العقلیة (القویة) أن تحدث نوعا من التناسخ حیث تلج أ
إلى جسم شخص معین (بعد موت صاحبھا جسدیا) فتستعملھ كوسیلة لاستمرار ربط صلتھ ا
بالوجود المادي والعلم المحسوس وھذا ما یتعارف البعض على أنھ فعل الجن – كما سبق
القول – وما ھو بفعل الجن وإن كانت الشیاطین أحیانا تلجأ على ذلك لكونھا ھي الأخرى
تشبھ في تعاملھا مع الطبیعة القوى العقلیة الظلمانیة السابحة وراء ستار البرزخ الفاصل بین
عالم المرئیات وعالم الماورائیات بحیث یتسنى لھا أن تسكن جسدا بشریا حیا متى توفرت
الظروف والمواصفات لتحقیق ذلك في ھذا السیاق یأتي صاحبا كتاب (الإنسان والعقل) بمثال
معاكس عن التنویم المغناطیسي الذي یمكن للشخص النائم بواسطتھ أن یتقمص وفق أوامر
منومھ قوى عقل إنسان ھالك ویبدأ في تصور وتمثل حیاة ذلك الشخص ویلبس شخصیتھ
ویحكي تفاصل تلك الحیاة أي أن الصور ھنا تبدو دوما مھزوزة غیر مضبوطة ولا
شدیدة الوضوح .
إن كل ما یحدثھ الإنسان یمكن لقوى الطبیعة أن تحتفظ بھ أو بشيء منھ بعد زوالھ من عالم
المادة غیر أنھ لا یمكن رؤیتھ ومعاینتھ سوى من لدن متصل بالباطن ممكن یرقون بقواھم
العقلیة بواسطة التركیز إلى مراتب قوى الطبیعة فیجدون ویقرءون ویرون ما احتفظت بھ
من صور وآثار .
في فصل آخر من كتاب(الإنسان والعقل) یفرد الكاتبان عدة صفحات للحدیث عن أھمیة
اللغة في تنمیة الفكر وتقویة ملكات العقل وإظھارھا إلى حیز الوجود ویقصران ذلك على
اللغات الأم التي وجدت لتخطو مع الإنسان في طریقھ الشاق إلى المعرفة كالسریانیة
والعبریة والعربیة بینما یریان أن اللغات الدارجة لم تخلق سوى لتكون وسیلة تفاھم بین أبناء
البیئة الواحدة الضیقة وعلى مستوى أقل أھمیة لا یخرج عن نطاق شؤون العیش الیومیة
البسیطة ، ومن أھمیة اللغة الأم تبرز أھمیة التردید في الإیحاء الذاتي أو الغیري حیث یكتسي
التكرار لكلام معین أولویة قصوى في التركیز وفي تحقیق التصاعد الفكري أو العقلي
خصوصا عندما یكون الكلام المكرر ذكرا.
إن المعرفة تكتسي في بعض الجوانب والحالات خطورة تفوق الجھل بل تحمل في طیاتھ ا
(في ذلك البعض من الحالات) كل عناصر الدمار للعارف ولمن یحوم حولھ حتى أن
العارفین القدامى غالبا ما كانوا یكتمون ما توصلوا إلیھ عندما یتبین لھم ما یحملھ ذلك
من خطر للعوام إذا ھم أدركوا وبلغوا إلیھ فالإنسان عادة ما یقلب معرفتھ التي كانت في
الأصل والبدء معرفة لذاتھا ومعرفة للحقیقة على قوة یستخدمھا في قضاء مآربھ وتحقیق
رغباتھ وإشباع نزواتھ إنھ بطبعھ یسعى إلى القوة ویبحث عن منابعھا ولأن ھذه القوة
نطاقھا یفوق نطاق العقل فقد كان الحكماء یفضلون البقاء في حالات السكون والھدوء
اللذین یشبھان الضعف بدلا من إبراز أو إخراج قوة قد تسیطر على العقل فتفقده قوة
التصرف السلیم وإصدار الأحكام الراجحة لذلك نجد أن الجاھل لا یخاف – عادة –
شیئا بینما العارف یخاف كل شيء ویخاف حتى نفسھ .
في فصل آخر خاص عن (تطور مراتب العقل) یضم الكتاب استعراضا تاریخیا لتطور
التفكیر البشري في ھذا المضمار فیقرر أن الإنسان في العصور الخمسة الأولى التي سبقت
العصر الحجري كان یعطى للعقل تسع مراتب ثمانیة متوازیة فیما بینھا والتاسعة شاملة لھ ا
9 واعتبر الصفر 8 7 6 5 4 3 2 ثم تم فیما بعد تثبیتھا في أرقام یعتبر أصلھا ھندیا ھي 1
فیھا استفھاما عن العقل وتعریفا للھباء (كما عرف في أصلھ إلى تعبیر قوى العقل فقد
استخرجت من الأرقام أصول الكتابة وذلك بوضع ھذه الأرقام – كل على حدة – في
الاتجاھات الأربع (تبعا للعناصر المكونة للطبیعة الماء والتراب والھواء والنار) فكان
الرقم( 1) یوضع مثلا ھكذا - 1- والرقم ( 2) ھكذا الخ ، فنشأت عن ذلك بواسطة الحذف أو
الفصل أو الالتحام حروف للغات كاللاتینیة والعربیة ویتضمن كتاب (الإنسان والعقل)في ھذ ا
الموضوع شرحا ضافیا لعملیة نشأة الأرقام نفسھا كما وضعھا مبتكروھا الأوائل .
في فصل جدید یفرده الكتاب لاتجاھات التصور البشري ومراتبھ بالحرف الواحد :
(
إن العقل بإمكانه السيطرة على قوى الإنسان فيكتشف الإنسان معرفة أساسھا صوري وليس حقيقة
وبإمكان الإنسان أن يدخل أجواء في الفضاء أو حجبا في الأرض وليس لھا واقع وإنما ھي صورة
لواقع إما بعيد أو محجوب عن إدراك الإنسان فھناك خيال خيالي وواقع خيالي وخيال واقعي وواقع
واقعي
)
- فالخيال الخيالي مثله كمن يحلم أنه يحلم فيتخيل الأشياء بقوة الخيال فيكون ما يتصوره واضحا
أكثر من صور الخيال المجرد
[ھذا ما یسمى في علم النفس بالحلم الملون]
-
والواقع الخيالي فمثاله كمن يحلم ثم اختلط الحلم بالواقع فلم يميز ھل المشھد كان حلما أم واقعا
عاشه الإنسان وفي ھذه الحال يكون الخيال كأنه واقع يعيشه فالدرجة الصورية للخيال تفوقت على قوى
الخيال بالخيال فأصبح ذلك واقعا وھميا
-
أما الخيال الواقعي فمثاله أن يكون الإنسان قد عاش واقعا وظن بعد ذلك أنه كان في حلم لأن القوة
الواقعية تغلبت على القوة الخيالية فأصبحت خيالا واقعا
-
أما الواقع الواقعي فھو أصل الأشياء وأصل المعرفة ومن أدرك الواقع الواقعي فقد بلغ إلى العلم
الأصلي للأشياء فلا يكون لديه اختلاط في عوالم العقل ولا إدراك وھمي ويصبح سعيه وبحثه نحو
الحقيقة شيئا واضحا
).
فصل آخر یفرده الكاتبان لتقابل القوى وتنافرھا خلاصتھ أن الإنسان قد یجد في مكان م ا
راحة نفسیة لإیجادھا في مكان آخر أو قد یرتاح لشخص معین دون غیره ولذلك كان الإنسان
القدیم كثیر الأسفار یتنقل عبر الأصقاع فیتعلم الكثیر ویكتسب الكثیر قبل أن یستقر في مكان
معین یكون مطابقا لقواه والأمكنة تختلف وكذلك القوى الكامنة فیھا فالقوى الطبیعیة الكامنة
في الجبال لیست ھي ذات القوة المتوفرة في الصحاري أو في السھول أو الأودیة ، والجسم
والعقل البشریان یحتاجان إلى تبدل مستمر ومنظم في الأحاسیس ولابد لھذا التبدل أن یتم بعلم
حتى یصیب الھدف المتوخى منھ ونتیجة لعملیة التغییر في الأحاسیس ھذه یقع تبدل في قوى
العقل نفسھا فنجد أن الدماغ تتغیر فیھ ألوان الھالات المشعة بین كل إحساس وآخر كما تفعل
الحرباء في الطبیعة إذ تتغیر قشرتھا تبعا لتغیر ألوان البیئة التي تحتضنھا وقد اكتشف
الإنسان الیوم آلات وأجھزة تكشف عن الھالة الضوئیة الملونة والمحیطة بجسمھ والمتغیرة
لونا وحجما بتغیر أحاسیسھ وقد اكتشف ذلك الإنسان القدیم واستعملھ منذ أقدم العصور دون
أن یعترف لھ بھذا إنسان الیوم الذي لم یعد یعتقد سوى في ما تثبتھ الآلة والجھاز والصور
المرئیة والملموسة والمسموعة .
إن الإنسان القدیم لو قیل لھ أنھ سیأتي بعده بآلاف السنین بشر یصنعون أجساما معدنیة لھ ا
أجنحة تستطیع بھا التحلق في الفضاء الكوني فتنقل البشر والبضائع والمعدات لما صدق ذلك
لأنھ یفكر في حدود ما بین یدیھ من وسائل وإمكانیات وأمام عینیھ من ظواھر ، وبالمقابل فإن
الإنسان الحالي عندما یقال لھ إنھ في القدیم الموغل في القدم كان بعض أجداده یستطیعون
بالتدریب والتركیز أن یحلقوا بدون أجنحة أو أن یمشوا على أقدامھم فوق المیاه قاطعین
أنھارا ،نجده لا یصدق ذلك ولا یقبلھ لأنھ لم یعد یستطیع أن یفعل بعد أن منح قواه للآلة
وركزھا فیھا وأصبح یعتمد علیھا في حل أبسط أبسط مسائلھ وھو مستریح من كل عناء وما
أكثر ما تجره الراحة من وھن ومتاعب فكأننا أمام عصرین متناقضین عصر فعالي وعصر
آلي ففي الأول كانت قوى الطبیعة ملكا للإنسان یتصرف بھا في معاملة ھذه الطبیعة ....
مقتبس من كتب دار الاعماق
تابع ...
منذ وجد الإنسان أو منذ أن وعى ھذا الإنسان وجوده وھو یسأل عن ماھیتھ عن قدراتھ
العقلیة وعن السبیل إلى تحصیل المعرفة بمفھومھا الشمولي الواسع یقطع الأشواط والسنین
من عمره ابتغاء تحقیق ذالك الاقتراب من تحقیقھ ومنذ وجد الإنسان وھو یتمثل بھذا السؤال
(من أنا) فیجد نفسھ – كما یقول كاتبا (الإنسان والعقل) – (
ولد وما معه من عتاد أو زاد ودون
علم أو معرفة أو تمييز بين الصواب والخطأ وما من أحد يولد إلا ويأتي من مكانه المجھول غير
مستأذن لأحد ولا طارق لباب لا يعرف نفسه ولا يعرف عن نفسه ثم لا يعرف عنه شيء إنه لم
يكن شيئا فأصبح شيئا بين الأشياء يعتنى به ويعطى له اسم دون اختيار فيتعلم مما يحيط به فيجد
أن مسطرة الحياة جعلت دون استشارته ثم يتعلم كذلك مما يحيط به ومن تجاربه واكتشافاته والعقل
دليله ودليل العقل العلم بالمعرفة المبھمة يطرح الإنسان السؤال (من أنا)فكان الإنسان ھو نفسه
سؤالا في الحياة
).
إن حیرة ھذا الإنسان تجعلھ یتمنى لو أنھ كان أول الخلق حتى یعرف خلقتھ إنھ یعیش حیاتھ
یكتشف كنوز الطبیعة (ولا یخترعھا) فیستغلھا ویرتب اكتشافاتھ ترتیبا خاصا بالعقل فیجد
كأن الأشیاء خاضعى لھ ناسیا أنھ ھو أیضا خاضع للأشیاء التي علمتھ دون إرادة منھ كم ا
علمتھ الطبیعة إنھ ینسى أنھ أول من یقع استغلالھ كأن الطبیعة تستغلھ لنفسھا لتعرف نفسھ ا
بواسطة عقل الإنسان
إن الإنسان توارث العلم ولم یرث معرفة نفسھ كاملة بوسیلة دین أو عقیدة فھو في
محاولاتھ المستمرة لإبعاد الجھل عن نفسھ ینطلق باحثا بعقلھ في عقلھ لعلھ یجد نفسھ في نفسھ
أو یفھم ما حولھ بدقة فلا یجد بغیتھ لأن الطبیعة علمتھ أنما ھو في أحضانھا متمتع دون أن
تعرفھ على نفسھ فیرید لذلك تركھا لیفكر في داخلھ في عقلھ فیجد أن للعقل مراتب كثیرة
ومتعددة وأن فیھ صورة أخرى لھذه الطبیعة التي أراد التخلص من استدلالھا لتفكیره غیر
أنھا لیست كالطبیعة الأولى الظاھرة الملموسة فھذه یسبح فیھا بخیالھ دون عائق ویحلق دون
أجنحة ویجد فیھا شبھ ما في الطبیعة الأولى(الظاھرة) من صحاري وأشجار وفواكھ ومن
شمس وقمر ونجوم وكواكب فیتعامل معھا بخیالھ ویسرح فیھا بفكره دون أن تعرفھ ھي
الأخرى على نفسھ وعقلھ ولا یجیبھ عقلھ أبدا على السؤال المعضلة إذ العقل نفسھ ھو السؤال
في الإنسان كما أن الإنسان ھو السؤال في الحیاة فكیف إذن یمكن الجواب على سؤال بسؤال.
كتاب (الإنسان والعقل) یستنفد جمیع أشكال الإجابة عن السؤال الإنسان (عقلھ) والسؤال –
الحیاة (الإنسان) قبل الانتقال إلى مقومات وعوامل الإدراك البشري المتمثلة في حواسھ إذ
للحواس قوة تؤثر بھا في العقل وبالمقابل تتأثر ھي نفسھا بھ كما أن ھذه الحواس مجتمعة
تخلق وجودا ملموسا لحركة الشعور واللاشعور في نقط حساسة من جسد الإنسان بحیث
یمكن بالحركة المدروسة جعلھا تتحرك فتتحرك معھا مراتب العقل الذي یحتضن الحركة
الكلیة للجسم وبجمع حركتي الجسم والعقل معا في حركة واحدة مركزة بحیث یتحقق
للشخص الممارس لھذه الحركة خروج عن جسمھ بقوة العقل الذي احتوى قوة حركة الجسم
وحملھا معھ فیتم بذلك تحریك الأشیاء من بعید دون لمسھا كما یتم التحدث إلى أشخاص
آخرین بشكل فكري صوري دونما حاجة إلى الاقتراب منھم أو مخاطبتھم باللسان وذلك
باستعمال قوة الحاسة السادسة التي تجمع قوى الحواس الخمس وھي نفس القوة التي
یستخدمھا الإنسان الممارس والمحنك في ھذا المجال للدخول إلى المراتب العلویة من العقل
أو ما یطلق علیھ (العقل الفعال) الذي یوجد فوق كل حاسة وھو نفسھ ما یطلق المتصوفة علیھ
اسم(الحاسة السابعة) كل ھذا یكون ھدفھ ھو تحقیق إدراك العلوم الكونیة بالإلھام الخارج عن
موارد الطبیعة وھذا ما لا یمكن قط لكون الحاسة السادسة لا تستقل البتة عن الحواس الخمس
المعروفة التي تتحكم فیھا تحكما لا ینفصم إلا بالموت
علاقة الإنسان بالطبیعة والارتباط الوثیق بینھما یسوق كتاب (الإنسان والعقل) بما یؤكد ن
الطبیعة بما تشملھ من عناصر وظواھر ھي التي تنقل صورھا إلى العقل البشري فتكون
بذلك أبعاده وإدراكاتھ فلا یتخیل أویتصور إلا ضمن سیاقھا ونمطھا والأشكال التي تتجلى بھ ا
في العالم الظاھري ولذلك یظل كل ما یصل إلیھ الإنسان من علوم ومعارف خاضعا لبیئتھ
وبعیدا عن الحقیقة الثابتة ولذلك أیضا اختلفت ھذه العلوم وتباینت تبعا لاختلاف البیئات
وتنوعھا إلا أنھا ظلت رھینة باقتناع الإنسان بھا وھذا اقتناع صعب تحقیقھ لأنھ یفرض على
الإنسان الاقتناع بالغیب وحصر المعرفة وتحدیدھا والإنسان بالطبع لا یقبل غیر ما ھو
خاضع للحواس وللرؤیة وخاضع للتجربة والاستعمال
ولأن الحقیقة التي یبحث عنھا الإنسان في خوضھ للعلوم والمعارف ھي حقیقة الكون
وحقیقتھ ھو نفسھ ولأن ھذه الحقیقة تدل الإنسان على قوة الأشیاء الكامنة فیھا فإن ھذ ا
الإنسان یسعى باستمرار لتحصیل ھذه القوة حتى یمارس بواسطتھا التملك والسیطرة .
إن الحقیقة المجردة ھي حكمة كل الحكماء وخلاص كل باحث وللوصول إلیھا وجب على
المرء أن یستعمل العقل دون استغلال قوى ھذا العقل في تحقیق المنفعة والاستكثار فحسب
من الحاجیات والشھوات والملذات
إن خطأ الإنسان بدأ منذ أن حاول تسخیر الطبیعة كلھا لھ؟ فھو ینسى إن في ھذه الطبیعة م ا
ھو فعلا مسخر لھ یأتیھ بیسر وبدون عناء وأن فیھا مقابل ذلك ما ھو مسخر لھا ھي نفسھ ا
لیحفظ لھا سر حركتھا ودوامھا ھذا الخطأ جعل العلم یظھر في شكلین مختلفین تمام
الاختلاف (علم علم) و(علم جھل) فكان (علم العلم) ھو معرفة الحقیقة المجردة دون استغلال
منفعي؟ وكان (علم الجھل) ھو تلك المعرفة التي لا تحمل سوى الضرر للإنسان من حیث
یحسبھا تأتي إلیھ بالمنفعة ورغم ھذه الأخیرة تبقى علما حقا لأنھا معرفة ككل المعارف إلا أن
الإنسان یجب علیھ إزاءھا ألا یتجاوز الحدود كلما أدرك أن في ذلك ضرار علیھ وخطر ا
محدقا بھ
إن الإنسان إذا لحق بھ أي تغییر فإنھ لن یكون سوى ذا خطر علیھ؟ أما الطبیعة ففي
مقدورھا أن تغیر ما غیره الإنسان فیھا لأنھا تمتلك الإمكانیة والقدرة الكامنتین للرجوع إلى
أصلھا الذي كانت علیھ في البدء
إن ھذه الطبیعة تحتوي أسرارا یصعب الخوض فیھا بالآلات والأجھزة غیر الجاھزة التي
توصل الإنسان على استنباطھا ، ولكن یمكن الوصول إلیھا وبولوغھا بقوى العقل فھي كأنھ ا
معادن (ھوائیة) لا ترى ولا تلمس ولكنھا تحمل قوى یمكن للإنسان جلبھا واستعمالھا غیر
أنھا بقدر ما ھي مضرة بجسمھ بقدر ما یمكنھ إدراكھا وحصرھا والتحكم فیھا بقوى عقلھ إنھ ا
صورة ثانیة لما في الطبیعة الظاھرة فكأنھا طبیعة ثابتة أو كأنھا أرض أخرى فوق أرضن ا
التي نعیش علیھا إلا أنھا لیست مادیة ملموسة
ولذلك یمكن للعقل أن یدرك معالمھا بقواه لأنھا في النھایة من الطبیعة نفسھ ا
وقد یتوصل الإنسان إلى تمییز ھذه القوى وفصلھا وجمعھا وبذلك یمكنھ أن یصل إلى
اكتشاف كیفیة وأسبابا اختفاء بعض الأشیاء فجأة وظھورھا أیضا فجأة في أصقاع
وأجواء الأرض كما یحدث عند مثلث برمودا .
إن الإنسان مازال لم یدرك مجموع قوى عقلھ كما أنھ لم یستعمل بعد الوظائف العقلیة
المتوفرة لدیھ بل لا یعرف حقیقة الإمكانیات المتوفرة لدیھ في ھذا المجال ولو قدر لھ أن
یتمكن من ھذه المعرفة حق تمكن لوجد نفسھ یعیش نمطا آخر من الحیاة غیر نمطھ وأسلوبھ
الحالیین ولاحتاج إلى غیر ما یحتاج إلیھ في الوقت الراھن والحالة الراھنة ولاستطاع
- ربما- أن ینتقل بالمعرفة دونما حاجة إلى قطع الأبعاد والمسافات ولأمكن ساعتھا القول إن
كل ما في الطبیعة مسخر لھ حقا ودون استثناء ومادام الإنسان الحالي متجھ صوب المادیات
فسیظل ھذا مجرد حلم فحسب كحلم الإنسان بجنة فوق الأرض أو فوق كوكب آخر وبحیاة
یغمرھا الأمن والسلم الدائمین وھذا ما لن یستطیع تحقیقھ إذا لم ینكب على البحث عن أصلھ
وأصل الأشیاء المحیطة بھ وطبعا سیكون إذا ھو انقلب إلى ھذا البحث منعوتا من لدن
الآخرین بالجنون والخوف لأنھ سیكون بالنسبة إلیھم قد فقد توازنھ وعقلھ (والمقاییس
مقاییسھم) كما سبق أن قیل في حق عدد غیر قلیل من العارفین والأنبیاء والرسل والحكماء
قد یقول الإنسان إن الخلاص یكمن في اتخاذ العقل كعصى الأعمى یسترشد بھ في إدراك
حقیقة الأشیاء وحقیقة نفسھ لكن كیف یمكن لھذا الإنسان أن یدرك الحقیقة بالعقل وحده ،
والعقل لیس مرشدا وإنما قوة تسجل المعرفة في خلایا الدماغ .إن العقل لو كان ھو المرشد
حقا لما اختلف الإنسان قط ولما عاش جھلا البتة ولما تباینت بالتالي الأفكار والعقائد
والمشارب أن الإنسان شيء واحد منذ خلق وھو لم یكن منذ ذلك الحین سوى إنسانا وكفى
رغم أنھ في القدیم كانت لدیھ القوة العقلیة والكافیة لیغیر في جسمھ وشكلھ وھذه قوة استمدھ ا
من الطبیعة وربما وصل إلیھا من جدید إذا ھو ركز طرق وأسالیب بحثھ على ذلك ولو أن
الإنسان توصل الآن إلى أسباب استخراج قوى الطبیعة وأسالیب استعمالھا فیما یغیر بھ شكلھ
وصورتھ لأمكنھ أن یصدق ما یسمیھ الآن بخرافات الأولین ولتغیرت نظرتھ العصریة إلى
نفسھ وإلى حقیقة أمره ولكن ما أصعب أن یغیر الإنسان اعتقاده ، لاسیما إذا كان ھذ ا
الاعتقاد یمنحھ راحة النفس وخصوصا إذا كان ینفي وجود أو احتمال وجود أیة حیاة أخرى
بعد الموت لأنھ بھذا النفي سیظل یعیش وقد تملص من المسؤولیة وكفى نفسھ عناء الانضباط
والالتزام والمحاسبة سواء أكان من العقلاء الأسویاء أو من غیرھم
إن القوى العقلیة التي یتوفر علیھا الإنسان تمنحھ القدرة الكاملة – إذا نماھا بالممارسة
والتدریب المستمر والتركیز – على التحكم فیھا وتوجیھھا (عن طریق إدراك نقط تمركز
ھذه القوى في الجسم) وتركیزھا ثم الانطلاق بھا إلى حیث یشعر وكأن للطبیعة بمجملھ ا
وجودا بداخلھ وفي ھذه النقطة بالذات – حسب صاحبي كتاب(الإنسان والعقل) – یقع البعض
في الخطأ والخلط فیحسب أنھ ضم النجوم والكواكب بیدیھ وقد یدعي الألوھیة أو یدعي
الاتحاد والحلول(كما فعل بعض البوذیین والیوغیین والمتصوفة من المنحرفین) وھذا الخط أ
یقع فیھ المرء عندما یكون قد أساء طریقة وصولھ إلى جمیع القوى الإیجابیة والقوى السلبیة
فیھ أما إذا كان الأسلوب سلیما فإن الممارس سیجد أنھ إنما أدرك قوى الطبیعة بعقلھ
ووضعھا في مكانھا الصحیح بسماتھا الحقیقیة ویجد نفسھ أیضا ملتزما السكون والھدوء دون
خلط أو شطح حتى یجتاز ھذه المرتبة من مراتب قوى العقل دون الوقوع في الخلط أو الخطأ
یرى البعض أن قوى العقل المدربة تستطیع البقاء بعد فناء الجسد لأنھا أصلا أكبر من أن
یحدھا مجرد دماغ ھو مرتبط فحسب بالمادة بل یمكن لھذه القوى العقلیة أن تدخل جسدا آخر
للإنسان حي وھذا ما یلجأ البعض على إلصاقھ بالجن أو العفاریت أو المردة وإن كان ھؤلاء
في حل منھ بینما یعزه بعض آخر إلى الأرواح أو ما شابھ ذلك
ھذه القوى لا تعیش بعد ذھاب الجسد بالنسبة للإنسان وحده بل بالنسبة للطبیعة أیضا إذ
تبقى القوة الكامنة في معبد مثلا أو في قصر من القصور التي ركزت فیھا ھذه القوة حتى بعد
اندثار ھذا المعبد أو الصر وتحولھ إلى جوف الأرض فتجد بعض الأشخاص یشاھد بغتة أو
بطریقة التركیز البناء المذكور بكل تفاصیلھ وجزئیاتھ وكأنھ لایزال قائما في مكانھ بینما لا
یستطیع الشخص العادي في حالاتھ العادیة أن یبصر ذلك أو یحسھ .
فبالنسبة للإنسان إذن یمكن للقوى العقلیة (القویة) أن تحدث نوعا من التناسخ حیث تلج أ
إلى جسم شخص معین (بعد موت صاحبھا جسدیا) فتستعملھ كوسیلة لاستمرار ربط صلتھ ا
بالوجود المادي والعلم المحسوس وھذا ما یتعارف البعض على أنھ فعل الجن – كما سبق
القول – وما ھو بفعل الجن وإن كانت الشیاطین أحیانا تلجأ على ذلك لكونھا ھي الأخرى
تشبھ في تعاملھا مع الطبیعة القوى العقلیة الظلمانیة السابحة وراء ستار البرزخ الفاصل بین
عالم المرئیات وعالم الماورائیات بحیث یتسنى لھا أن تسكن جسدا بشریا حیا متى توفرت
الظروف والمواصفات لتحقیق ذلك في ھذا السیاق یأتي صاحبا كتاب (الإنسان والعقل) بمثال
معاكس عن التنویم المغناطیسي الذي یمكن للشخص النائم بواسطتھ أن یتقمص وفق أوامر
منومھ قوى عقل إنسان ھالك ویبدأ في تصور وتمثل حیاة ذلك الشخص ویلبس شخصیتھ
ویحكي تفاصل تلك الحیاة أي أن الصور ھنا تبدو دوما مھزوزة غیر مضبوطة ولا
شدیدة الوضوح .
إن كل ما یحدثھ الإنسان یمكن لقوى الطبیعة أن تحتفظ بھ أو بشيء منھ بعد زوالھ من عالم
المادة غیر أنھ لا یمكن رؤیتھ ومعاینتھ سوى من لدن متصل بالباطن ممكن یرقون بقواھم
العقلیة بواسطة التركیز إلى مراتب قوى الطبیعة فیجدون ویقرءون ویرون ما احتفظت بھ
من صور وآثار .
في فصل آخر من كتاب(الإنسان والعقل) یفرد الكاتبان عدة صفحات للحدیث عن أھمیة
اللغة في تنمیة الفكر وتقویة ملكات العقل وإظھارھا إلى حیز الوجود ویقصران ذلك على
اللغات الأم التي وجدت لتخطو مع الإنسان في طریقھ الشاق إلى المعرفة كالسریانیة
والعبریة والعربیة بینما یریان أن اللغات الدارجة لم تخلق سوى لتكون وسیلة تفاھم بین أبناء
البیئة الواحدة الضیقة وعلى مستوى أقل أھمیة لا یخرج عن نطاق شؤون العیش الیومیة
البسیطة ، ومن أھمیة اللغة الأم تبرز أھمیة التردید في الإیحاء الذاتي أو الغیري حیث یكتسي
التكرار لكلام معین أولویة قصوى في التركیز وفي تحقیق التصاعد الفكري أو العقلي
خصوصا عندما یكون الكلام المكرر ذكرا.
إن المعرفة تكتسي في بعض الجوانب والحالات خطورة تفوق الجھل بل تحمل في طیاتھ ا
(في ذلك البعض من الحالات) كل عناصر الدمار للعارف ولمن یحوم حولھ حتى أن
العارفین القدامى غالبا ما كانوا یكتمون ما توصلوا إلیھ عندما یتبین لھم ما یحملھ ذلك
من خطر للعوام إذا ھم أدركوا وبلغوا إلیھ فالإنسان عادة ما یقلب معرفتھ التي كانت في
الأصل والبدء معرفة لذاتھا ومعرفة للحقیقة على قوة یستخدمھا في قضاء مآربھ وتحقیق
رغباتھ وإشباع نزواتھ إنھ بطبعھ یسعى إلى القوة ویبحث عن منابعھا ولأن ھذه القوة
نطاقھا یفوق نطاق العقل فقد كان الحكماء یفضلون البقاء في حالات السكون والھدوء
اللذین یشبھان الضعف بدلا من إبراز أو إخراج قوة قد تسیطر على العقل فتفقده قوة
التصرف السلیم وإصدار الأحكام الراجحة لذلك نجد أن الجاھل لا یخاف – عادة –
شیئا بینما العارف یخاف كل شيء ویخاف حتى نفسھ .
في فصل آخر خاص عن (تطور مراتب العقل) یضم الكتاب استعراضا تاریخیا لتطور
التفكیر البشري في ھذا المضمار فیقرر أن الإنسان في العصور الخمسة الأولى التي سبقت
العصر الحجري كان یعطى للعقل تسع مراتب ثمانیة متوازیة فیما بینھا والتاسعة شاملة لھ ا
9 واعتبر الصفر 8 7 6 5 4 3 2 ثم تم فیما بعد تثبیتھا في أرقام یعتبر أصلھا ھندیا ھي 1
فیھا استفھاما عن العقل وتعریفا للھباء (كما عرف في أصلھ إلى تعبیر قوى العقل فقد
استخرجت من الأرقام أصول الكتابة وذلك بوضع ھذه الأرقام – كل على حدة – في
الاتجاھات الأربع (تبعا للعناصر المكونة للطبیعة الماء والتراب والھواء والنار) فكان
الرقم( 1) یوضع مثلا ھكذا - 1- والرقم ( 2) ھكذا الخ ، فنشأت عن ذلك بواسطة الحذف أو
الفصل أو الالتحام حروف للغات كاللاتینیة والعربیة ویتضمن كتاب (الإنسان والعقل)في ھذ ا
الموضوع شرحا ضافیا لعملیة نشأة الأرقام نفسھا كما وضعھا مبتكروھا الأوائل .
في فصل جدید یفرده الكتاب لاتجاھات التصور البشري ومراتبھ بالحرف الواحد :
(
إن العقل بإمكانه السيطرة على قوى الإنسان فيكتشف الإنسان معرفة أساسھا صوري وليس حقيقة
وبإمكان الإنسان أن يدخل أجواء في الفضاء أو حجبا في الأرض وليس لھا واقع وإنما ھي صورة
لواقع إما بعيد أو محجوب عن إدراك الإنسان فھناك خيال خيالي وواقع خيالي وخيال واقعي وواقع
واقعي
)
- فالخيال الخيالي مثله كمن يحلم أنه يحلم فيتخيل الأشياء بقوة الخيال فيكون ما يتصوره واضحا
أكثر من صور الخيال المجرد
[ھذا ما یسمى في علم النفس بالحلم الملون]
-
والواقع الخيالي فمثاله كمن يحلم ثم اختلط الحلم بالواقع فلم يميز ھل المشھد كان حلما أم واقعا
عاشه الإنسان وفي ھذه الحال يكون الخيال كأنه واقع يعيشه فالدرجة الصورية للخيال تفوقت على قوى
الخيال بالخيال فأصبح ذلك واقعا وھميا
-
أما الخيال الواقعي فمثاله أن يكون الإنسان قد عاش واقعا وظن بعد ذلك أنه كان في حلم لأن القوة
الواقعية تغلبت على القوة الخيالية فأصبحت خيالا واقعا
-
أما الواقع الواقعي فھو أصل الأشياء وأصل المعرفة ومن أدرك الواقع الواقعي فقد بلغ إلى العلم
الأصلي للأشياء فلا يكون لديه اختلاط في عوالم العقل ولا إدراك وھمي ويصبح سعيه وبحثه نحو
الحقيقة شيئا واضحا
).
فصل آخر یفرده الكاتبان لتقابل القوى وتنافرھا خلاصتھ أن الإنسان قد یجد في مكان م ا
راحة نفسیة لإیجادھا في مكان آخر أو قد یرتاح لشخص معین دون غیره ولذلك كان الإنسان
القدیم كثیر الأسفار یتنقل عبر الأصقاع فیتعلم الكثیر ویكتسب الكثیر قبل أن یستقر في مكان
معین یكون مطابقا لقواه والأمكنة تختلف وكذلك القوى الكامنة فیھا فالقوى الطبیعیة الكامنة
في الجبال لیست ھي ذات القوة المتوفرة في الصحاري أو في السھول أو الأودیة ، والجسم
والعقل البشریان یحتاجان إلى تبدل مستمر ومنظم في الأحاسیس ولابد لھذا التبدل أن یتم بعلم
حتى یصیب الھدف المتوخى منھ ونتیجة لعملیة التغییر في الأحاسیس ھذه یقع تبدل في قوى
العقل نفسھا فنجد أن الدماغ تتغیر فیھ ألوان الھالات المشعة بین كل إحساس وآخر كما تفعل
الحرباء في الطبیعة إذ تتغیر قشرتھا تبعا لتغیر ألوان البیئة التي تحتضنھا وقد اكتشف
الإنسان الیوم آلات وأجھزة تكشف عن الھالة الضوئیة الملونة والمحیطة بجسمھ والمتغیرة
لونا وحجما بتغیر أحاسیسھ وقد اكتشف ذلك الإنسان القدیم واستعملھ منذ أقدم العصور دون
أن یعترف لھ بھذا إنسان الیوم الذي لم یعد یعتقد سوى في ما تثبتھ الآلة والجھاز والصور
المرئیة والملموسة والمسموعة .
إن الإنسان القدیم لو قیل لھ أنھ سیأتي بعده بآلاف السنین بشر یصنعون أجساما معدنیة لھ ا
أجنحة تستطیع بھا التحلق في الفضاء الكوني فتنقل البشر والبضائع والمعدات لما صدق ذلك
لأنھ یفكر في حدود ما بین یدیھ من وسائل وإمكانیات وأمام عینیھ من ظواھر ، وبالمقابل فإن
الإنسان الحالي عندما یقال لھ إنھ في القدیم الموغل في القدم كان بعض أجداده یستطیعون
بالتدریب والتركیز أن یحلقوا بدون أجنحة أو أن یمشوا على أقدامھم فوق المیاه قاطعین
أنھارا ،نجده لا یصدق ذلك ولا یقبلھ لأنھ لم یعد یستطیع أن یفعل بعد أن منح قواه للآلة
وركزھا فیھا وأصبح یعتمد علیھا في حل أبسط أبسط مسائلھ وھو مستریح من كل عناء وما
أكثر ما تجره الراحة من وھن ومتاعب فكأننا أمام عصرین متناقضین عصر فعالي وعصر
آلي ففي الأول كانت قوى الطبیعة ملكا للإنسان یتصرف بھا في معاملة ھذه الطبیعة ....
مقتبس من كتب دار الاعماق
تابع ...