المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : ابجدية الوجود ومراتب الحروف



أميرة الاسرار
12-10-2011, 21:37
ابجدية الوجود دراسه في مراتب الحروف عند ابن عربي
الفصل الثاني



مراتبها و أسرارها



1ـ مراتب الحروف:

قبل الحديث عن مراتب الحروف يجدر بنا الحديث عن مخارجها ، وعن ألقابها. فما هي هذه المخارج والألقاب ؟ وما الأُسْس التي بُنِيتْ عليها؟.

إن للحروف ستة عشر مَخرجًا ، ثلاثة منها للحَلق، وثلاثة عشر للفم ، كما أن لها أربعة وأربعين لقبًا ؛ منها : الحروف المهمومسة ، والحروف المجهورة ، والحروف الشديدة ، والحروف الرخوة ، والحروف الزوائد ، والحروف الأصلية ، وحروف الإبدال، وحروف الإطباقِ ، وحروف الاستعلاء، والحروف المنفتحة ، وحروف الاِسْتِفَالِ، وحروف الصفير، وحروف القلقلة، وحروف المد واللين ، والحروف الخفية ، وحروف العلة ، وحروف الإمالة، وحروف الغُنة ، والحروف المكررة، والحرف الجرَس ، والحرف المستطيل ، والحرف المتفشي ،وحروف الذلاقة، والحروف المُصمَتَة(1)، وما إلى ذلك من الألقاب التي تنبع من مكانة الحرف ووظيفته ، وآلة أدائه ومرتبته.
رغم تعدد ألقاب الحروف ووظائفها ، فإن مراتبها لا تخرج عن ثلاثٍ؛ هي:

أ‌- الحروف الفكرية (=الخيالية)
ب‌- الحروف اللفظية (= النفسية )
ج- الحروف الرقمية (= البيانية )

وهذه الأخيرة على درجتين :

1 ـ درجة الوضع المفرد : وهي المعروفة بالألفبائية : أ، ب، ت، ث، ج، ح، خ، د، ذ، ر، ز، س، ش، ص، ض، ط، ظ،ع،غ، ف، ق، ك، ل، م، ن، هـ، و،ي.
2 ـ درجة الوضع المزدوج : وهي المعروفة بالأبجدية : أبجد، هوز ، حطي ، كلمن ، سعفص،قرشت ، ثخذ، ضظغ.

ومن الوضع المفرد الحرفُ المركَّبُ(لا =لام ألف)، فيبقى ثمانية وعشرون حرفا على عدد المنازل ، لكل حرف منها خاصية ، بل إن بعضها أكثر خاصية من بعض، فمنها ماله الاتصال القَبْلي ، وليس له الاتصالُ البَعْدِي كالدال والذال والراء والزاي والواو والألف ، وغيرها من الحروف التي لها الاتصالات ، ومنها المتشاكلُ الذي لا يُشبه الفَلَك كرأس الميم والواو، ومنها الذي يشبه الفلك المنظور كالنون .

فكل صنف من الحروف له فضائلُ وأمور تختص به ، فالحرف يُشبه الحرفَ من وجوه كثيرة ، فتارة يُشبهه من جهة الصورة كالباء ، والتاء ، والثاء ، والجيم ، والحاء، والخاء ، والدال ، والذال ، والراء ، والزاي ، إذا عُريت من دليلها الذي هو النقط. وتارة يُشبِهه من جهة أعداد بسائطه كالعَين والغين ، والسين ، والشين ، وكالألف والزاي واللام ، وكالنون والصاد والضاد، ومابقي من حروف يُشبه بعضها بعضا في هذه الحقيقة . فإذا أُخِذُوا من هذه الحروف يَنُوبُ كل واحد عن صاحبه في العمل ، فينوب السينُ عن الشين ، والعينُ عن الغين ، لأن الحرف قد يكون في العمل مُعطيًا معنىً وتفسيرًا ، ومن ثمة يُنظَر إلى شبيهه في البسائط الذي يُعطي ضده ، فيكون بَدَلَه ويَحل محله ، كالهاء والواو مثلا ، فإن بسائطهما واحدة بالعدد ، وأفلاكهما كذلك << فيكون في الشكل حرفُ الواو وهو باردٌ ، والبَرْدُ يُعطي البُطءَ في الأشياء ، وأنتَ تحب السرعة فيها، فتأخذ الهاء بَدَلَه الذي هو حرف حَارٌّ، أو الطاء أو الميم أو الفاء أو الذال>>(2). وكيف ما كان فإن الحرف ؛ سواء من جهة شكله أو جهة أعداد بسائطه؛ له أسرار في جميع مراتبه منها : أن يكون آخره كأوله ، مثل الميم والواو والنون . فالواو هو أول عدد تام ، إذ له من العدد ستة ، وأجزاؤه مثله ، وهي النصفُ (=ثلاثة) والثُّلث (=اثنان)، والسُّدسُ(=واحد). فإذا جُمعَت كانت مثل الكل . فالواو عن أصحاب الحروف يُعطي ما تُعطيه الستة من العدد عن العدديين كالفِيثَاغُورِيّين القائلين بقيام حركة الكون على الأرقام، فحرف الواو مَوَلَّدٌ عن حرفين هما : الباء والجيم ،والباء لها رتبة العقل الأول لأنه الموجود الثاني في الرتبة الثالثة من الوجود ، والجيمُ أول مقامات الفردانية . فإذا ضربتَ الباء في الجيم كان الخارجَ الواوُ، فهي والهاء إذن عَينُ (الهُو)التي يُقال لها (الهُوِّيَّة). فصورة نُطقِ الواو هكذا (وَاوٌ)تُعطي ذلك ، فالواو الأولى واوُ الهوية ، والهاء مُدرَجة فيها اندراجَ الخمسة في الستة فأغنت عنها ، والواو الأخرى واو الكون .

فهُوية الكون هي من هوية الحروف ، وهوية الحروف هي من هوية النفَس الرحماني ، وما يظهر من الاختلاف ليس إلا تنويعا لهذه الهوية الشاملة إذا نظرنا إليها من ناحية الأفلاك والعناصر والطبائع والظلمة والنور والفرَحِ والتَّرَحِ ، فالكون هو هذه المنظومة المتنوعة بجميع تلويناتها ، يُظهرها الحرفُ وتَظهَرُ فيه وكأنها هو ، أو كأنه هي.
1.1 الحروف الأربعة والعناصر الأربعة :

إن اسم الله مُكَون من أربعة أحرف (= ألف، لام ، لام ، هاء) وكذلك اسم محمد، واسم عيسى ، واسم موسى ، واسم داود ، من أربعة أحرف . والكون من أربعة عناصر مُرَتبة من خفيف إلى كثيف : النار أولا ، ثم الهواء ، ثم الماء ، ثم التراب، وتَجمَعُها حروف (نَهِمْتُ).فالنار نِسبتُها واحدُُ، والهواء نسبتُه اثنان، والماءُ نسبتُه ثلاثة ، والتراب نسبُته أربعة . وحيث أن الكون من العناصر الأربعة فإن تربيعَها هو 16 ، وتَكعيبَها هو 64 أيْ طُولُ عرض وارتفاع ، مما يعني أن الكون كله لا يزيد عن 64 موقعًا ، ولأجل ذلك بُنِي علم الرمل على ستة عشر شكلا ، وكل شكل على أربع طبقات ، تُكوِّن بمجموعها 64 طبقة كحالات الكون وطبقاتِه ومواقعِه . وبُنِي عِلمُ الموسيقَى على الأربعة الأزمنة حتى وصل إلى 64 طبقة في الزمن الموافقة لحالات الكون (3) وهذا مؤشر دالٌّ على أن الأربعة هي أُسُّ الكونِ والنُّبوةِ والعلومِ ، وأن دائرةَ هذه كلها هي الدَّالُ.

2.1 عدد الحروف …عدد المنازل:

وزيادة على هذا فإن عدد الحروف الهجائية هو نفسه عددُ المنازل في الأبراج الفلكية ، أي 28 حرفًا بثمانية وعشرين منزلاً . وقد خص ابن عربي كل حرف من حروف الهجاء بقصيدة خاصة ، تتكون من عشرة أبيات ، يبدأ كل بيت من أبياتها بذلك الحرف وينتهي به . فعن الألف يقول: (البسيط)

أٌنظُرْ إِلَى اٌلْخَلْقِ مِنْ مَدْلُولِ أَسْمَاءِ وَكَوْنُهُ عَيْنَ كُلِّيٍّ عَيْنَ أَجْزَاءِ
وعن الباء :(الخفيف)
بِاٌلَّذِي قُلْتُ إِنَّهُ عَـــــــيْنُ مَابِـــي مِنْ سُؤَالٍ وَمَنْطِقٍ وَجَــــــــوَابِ
وعن التَّاء: ( الطويل )
تَـوَلَّيْتُ عَنْهَا طَاعَةً حَيْثُ مَلَّتِ فَيَالَيْتَ شِعْرِي بَعْدَنَا هَلْ تَوَلَّـتِ
وعن الثاء : (الطويل)
ثَـلاثَةُ أَسْمَاءٍ تَكــــَوَّنَ بَيْنَهاَ عَلَى مَاتَرَاهُ اٌلْعَيْنُ شَكْــــــــلٌ مُثَلَّـثُ
وعن الجيم : ( الطويل)
جَـمِيلُُ وَلاَ يَهْوَى،جَلِيُّ وَلاَ يُرَى لَقَدْ حَارَ فِيهِ صَاحِبُ اٌلْفِكْرِ واٌلْحُجَـجْ
وعن الحاء :(السريع)
حَـمِدْتُ اٌلْإِلَهَ يُقَدِّسُ اٌلْأَرْوَاحَا بِاٌللاَّمِ لاَ بِاٌلْبَــــاءِ وَاٌلْأّشْـــبَـــــاحَا
وعن الخاء : ( الطويل)
خَـبيرُُ بِمَا أبْدَى عَليمُُ بِمَا أخْفَى عَلَيَّ مِنَ اٌلتَّفْرِيغِ مِنْ كَـــرَمِ اٌلسَّـخِّ
وعن الدال : ( الطويل )
دَنَا وتَدَلَّى عَبْدُ رَبٍّ وَرَبُّـــــــــهُ فَلَمَّا اٌلْتَقَيْنَا لَمْ أَجِــــدْ غَيْـــــرَ وَاحِــــدِ
وعن الذال : (الكامل)
ذَلِّلْ وُجُودَكَ لاَتَكُــــــنْ ذَا عِزَّةٍ حَتَّــــى تَصِيــــرَ بِنَشْــــأَتـَيـْـكَ جُـــذَاذَا
وعن الراء: (الطويل)
رَأَيْتُ وُجُودَ اٌلدَّوْرِ يُعْطِي اٌلدَّوَائِرْ وَيُعْطِي وُجُــــودُ اٌلدَّوْرِ فِيـــــهِ اٌلدَّوَائِـرْ
وعن الزاي :(الرمل)
زَمِّلُــونِــــي زَمِّلُونِـي لاَتَقُلْ إِنَّنِي اٌلشَّهْـــــرُ اٌلَّــــذِي فِــــي شَهْــرنَـازْ
وعن السين :( الطويل)
سـَأَحْرِفُ عَنْ قَوْمٍ عَنِ اٌلْحَقِّ أَعْرَضُواْ بِنَا ، فَهُمُ اٌلْأفْرَادُ يُدْعَوْنَ بِاٌلْخُرْسِ
وعن الشين : (الطويل)
شـَهِدْتُ اٌلَّذِي قَدْ مَهَّدَ اٌلْأَرْضَ لِي فُرْشَا شُهُودَ إِمَامٍ حَاكِمٍ حَكَـــــمَ اٌلْعَرْشَـا
وعن الصاد : (الرمل)
صـَادَنِي مَنْ كَانَ فِكْرِي صَــــــادَهُ مَالَهُ وَاٌللَّهِ عَنْهُ مِــــــــنْ مَحِيـصْ


وعن الضاد : ( مجزوء الخفيف)
ضـَاقَ صَـــــدْرِي لِمَــــا أَتَــــــى لِوُجُـــــودِي بِـــــــهِ اٌلْـقـَضــــــــَا
وعن الطاء : ( الكامل )
طَابَتْ مَطَاعِمُ مَنْ يُحقِّّرُ قَـــدْرَهُ فَمَضَى عَلَى حُكْمِ اٌلْوُجُودِ وَمَاسَـطَا
وعن الظاء : ( الوافر)
ظَلاَمُ اُللَّيْـــلِ مُـــعْـــــــتَــبَــــــــرُ لِعَــبْــــدٍ عِــنْـــــــــــدَهُ يَـــقَـظَــــــهْ
وعن العين : ( الطويل )
عـَلِمْتُ بِمَا فِي اٌلْغَيْبِ مِنْ كُلِّ كَائِنٍ وَمَا لا َفَمَا قُلْنَا وَمَا أَدْرَكَ اٌلسَّمْـعُ
وعن الغين : ( الطويل)
غـَنِيُُّ عَنِ اٌلْأَكْوَانِ بِاٌلذَّاتِ وَاٌلَّــذِي لَهُ مِنْ سَنَا اٌلْأَسْمَاءِ مَالَيْـــسَ يُبْلَـغُ
وعن الفاء : (الطويل)
فـَرَرْتُ إِلَى رَبِّي كَمُوسَى وَلَمْ يَكُنْ فِرَارِي عَنْ خَوْفٍ عِناَيَـــةُ مُصْطَفـى
وعن القاف : ( الطويل )
قـَرَأْتُ كِتَابَ اٌلْحَقِّ بِاٌلْحَقِّ مُفْهِمًا فَلَمْ أَرَ مَشْهُودًا سِوى أَلْسُنِ اٌلْخَلْـقِ
وعن الكاف : ( الطويل )
كـَبِرْتُ بِمُلْكِ اٌلمُلْكِ إِذْ كَانَ مِنْ مُلْكِي أُسَخِّرُهُ مِنْ غَيْرِ مَيْنٍ وَلاَ إِفْـكِ
وعن اللام : (البسيط )
لـِلَّهِ دَرُّ رِجَالٍ مَالَـــهُــــــــــــمْ دُوَل وَهُمْ يُقِيمُونَ مَافِي اٌلدَّهْرِ مِنْ دُوَلِ
وعن الميم :( الطويل )
مُرَادِي مُرَادُ اٌلطَّالبِينَ أٌولِي اٌلنُّهَى وَحَالُهُمُ حَالِي وَعِلْمُــــــهُم عِلْـمـِي
وعن النون : ( الطويل)
نـَهَانِي وِدَادِي أَنْ أَبُثَّ سَرَائِرِي إِلَى أَحَدٍ غَيْرِي فَمِــــتُّ بِكِتْمَانـِي
وعن الهاء: ( البسيط)
هـُوِّيَّةُ اٌلْحَقِّ أَسْرَارِي وَأَعْضَائِي فَلَيْسَ فِي اٌلْكَوْنِ مَوْجُود سِوى اٌللَّـــهِ
وعن الواو : ( الطويل )
وَدِدْتُ بِأَنِّي مَاعَلَوْتُ كَمَا عَلَــوْاْ عَلَيْهِ وَأَنِّي مَادَنَـــوْتُ كـــــما دَنـــــوْاْ
وعن اللام ألف :( الكامل )
لاَ تَتَّخِذْ غَيْرَ اٌلْإِلَهِ وَكِــــــــــيلاَ وَلْتَتَّخِـــذْ نَحْـــــوَ اٌلْإِلَــــهِ سَبِـــــــــيـلاَ
وعن الياء : ( الطويل)
يُـلَبِّي نِدَاءَ اٌلحَقِّ مَنْ كَانَ دَاعِيَا جَزَاءًا لِمَـــا يَدْعُـــو أَجَابَ اٌلْمُنَادِيَـا (4)







3.1 الحروف اللفظية والرقمية والفكرية:

يقسِّم العارفون الصوفيون الحروف إلى ثلاثة أقسام :

أ- الحروف اللفظية : =(النفسية) يوجد منها عالم الأرواح ، ولا ظهور لها في عالم الحس . ومعنى هذا أن كل حرف تُلُفِّظَ به ، يُخلق منه مَلَكٌ يُسبِّح الله تعالى ، فإِنْ تُلفِّظ بحرفٍ من الخير خُلِق منه مَلَك رحمةٍ،وإِن تُلفِّظ بحرف من الشر خُلق منه ملك عذاب، وكان من جملة ملائكة العذاب ، وإن تاب المتلفظ بذلك الحرف انقلب الملاك إلى ملاك رحمة . فلينظر الإنسان إلى لسانه ، وإلى أين يؤدي به ، ولينظر إلى الحرف على أنه جسرُ شقائه أو سعادته ، فاللسان أرضٌ والحرف زرعها ، وكم لسانٍ أنبتَ زَقُّومًا زُؤَامًا، وآخرَ أطلعَ زهورًا نجومًا ، فليحذر الإنسان مما يَتَلفَّظُ به.

ب- الحروف الرقمية : (= البيانية) يُوجَدُ منها عالمُ الحِس، أي عالمُ الشهادة الذي تدركه العقول والأبصار ، وتتلاقح فيه الفهوم والأفكار.

ج- الحروف الفكرية:( = الخيالية) يُوجَد منها عالم الخيال ،أي مو يُوجَد عن حُكم التخيل . وهو تخيلان:

&#216; تخيلُ عامة الناس، ويندرج أغلبه في التمَنِّي لأنه من النادر أن يُوجَد منه شيء
&#216; تخيل العارفين ، ويتحقق في الحين،لأن لهم تصرفًا في الحروف وبالحروف كلها لفظية كانت أو رقمية أو فكرية، زيادة على تصرف رابع يسمُّونه التصرف بالجانب الأّحْمَى (5)، ولا يعلمه إلا الرسل دون الأنبياء ، فكل رسولٍ بُعث إلى قومه أطلعه الله على ما في بواطنهم من الطبع ، ومادارت عليه جِبِلاَّتُهم ، فعاملهم بحسب طباعهم ليدوم قيامهم بالتكليف،إذ أنه لو لم يجر على طباعهم لبطلت رسالته من أول وهلة ،.أما محمد ص فقد أطلعه الله على طباع الوجود كله ، فَعَامَلَ كل طائفة على حسب طبيعتها.

وإلى جانب هذا التقسيم للحروف هناك تقسيمات أخرى لها ، تتغيا غايات مخالفة ، كتقسيمها إلى نورانية وظلمانية ، وإلى سعيدة ونحِسة.

4.1 الحروف النورانية والظلمانية :

فالنورانية هي ثلاثة عشر حرفا : ط،ر،ق،س،م ،ع،ا،ل،ن،ص،ي،ح،هـ ، يتم التصرف بها في الروحانيات والعقول والأنفس والخواطر والأحاسيس والهواجس والخيالات والأفكار ، وكل شيء عقلي .


وضدها الحروف الظلمانية ، وهي أربعة عشر حرفا : ب،ت،ث،ج،ح،خ،د،ذ،ز،ش،ض،ظ،غ،ف،و، يتم التصرف بها في الماديات ؛ لأنها نارية وترابية ومائية وهوائية ؛كالأجسام والنباتات والحيوان ، وكل شيء حِسِّي ، وعن هذا التقسيم يقول الشيخ علي ابن سِينا :<< إن المخلوقات انقسمت إلى قسمين : عُلوِي روحاني ، وسُفلي جسماني . فالعلوي لطيف ومضيء ، والسفلي كثيف ومُظلم ، والعلوي معقول ، والسفلي محسوس ، فالعُلوي مطلوب ومرغوب ، والسفلي طالب راغب ، ومن هنا كانت الحروف النورانية عُلوية ، والمظلمة سُفلية ، وكل هذا ليتمكن العالم الإنساني من القبض على الزِّمَامَين ، ويجمع الأمرين >>(6)

5.1 الحروف السعيدة والنحسة والممتزجة :

كما تنقسم الحروف كذلك إلى حروف سَعدٍ ونَحْسٍ وامتزاج . فالسعيدة هي الأحرف المهملة ، أي التي ليست عليها نقط ، وهي ثلاثة عشر حرفا هي: ا،د،هـ،و،ح،ط،ك،ل،م،س،ع،ص ،ر،وتنقسم إلى الطبائع الأربع :

1 ـ النارية : وأحرفُها هي : ا ، هـ، ط ،م
2 ـ الهوائية : وفيها حرفان : ك ، س
3 ـ المائية : وأحرفها هي : د ، ح ، ل، ع
4ـ الترابية : وفيها حرفان : و ، ص

والنحسة هي الأحرف المنقوطة مَثْنَى وثُلاث ، وعددها خمسة أحرف هي : ت ، ث، ش ، ق ، ي وتنقسم إلى الطبائع الثلاث:

1 ـ الهوائية : وفيها حرفان
2 ـ النارية : وفيها حرف واحد
3 ـ الترابية : وفيها حرفان

ولم تدخل فيها الطبيعة المائية ، لأن الأحرف المائية كلها سعدٌ وخير مَحْضٌ.
أما الممتزجة فهي الأحرف المنقوطة بنقطة واحدة ، وعددها عشرة أحرف هي : ب،ج،خ،ذ،ز،ض،ظ،غ،ف،ن
وتنقسم إلى الطبائع الأربع :
1 ـ النارية :وفيها حرفان : ف ،ذ
2 ـ الهوائية : وفيها ثلاثة أحرف : ج ، ز،ظ
3 ـ الترابية: وفيها ثلاثة أحرف :ب ، ض،ن
4 ـ المائية : وفيها حرفان : خ.غ (7)

فما القوة التي تكتسبها الحروف في كل تقسيم من هذه التقسيمات ؟وفي كل طبيعة من هذه الطبائع ؟ وما أسرارُ مفاعيلها في الوجود ؟


2- طـــبائعـــــــــها وأســـــــرارهـــــــا :

الحروف أمة من الأمم لا تموت ، لها أرواحُُ دائمة الفيض والهبوط أبد الآباد، من العالم الأعلى على أشكال الحروف الموجودة في العالم الأدنى . وهذه الأرواح أبدية الفيض ، دائمة الهبوط على الدوام، قائمة مقامها الذي خُلقت فيه ، تلزم ما لزمته الأفلاك ملازمة لفيض الأرواح على أشكالها (8) ، ومتماهية مع طبائعها ، وذلك لأنَّ جهاتِ فَيَضَانِ الأرواحِ قد اختلفت ، واعتدلت إلى أربع جهات ، اختُصت كل جهة بقسم دون الآخر ، فقُسِّمت أربعةَ أقسام؛ كل قسم سبعة أحرفٍ له طبعُُ وروحُُ.

القسم الأول أحرفه : ا،هـ ، ط ، م ، ف،ش،ذ، تهبط عليها أرواح نارية , والقسم الثاني أحرفه :ب،و،ي ،ن،ص،ت،ض، تهبط عليها أرواح يابسة . والقسم الثالث أحرفه :ج،ز،ك،س،ق،ث،ظ، تهبط عليها أرواح رطبة . والقسم الرابع أحرفه :د،ح،ل،ع،ر،خ،غ تهبط عليها أرواح مائية (9)، ومن هذا الهبوط أتت طبائع الحروف التي هي كالعقاقير ، وككل الأشياء ، لها خواص بانفرادها ، ولها خواص بتركيبها من حيث الألفاظ.

فالحق قد جعل النطقَ في الإنسان على أتَمِّ الوجود ، وذلك بأن جعل له ثمانية وعشرين مَقطَعا للنفَس ، يُظهر في كل مَقطَع حرفا مُعينا مختلفا عن الآخر في الطبيعة والسر. فالعين واحدة من حيث النفَسُ، وكثيرة من حيث المقاطعُ (10) وما النطقُ إلا سريانٌ في الوجود بكُلية الذات ، يَعرفُ هذا علماءُ الحرف الذين أدمنوا سِرَّه، وتوصَّلوا به


لما لا يُتَوصَّل بغيره من العلوم المتداولة في العالم ، فقوةُ الحرف من قوة عددِه وشكلِه وطبعِه .
1.2 قـــــــوة الحــــــــروف :
وللعمل بالحروف شرائط يلتزم بها من اشتغل بهذا العلم ، وذلك لأجل استخراج أسرارِ الخليقة وسرائرِ الطبيعة ، ورفعِ حُجب المجهولات ، والاطلاعِ على مكنون خبايا القلوب .
فالحرف قوة وسُلطة ، وهاتان آتيتان من قوة عدده في أبعاده الكبرى والصغرى ، ودرجتِه فيها . إذ درجتُه تلك هي قوته في الجسمانيات ، أما قوته في الروحانيات فتنتج عن ضربه في مثله . هذا في الحروف غير المنقوطة ، أما المنقوطة فهي مراتب لمعانٍ أخرى .
وكل شكل من أشكال الحروف له شكلٌ في العالم العُلوي ، منه المتحرك والساكن ، والعُلوي والسفلي ، كما تُبَيِّن ذلك الجداول الموضوعة في الزِّيَّاج، مما يعني أن قوى الحروف على ثلاثة أقسام :
الأول : ويُعتبرُ أقلَّها قوةً، وقوته تظهر بعد كتابتها ، حيث تكون هذه الكتابة لعالمٍ روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم ، ومتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية ، وجمعَ همَّة ، كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام.

الثاني : وتكون قوة الحروف فيه مُمثَّلة في الهيئة الفكرية التي تَصدُر عن تصريف الروحانيات لها ، فهي قوة في الروحانيات العُلويات ، وقوة شكلية في الجسمانيات السفليات.

الثالث: وفيه تكون قوة الحروف جامعةً الباطنَ ، أي القوة النفسانية المكوِّنة لها فتكونُ قبل النطق بها صورةً في النفس ، وبعدَ النطقِ بها صورة في الشكل وقوة في، النطق. هذا عن قوتها؛ أما عن طبائعها المنسوبة إليها فهي الحرارة واليبوسة ، والحرارة والرطوبة ، والبرودة واليُبوسة ، والبرودة والرطوبة . فالحرارة جامعة للهواء والنار وهما ( ا هـ ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ث ظ)، والبرودة جامعة للهواء والماء (ب و ي ن ص ت ض د ح ل ع ر خ غ ) ، واليبوسة جامعة للنار والتراب( ا هـ ط م ف ش ذ ث و ي ن ص ت ض) . وهذا سِرُّ العددِ اليَمَانِيِّ الذي يُبَيِّنُ نسبةَ حروف الطبائع ، وتداخلَ أجزاء بعضها في بعضٍ ، وتداخلَ أجزاء العالم فيها سُفلياتٍ وعُلوياتٍ << بأسباب الأُمَّهات الأُوَّلِ، أعني الطبائع الأربع المنفردة >>(11)، ومن هذا التداخل تستمد الحروف خواصها.

2.2 خـــــواص الحــــروف :

منها أن كل حرف له مَقطعٌ خاصٌّ في النفَس الإنساني ، لا يتماثل مع أخيه ، ومنها أن كل حرف كذلك له منزلة في منازل الأبراج ، وله قوة عددية ونسبة من العناصر الأربع. الشيء الذي أَهلَّ كل حرف ليتضمَّن سِرًّ خاصًّا به ، وجعل المشتغلين بالحُروف يتصرفون فيه بسِرٍّ.

فماهو هذا السر؟ وإلى ماذا يرجع ؟

لقد انقسم المهتمون بسر التصرف الذي في الحروف إلى طائفتين : طائفة تُرجعُ هذا السر إلى المزاج الذي لِكُلِّ حرف ، وطائفة تُرجعه للنسبة العددية لكل حرف.

أ- الطائفة القائلة بالمزاج : وتُقسِّم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما العناصرُ ،وتخصُّ كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فِعلاً وانفعالا بذلك الصنف ، حيث تُنَوِّعُ هذه الطائفة الحروف بقانون صناعيٍّ تُسميه التكسيرَ إلى نارية وهوائية ومائية وترابية على حسب تنوع العناصر .فالألِفُ للنار ، والباء للهواء، والجيمُ للماء،والدال للتراب، ثم تُعَينُ لعنصر النار سبعةَ حروف ؛ هي : ا ، هـ،ط،م،ف،س،ذ، ولعنصر الهواء سبعة حروف كذلك هي: ب،و،ي،ن،ض،ت،ظ، ولعنصر الماء أيضا سبعة حروف هي: ج،ز،ك،ص،ق،ث،غ،ولعنصر التراب هو الآخر سبعة حروف : د،ح،ل،ع،خ،ش، مُعتبرةً أن الحروف النارية هي لدفعِ الأمراض الباردة ولمُضاعَفَةِ قوة الحرارة حيث تُطلب مضاعفتُها ، وأن الحروف المائية هي أيضا لدفع الأمراض الحارة من حمَّياتٍ وغيرها(12)

ب-الطائفة القائلة بالنسبة العددية : وتُرجِعُ سِرَّ التصرف الذي في الحروف إلى نسبتها العددية ، حيث ترى أن حروف ( أبجد) دالة على أعدادها المُتعارَفة وضعًا وطبعًا ، إذ بينها من أجل تناسبِ الأعداد تناسبُُ في نفسها كذلك ، كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلها على الاثنين في كل مرتبة ، فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد ، والكاف على اثنين في مرتبة العشرات ، والراء على اثنين في مرتبة المئات ، وكما بين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة ، وبين الأربعة والاثنين نسبة الضِّعف.

فالتصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المُركبة منها ، وتأثرُ الكون بذلك ، يُعتبر أمرًا ثابتا ومشهودًا ومتواترا . ولكنه ليس واحدا لدى الطائفتين ، فهو عند المشتغلين بالطلسم – وما الطِّلَّسْمُ إلا مقلوبه- أقوى روحانية من جوهر القهر ، ولذلك يقولون : موضوع الكيمياء جَسَدٌ في جسَدٍ وموضوعُ الطِّلسم روحٌ في جسد ، لأنه يربط الطبائعَ العُلوية بالطبائع السفلية ، والطبائعُ السُّفلية جسد، والطبائع العُلوية روحانية .

والتصرفُ في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس والهمة البشريتين ، وذلك لأن النفس الإنسانية مُحيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بالذات ، أما تصرفُ أصحاب الطلسمات فإنما هو كامنٌ في استنزالِ روحانية الأفلاك وربطِها بالصُّور أو بالنسَبِ العددية للحصول على نوعِ مزاج يَفعلُ فعلَ الخميرةِ فيما حصل فيه (14) . وهذا التصرُّف يَبْنُونَه على الكمال الأَسْمَائي ؛ الذي مَظاهرُه أرواحُ الأفلاك والكواكب ، وعلى طبائِع الحروف وأسرارها السارية في الأسماء ، والأكوانُ على نظام مخصوص تنتقل في أطواره هذه الأكوان ، وتُعرِبُ عن أسراره .

وهذا هو سببُ حدوثِ علم أسرار الحروف ؛ الذي هو من تفاريع علم السيمياء؛ لا يُوقَفُ على موضوعه ولا تُحاط بالعدد مسائلُه ، لكنه في المحصِّلة يبقى ثمرة تصرُّفِ النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحُسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الكون (15).

3.2 سيـــميــــاء الحـــــروف:

ومن فروع علم السيمياء المشارِ إليه استخراجُ الأجوبة من الأسئلة ، بارتباطات بين الكلمات حَرفية ، وهذا يشْبِه ما يُسَمَّى بالمُعايَاةِ والمسائلِ السيَّالة ، وبالجَفْرِ. تُسْتعمَل فيه الحروف بطريقة سيميائية رمزية ، وكذلك الدوائرُ والأشكال الهندسية ، والتوافقات العددية ، مما يُوحِي بأن كل هذا أصلُُ في الوصولِ إلى المعرفة الاستقبالية. وسنوضح هذا بمثالين : الأول من ابن عربي يتحدث فيه عن وقائعَ إلهيةٍ ستحدثُ في دمشق ، وعن دلالة هذه الوقائع على الحُظوة الربانية الفريدة التي سينالها . والثاني من أبى العباس السبتي (524هـ/1130م –601هـ/1205 م) في منظومته المسمَّاة بـ << الزايرجة>>

يقول ابن عربي :<< يَخرجُ النبي والولي من المحو والإثبات ، ويُشق دوائرُ السمع والبصَر والعلم عن الولي في دال دمشق ، فإذا انشق دائرة السمع مَلَكَ الجيمُ ، ودَكَّ الجبلَ ، وخرج منه يَاءُ النداء ، فيسمعُ الولي ما لم يسمع غيره من الله ، فيَسمعُ أن الجيم يهلِك بمجيء الجبار إليه في صورة عدوه ، فيَظفرُ عَدوه عليه . وإذا انشق دائرةُ البصَر هلك العينُ ، ودُكَّ باءُ الجَبل، وخرج منه دال الدُّول ، وظهرت يد الله التي فوق الأيادي في الولي ، وهي يَدُ الجمع والتفرقة ، فيها ياءاتُ الإضافة ، ودالات الدولة والأديان كلها ، ويصير الجبلُ بدلاً مكان بَدَلٍ، فيُنصرُ الولي ، ويَرَى ما لم يَرَ غيرُه من رب العالمين. وإذا انشقت دائرة العلم هلك العينُ الأخرى، وما بتعلق بدائرته ، ودُكَّ لاَمُ الجبل ،، وخرج منه السِّينُ ، وصار الجبل ( سَلْ تُعْطَ)، وعند ذلك عَلِمَ الولي ما لم يَعلم غيره من الرحمن الرحيم ، وعند ذلك يزول القهر عن صورة المحو والإثبات ، بنزول مَحْضِ اللطف في مُخِّ الفعل الإلهي في الولي ، فيقع في صريح الفهم >>(16) فزوالُ القهرِ عن صُورة المحو والإثبات كَامِنٌ في (سَلْ تُعْطَ = 599 هـ) أي السنة التي تمَّت فيها البِشَارةُ بما سيقع لاحقًا في سنة 635هـ ، وإِذَنْ فإِدراكُ ما في هذا النص من مَرامٍ يتوقفُ أولا على إدراك الدلالة الكلانية لحروفه السيميائية ؛ وعلى ربطها بالوقائع القَبْلية لجبل دمشق قبل سنة 536هـ ، ثم بالوقائع المُصَاحِبَة له، وحينذاك ستنكشف شبكة ترميزه ، وتنجلي سُبُل متاهته التي كانت ممعنةً في الالتواء والتخفي . فحروفُ السيمياءِ ما هي إلا لُعبة روحانية تُمارسُ الظهورَ في التخفي ، وتُعلن عن المستقبل في الحاضر .

أما زايرجة السبتي فهي عبارة عن منظومة يبلغ عدد أبياتها 115 بيتًا ، بَيَّن ابنُ خلدونَ كيفية العمل بها ، وصفةَ دوائرها وَجَدْوَلها المكتوب حولها ، وكشف عن الحق فيها (17) .فهي إذن منظومة تتعلق بأسرار الحروف وتقسيمها إلى أقسام متناسبة بين الكائنات والأحداث والوقائع تناسبًا مخالفًا لأعمال السِّحْرِ والشعوذة والطِّلَّسْمَات ، ومُقاربًا للكرامات ، وتمتُّ إلى السيمياء الروحانية المشتعلة بالحروف والدوائر والجداول والمثلثات والمتوازيات والأعداد ، والمهْتَمَّةِ بإظهار الجواب في بيتٍ من الشعر على وزن البيت المتخَذِ مفتاحًا للعمل.

وقد أَسقطَ عليها باحثٌ معاصرٌ مَظهرًا مِنْ مظاهر العصر حيث اعتبرها << محاولة عربية قديمة لتصميم جهاز يُشبِه الحاسوب ، فهي تقوم على أسرار الحروف والتناسب بينها وبين الأحداث والكائنات ، ولا تختلف عن الحاسوب إلا في طريقة العمل >> (18) ، غير أن هذا الرأي لا يخلو مِنْ تهافتٍ ، فالزمنُ صيرورة وسيرورةٌ متجهةٌ سَهْمِيًّا صوبَ اللانهائي لا تكرارَ فيها ولا تناسخَ ، فما يقع الآن لا يُمكن أن يُعيد نفسه غدًا، وما سيقع مستقبلا لا يمكن أن يكون قد وقع في الماضي . إن سمةَ الزمن هي التجدُّدُ والتطورُ ، وليس التَّحَلْزُنُ والركودُ وإعادةُ الوقائع .

وهذه أبيات من الزايرجة: ( الطويل)
يَقُولُ سُبَيْتِيٌّ وَيَحْمَدُ رَبَّـــــــــهُ مُصَلٍّ عَلَى هَادِ إِلَى اٌلنَّاسِ أُرْسِلاَ
أَلاَ هَذِهِ زَايَرْجَةُ اٌلْعَالِمِ اٌلَّــــــذِي تَرَاهُ بِحَيِّكُمْ وَبِاٌلْعَقْلِ قَدْ جَــــــــــلاَ
فَمَنْ أَحْكَمَ اٌلْوَضْعَ فَيَحْكُمُ جِسْمَهُ وَيُدْرِكُ أَحَكَامًا تَدَبَّرَهَا اٌلْعُــــــــــلاَ
وَمَنْ أَحْكَمَ اٌلرَّبْطَ فَيُدْرِكُ قُـــــوَّةً وَيُدْرِكُ لِلتَّقْوَى وَلِلْكُلِّ حَصَّـــــــــلاَ
وَمَنْ أَحْكَمَ اٌلتَّصْرِيفَ يَحْكُمُ سِرَّهُ وَيَعقِلُ نَفْسَهُ وَصَحَّ لَهُ اٌلْــــــــــــوَلاَ


* *

فَهَذِي سَرَائِرُ عَلَيْكُمْ بِكَتْمِهَـــــا أَقِمْهَا دَوائِرَ وَلِلْحاءِ عَــــــــــــــدِّلاَ
فَـطَاءُُ لَهَا عَرْشُ وَفِيهِ نُقُوشُنَا بِنَظْمٍ وَنَثْرٍ قَدْ تَرَاهُ مُجَــــــــــــدْوَلاَ
وَنَسْبُ دَوائِرٍ كَنِسْبَةِ فُلْكِهَـــــــا وَاٌرْسُمْ كَواكِبًا لأَدْرَاجِهَا اٌلْعُــــــــلاَ
وَأَخْرِجْ لِأَوْتَارٍ وَاٌرْسُمْ حُرُوفَهَا وَكَوِّرْ بِمِثْلِهِ عَلَى حَدِّ مَنْ خَــــــــلاَ
أَقِمْ شَكْلَ زِيرِهِمْ وَسَوِّ بُيُوتَــــهُ وَحَقِّقْ بِهَامِهِمْ وَنُورُهُمُ جَـــــــــلاَ
وَسَوِّدْ دَوَائِرًا وَنَسْب حُرُوفُهَا وَعَالَمَهَا أَطْلِقْ وَاٌلْإِقْلِيمَ جَـــــــــــدْوِلاَ


* *

فَإِنْ شِئْتَ تَدْقِيقَ اٌلْمُلوكِ وَكُلّهُـــــــمْ فَختِّمْ بُيُوتًا ثُمَّ نَسِّبْ وَجَـــدْوِلاَ
عَلَى حُكْمِ قَانُونِ اٌلْحُرُوفِ وَعِلْمِهَا وَعِلْمِ طَبَائِعِهَا وَكُلُّهُ مــَثِّـــلاَ
فَمَنْ عَلِمَ اٌلْعُلُومَ يَعْلَمُ عِلْمَنَــــــــــــا وَيَعْلَمُ أَسْرَارَ اٌلْوُجُودِ وَأَكْمَــــلاَ
وَتَأْتِيكَ أَحْرُفٌ فَسَوِّ لَضْربِهَــــــــا وَأَحْرُفُ سِيبَوَيْهِ تَأتِيكَ فَيْصَلاَ


* *

إِذَا كَانَ سَعْدٌ وَاٌلْكَوَاكِبُ أَسْعَدَتْ فَحَسْبُكَ فِي اٌلْمُلْكِ وَنَيْلِ اٌسْمِهِ اٌلْعُلاَ
وَإِيقَاعُ دَالِهِمْ بِمَرْمُوزِ ثَمَّـــــــــةٍ فَنَسِّبْ دَنَا دِينًا تَجِدْ فِيهِ مَنْهَـــــــلاَ
وَأوْتَارُ زِيرهِمْ فَلِلْحَاءِ بَمُّــهُـــــمْ وَمَثْنَى اٌلْمُثَلَّثُّ بِجِيمِهِ قَدْ جـَــــــــلاَ
وَأَدْخِلْ بِأَفْلاَكٍ وَعَدِّلْ بَجَــــدْوَلٍ وَاٌرْسُمْ أَبَاجَادٍ وَبَاقِيهِ جَـــــــــــــمِّلا
فَأّصْلٌ لِدِينِنَا وَأَصْلٌ لِفِقْهِـــنَا وَعِلْمٌ لِنَحْـــــونَا فَاٌحْـــــفَظْ وَحَصِّلاَ
فَتَخْرُجُ أَبْيَاتًا وَفِي كُلِّ مَطْلَـــــبٍ بَنَـــظْمٍ طَبيعيٍّ وَسِــــــــرِّ مِنَ اٌلْعُلاَ
تُرِيكَ صَنَائِعًا مِنَ اٌلضَّرْبِ أُكْمِلَتْ فَصَحَّ لَكَ اٌلمُنَى وَصَحَّ لَكَ اٌلْعُــــــــلاَ


* *

أَيَا طَالِبُ اٌلسِّرِّ لِتَهْلِيــــلِ رَبِّهِ لَدَى أَسْمَائِهِ اٌلْحُسْنَى تُصَادِفُ مَنْهَلاَ
تُعْطِيكَ أَخْبَارَ اٌلْأَنَامِ بِقَلْبِهِــــــــمْ كذَلِكَ رِيسِهِمْ وَفِي اٌلشَّمْـــسِ أَعْمَــــلاَ
تَرَى عَامَّةَ اٌلنَّاسِ إِلَيْكَ تَقَيَّــــدُواْ وَمَــا قُلْـــتَهُ حَــــقًّا وَفِي اٌلْغَيْرِ أَهْمِلاَ

وَفِي اٌلْعَالَمِ اٌلْعُلْوِيِّ تَكُونُ مُحَدِّثًا كَذَا قَـــالَتِ اٌلْهِـــنْدُ وَصُوفِيَّةُ اٌلْمَـــــلاَ


* *

هِيَ اٌلسِّرُّ فِي اٌلْأَكْوَانِ لاَ شَيْءَ غَيْرُهَا هِيَ اٌلْآيَةُ اٌلْعُظْمَى فَحَقِّقْ وَحَـــصِّلاَ
تَكُونُ بِهَا قُطْبًا إِذَا جُدْتَ خِدْمـــــــــةً وَتُدْرِكُ أَسْرارًا مِنْ اٌلْمَلإِ اٌلْعُــــــــلاَ
سَرَى بِهَا نَاجِي وَمَعرُوفٌ قَبْلَـــــــهُ وَبَاحَ بِهَا اٌلْحَلاَّجُ جَهْرًا فَأعْقِـــــــلاَ
وَكَانَ بِهَا اٌلشَّبْلِيُّ يَــــــدْأبُ دَائِـمًا إِلَى أَنْ رَقَى فَوْقَ اٌلْمُريدِين وَاٌعْتَلَى
فَمَا نَالَ سِرَّ اٌلْقَوْمِ إِلاَّ مُحَقِّقٌ عَلِيمٌ بِأَسْــــرَارِ اٌلْعُلُومِ مُحصِّلاَ(19)

إن زايرجة العالم الصوفي أحمد أبي العباس السبتي المراكشي هاته تختزلُ مختلِفَ العلوم الكونية في الحرف ، وتُظهِرُ في مرآته الغيبَ منظورًا مشاهدًا في الحاضر قبل وقوعه ، زيادة على تناولها : نِسَبَ الأوزانِ ومقاديرَ المُقابِلِ منها ، وامتزاجَ الطبائع ، وصناعةَ الطب والكيمياء ، والطبَّ الروحاني ، ومَطَاريحَ الشعاعات في المواليد ، والانفعال الروحاني ، والانقيادَ الرباني ، واتصالَ أنوار الكواكب ، ومقاماتِ المحبَّة وميل النفوسِ، وفناءَ الفناءِ ، والخُلّة والمراقبةِ، والمقاماتِ الصوفية ، وما إلى ذلك من حالات الوجود الملتبسةِ والثاويةِ في الغيب .فهي نهجٌ صُوفيٌّ سِيميائيُّ الحروفِ، يَقتعِدُ اللانهائي، ويَكشفُ بالحرفِ المحجوبَ والمغيَّبَ لِعَيْنِ الزمنِ النهائي ، مادام الزمنُ ليس أصلاً في الحق ، وإنما هو أصلٌ في الكون ، وزمنٌ كلِّ كائنٍ هو ما في نفسِه ، لا ما هو خَارجَها . ولذا فإن سيمياء الحروف في العمق ما هي إلا مرآة تعكس نقطة الوجود وحروفَه.

1- نقطة الوجود وحروفه :

وذلك لأن مواد الروحِ والنفس والفعل مستودَعَة كلها في النون بشطريها : الأسفلِ الظاهر والأعلى المحجوب ، فهي كلية الإنسان الظاهرة والباطنة ، ولهذا ظهرت النقطة وعَلَتْ ، باعتبارها نقطة الوجود ، فهي عينُُ تُطِلُّ من النون على معبودها (20)، فالأهمية التي لها في البناء ليست هي الأهمية التي لها في النون .ففي النون الرقمية – التي هي شطر الفلك -<< من العجائب ما لا يَقدر على سماعها إلا من شد عليه مِئْزَرَ التسليم >>(21). ومن هذه العجائب أن الإنسان الذي هو آخر مرتبة في مراتب الوجود هو أرقى الموجودات وأعلاها في شطري الفَلَك، من حيث كونه مَجلًى لكل حقائق الوجود ودرجاته ، ومجلًى للحقيقة الإلهية كذلك فهو وإن كان <<آخر>> الموجودات ، فإنه يُعدُّ << أَوَّلَ>> ها بالقصد الإلهي ، ولذا يَصدق عليه وصفُ<< الأول والآخر >> (22)ووصف << الظاهر والباطن >> الذي يستمده من حقيقة كونِ الأسماء الإلهية توحدَت على إيجاده (23) ، فكانت أوجه التشابه بينه وبين الله ، ومن ثمة كان له جانبان باعتباره كلمة الله :

أ‌- ظاهرٌ يَجمعُ كل مراتب الوجود من أدناها إلى أعلاها .

ب‌- باطنٌ هو حقيقته الروحية المستمدة من عالم الألوهية في مستوى برزخ البرازخِ (24) ، ومن هنا يصح القولُ بأن الإنسان عالمٌ صغير ، وأن العالم إنسان كبير(25) وتصحُّ كذلك رؤية الشاعر القائل : ( المتقارب)

أَتَزْعُمُ أَنَّكَ جِرْمُ صَغِيرٌ وَفِيكَ اٌنْطَوَى اٌلْعَالَمُ اٌلْأكْبَرُ

وبهذا الاعتبار يكون كل من الإنسان والعالم مُمَثِّلَين لظاهرةِ الأُلُوهَةِ، فالإنسان يمثلها من حيث جمعيتُها كما تتمثل في الاسم الإلهي << الله>> الذي خلق آدمُ علة صورته(26)، فقد ورد في الحديث << أن الله خلق آدم على صورته>>(27) ، والعالم يُمثلها من حيث كثرةُ الأسماء والصفات،فهو من حيث كثرته لا يمكن الإحاطة به ، كما أن الأسماء الإلهية في كثرتها لا يمكن الإحاطة بها ولا حصرها . ويبقى الإنسان وحده هو الذي يمكن الإحاطة به نظرًا وإدراكًا لأنه << عالم صغير>> تجلى فيه << العالم الأكبر >> إذ << العالم ما في قوة إنسان حصره في الإدراك لِكِبَره وعِظَمِه، والإنسان صغير الحجم يحيط به الإدراكُ من حيث صورته وتشريحه ، وبما يَحمله من القوى الروحانية . فرتَّب الله فيه جميع ما سوى الله ، فارتبطت بكل جزء منه حقيقة الاسم الإلهي الذي أبرزته وظهر عنها ، فارتبطت به الأسماء الإلهية كلها لم يَشِذَّ عنه منها شيء ، فخرج آدم على صورة الاسم الله ؛ إذ كان هذا الاسم يتضمن جميع الأسماء الإلهية كذلك الإنسان ؛ وإِنْ صَغُرَ جِرمُه ؛ فإنه يتضمن جميع المعاني >>(28) ، ومن هذه الوجهة كان روحَ العالم الذي بدونه لا يكون العالم مُوازيا لحقائق الألوهة ، فهو مُوازٍ للألوهة أو على صورة الله << فالعالم بالإنسان على صورة الحق>> (29) والإنسان دون العالم على صورة الحق ، وَ العالم دون الإنسان ليس على الكمال في صورة الحق .

ولهذا كان الإنسان برزخا جامعا بين الله والعالم ، وكانت أفضليتُه على جميع الموجودات كما تُوضح ذلك هذه المُعادلة الوجودية :


الله // الإنسان // العالم



فباطنه // الله ، وظاهره // العالم


والعالمُ بدون الإنسان لا يعدو أن يكون جسدًا بلا روح أما إذا أُضيف إليه الإنسان فإنه سيصير جسدًا له معنى << فبين الإنسان والعالم ما بين الوجود والعدم ، ولهذا ليس كمثل الإنسان شيء >> (30) وعلى العموم فإن الإنسان والعالم صور ومرايا لحقيقة واحدة ، وأيَّا كانت الصورة فهي تعكس الأصل بحسب طبيعتها ، وليست هي الأصل . وعلى ذلك فالإنسان ليس هو الله وإن جَمَعَ في ذاته بين الصورتين الإلهية والكونية (31) فعلاقةُ الإنسان بالله وبالعالم علاقة عِشقية ترمز لها أُنْطُولُوجِيًّا علاقةُ الألف باللام في كلمة (لا).

فالألف له من الأسماء اسمُ الله ، وله من الصفات القَيُّوميةُ ، وله مقامُ الجَمع، وله المراتبُ كلها ، وله مجموعُ الحروف ومراتبها لأنه يسري في مخارجها كلها سريان الواحد في مراتب الأعداد وسريان التجلي الإلهي في الكون، فهو قيوم الحروف ، يتعلق به كل شيء ، ولا يتعلق هو بشيء ، يُظهِر الحروف ولا تُظهره ، ويُخفي اسمَه في جميع المراتب ، حيث يكون الاسم هناك للباء والجيم والحاء ، وجميعِ الحروف ، والمعنَى له هو . فالألف يُعطي الذات ، ولذا كان دَالاًّ على الله ،فاسمُ الله سَرَى في الأسماء كلها على اختلافها ، وكذلك الألفُ سرى في الحروف على تَبايُن ألفاظها : باءٌ ، تاءٌ، حاء ،دال ، كاف ، لام ، واو، ياء … الخ وهو لمَّا اصطحب اللامَ في كلمة (لا) صَحِبَ كُلَّ واحـــد مِنهما مَيْلٌ وحركة عشقية ، واللامُ هو الأعشقُ ، وصدقُ العشق يُوَرِّث الوصال إلى المعشوق ، وهكذا كان عشقُ اللام للألفِ، وعشقُ الإنسان لله (32) . وقد قال الإمامُ علي رض:<< لو أُذِنَ لي أن أتكلم في الألف من الحمد لله ، لتكلمتُ فيه سبعين ِوقْرًا>>، فهو حَمَّالُ معانٍ يعجز حتى عِلم الحرف ؛ الذي هو عِلمٌ مكنونٌ ،عن استقصائها والذي قال فيه الرسول ص << إن من العلم كهيئة المكنون لا يعلمه إلا العلماء بالله تعالى، ، فإذا نطقوا به لا يُنكره إلاَّ الغِرَّة بالله عز وجل >>(33)

وإذا كان الألفُ في الوجود بهذه المرتبة العَلِيَّة فإن الباء لها مرتبة الإيجاد والإظهار ، إذ بها ظهر الوجود وبالنقطة تميز العابد من المعبود، وقد قيل للشبلي : أنت الشبلي ؟ قال : أنا النقطة التي تحت الباء ، وكان الشيخ أبو مدين يقول: ما رأيت شيئا إلا رأيت الباء عليه مكتوبة فالباء مصاحبة للموجودات في حضرة الحق في الوجود : (بي) ، وبهذه الكلمة قام كل شيء وظهر ، ووقع الفرق بين الباء والألف الواصلة ، فـالألف تعطي الذات والباء تعطي الصفات، ولذلك كانت أحق من الألف بسبب النقطة التي تحتها وهي الموجودات ، وبسبب كونها تُمثل مقامَ العقل الذي هو ثاني مرتبة في الوجود، ولهذا كانت في المرتبة الثانية من الحروف ، وكانت النقطةُ تحتها هي الأعيانَ . ولأجل هذا قال العارفون بالقرآن : إن الفاتحة في البَسْمَلة ، والبَسملةَ في الباء ، والباءَ في النقطة مُندرجةُ ومُدمجة ، فهي أمُّ الكتاب ، وجميع الكتب الكامنة فيها .

فجميع الأشياء المتعددة ظهرت من الباء ؛ التي لها جملةُ وجوهٍ كلُّها تُعطي معنى البقاء ، ولها أسماء منها : القلمُ ، والحق ، والعدلُ والعقلُ ، وأحسنُ أسمائها الباءُ من طريق ظهورِ الأشياء بها ، لأنها واحدُُ ، ولا يَصدر عنه إلا واحدُُ ، فهي ألفُُ على الحقيقة وَحْدَانيُُّ من جهة ذاتها ، وهي باءُُ من جهة أنها ظهرت في المرتبة الثانية من الوجود ، فلهذا سُميتْ باءً . ولمَّا كانت في المرتبة الثانية ، والواحدُ لا يقال فيه عدد ، والباء اثنان من جهة المرتبة فهي عدد ، والأشياء عدد ، فصار العددُ في العدد وهو الباء ، وبقيَ الواحد الأحد في أحديته مقدسًا ومُنزها .

و يجدر هنا أن نذكر أن الباء سُميت باءً من الباه ،قُلِبَت الهاءُ همزةً رمزًا ، وهو في كلام العرب كثيرُُ . والباء في اللغة هو النكاح ، وكذلك البَاهُ . فالباء على الحقيقة هي النكاح ، وهي بلا هاء، وإنما جاءت الهاء في آخرها إشارة لأهل الإشارات ، حيث أن الهاء هو الباء ،والباء هو الهاء ، فقالوا: الباه ، كأنهم قالوا : البَاءُ هُوَ، أي هو الباء. ولما كان الوجودُ المحدَثُ نتيجةً كان لا بُدَّ من أصلين ، فتوجَّه الحق على هذه الباء، وهو الموجود الثاني ، فامتد فيه ظِل الكون } أَلَمْ تر إلى ربك كيف مَدَّ الظل{ (34) فـامتد العالمُ من الباء ،عند مقابلة الحق امتدادَ الظل من الجسم عند مقابلة الشمس ،فكما خرج الظل على صورة الممتَدِّ منه ، خرج الكون كذلك على صورة الباء . ولهذا قال العارف : ما رأيت شيئا إلا رأيتُ الباء عليه مكتوبة ، فهو قد رأى صورة الباء في كل شيء تَكَوَّنَ عنها ، لأن كل شيء هو ظلها ، فهي سارية في الأشياء (35)، ومِنْ شَرَفِها افتتاحُ الحق تعالي كتابه بها حيث قال } بسم الله{ ، فبدأ بالباء، وهكذا بدأ بها في كل سورة ، فلما أراد أن يُنزل سورة التوبة بغير بسملة ابتدأ فيه بالباء فقال : } براءة من الله { فبدأ بالباء دون غيرها من الحروف ، لأنها أول موجود .

والمقصود بكون الباء هي أول موجود هو الذي يُشير إليه ابن الفارض بقوله : ( الطويل)
وَلَوْ كُنْتَ مِنْ نُقْطَةِ اٌلْبَاءِ خَفْضَةً رُفِعْتَ إِلَى مَا لَمْ تَنَلْهُ بِحِيلَتِــي
بِحَيْثُ تَرَى أَنْ لاَ تَرَى مَا عَددْتُهُ وَأَنَّ اٌلَّذِي أَعْدَدْتُهُ غَيْرُ عُدَّتِي

يعني أنه لو كنت في مَعِيَّتِك التي هي نقطة الباء والتي بها تميَّز العبدُ عن الرب حركة خفضٍ بحيث تقول : إنما تميزت عن ربي بغناه وفقري لَرُفِعْتَ برؤيتك من هذا الخفض إلى مقام في العلو ولا يُنال لأحد بحيلة ، وعليه فإن إشارة الشبلي بكونه النقطة تحت الباء إنما هو دلالةُ على التميز ، فكما أن النقطة تدل على الباء وتُميزها من التاء والثاء ، فإن <<أنا>> تدل على السبب الذي عنه وُجدَت ، ومنه وُلدت ، وبه ظَهرت ، وبه بَطَنَت .

فروحانية الاستعانة بالباء تتمثل في كون وجود الكون موقوفًا عليها ، وقد جُعلت النقطة تحتها دليلا لكونها تلتبس صورتُها بصورة ظلها ، فيَتخيل الكونُ أنه قام بنفسه ولا يَعرف أنه ظِلٌّ ، فإذا اندرج ظِل الباء في الباء تَبينَ له بكونه لم يندرج في النقطة أن ثمة أمرًا زائدا عليه ، وهو الباء الذي دلت عليه النقطة ، وقد جُعلت من أسفل لأن صدور الكون من الباء إنما يَظهَر في السُّفل من مقام الباء ، فتكون النقطةُ بين الباء وبين الكونِ هي عينُ التوحيد ؛ الذي هو حقيقة الوجود .

فالتوحيدُ الكائن بين الكون وبين الباء هو الحاجزُ الذي يمنع الباء من الدعوة ، ويَمنع الكونَ من الشِّرْكِ ، فيبقَى التوحيدُ معصومًا في الخَلق والأشياء ، إذْ مَا من شيء إلا والباء عنده ، وما من شيء إلا ونقطة الباء فيه (36) .فالباء حرف اتصالٍ ووصلٍ بهذا المعنى التوحيدي ، وتُشبهها في ذلك الميم لأن الشفتين تتصلان بهما بعد افتراقهما ، وهذا هو شأن المحبين إذا اجتمعا وتعانقا وامتزجا . وللنون أيضا نفس خاصية الاتصال والوَصْلِ، لكن بين الاتصالين فرقًا :
- اتصال النون يتم في العالم الأوسط (= عالم الخيال الروحاني والعلوي)
- واتصال الباء والميم يتم في عالم الشهادة .(37)
والإنسانُ في هذين الاتصالين يمثل حركةً توحيدية باعتباره كائنًا جمع الله فيه بين حقائق الألفات والباءات والتاءات .فالألفات : أسمعُ ، وأرى ، وأعلمُ ، والباءات : بي ، وبك ، وبنا ، والتاءات : نفختُ ، وسويتُ ، وخلقتُ. فصار بمجموع حقائق الألفات والتاءات والباءات مَعْنَى (تاب عليه) أي على آدم رمز البشر (38). فالبشرُ في الحقيقة ما هو إلا ياء ، لأنه آخر المخلوقات ، كما أن الياء آخر حروف اللغة والياء هي الروح وهي الذات، وهي التي تنسبُ كل شيء إلى النفْسِ : بيتي ، عَالَمِي، روحي …الخ (39). فهل معنى هذا أنه مستقل بذاته كحرف له هذه الخاصية ؟ أم أنه محكوم بحروفٍ هي التي تُعطيه هذه الإمكانية الوجودية ؟ وما هي هذه الحروف ؟ .


1.3 حروف الاسم الأعظم :

إنها حروف الاسم الأعظم الذي انبثقت منه كل الأسماء الحُسنى ، وحروفُ الأمر المُحكَم الذي تجلَّى في حروف الفواتح ، فمن هذه الثلاثية الحروفية ينطلق ابن عربي في تفسير الحروف عامة ، حيث نجد تفسيره هذا متماهيا مع تفسيره للأسماء الحسنى ، فرمز الحرف عنده يدخل في رمز الاسم ، ورمز الاسم يدخل في رمز الوجود : ( البسيط)

إِنَّ اٌلْوُجُودَ لَحَرْفٌ أَنْــتَ مَعْـــنَــــــــاهُ وَلَيْسَ لِي أَمَلٌ فِي اٌلْكَوْنِ إِلاَّهُ
اٌلْحَرْفُ مَعْنًى ، ومَعْنَى اٌلْحَرْفِ سَاكِنُهُ وَمَا تُشَاهِدُ عَيْنٌ غَيْرَ مَعْنَاهُ (40)

بمعنى أن التجلي الحروفي من النفَس الإلهي ، وتجليه في الفِعلِ الأسمائي ، هو ما يُعطي لحروف اللغة إمكانيةَ موازاتها لمراتب الوجود الأساسية . فالنفَس الإلهي برزخٌ تَضمَّن مراتب وجودية يصلُ عددُها إلى ثمانٍ وعشرين مرتبة أساسية ، توازي كل واحدة منها حرفا من حروف اللغة العربية الصوامت أو السواكن LES CONSONNES ، أما الصوائت أو الحركات LES VOYELLES فإنها توازي مراتب المستوى الأول من البرزخ أي البرزخ الأعلى ، والعلاقة بين البرزخ ومستوياته كلها هي علاقة << الباطن >> و << الظاهر >>أي أن البرزخ الأعلى يرمز إلى << الظاهر >> مقارنًا بمستوى الذات الإلهية في وحدتها المطلقة ، ولكنه بالنسبة للمستوى الثاني الذي هو عالم العقول يرمز إلى << الباطن >> وهذا المستوى الثاني يعتبر من ناحية أخرى << ظاهرا>> بالنسبة للمستوى الأول ، غير أنه << باطن >> بالنسبة للمستوى الثالث… وهكذا في كل مستويات البرزخ.

ونفس علاقة الظاهر والباطن تتمثلُ في العلاقة بين المراتب في كل مستوى على حدة ، فالمرتبة الأولى دائما في كل مستوى ترمز إلى << ظاهر >> المرتبة الأخيرة في المستوى السابق ، وهي << باطن>> بالنسبة للمرتبة التالية لها داخل نفس المستوى … وهكذا (41)
ومشاهدةُ هذا الوجودِ البرزخي أو الخيالِ المطلقِ لا تتأتى إلا لعارف رباني يقول للشيء << كن فيكون >> طبقا للحديث القدسي << عبدي أَطِعْني أجعَلْك ربانيا تقول للشيء كن فيكون >> وهو ما تحقق لابن عربي في الرؤيا التي رأى فيها أنه نكح نجوم السماء كلها ، فما بقى نجم فيها إلا نكحه بلذة عظيمة روحانية ثم لمَّا أكمل نكاح النجوم أعطِيَ الحروف فنكحها كلها في حال إفرادها وتركيبها ، وأُعطيَ فيها سِرًّا إلهيا يدل على شرفها ، وما أودعَ الله عندها من الجلال . ولما عرض رؤياه هاته عل رجل بصير بالرؤيا وعِبَارَتِها استعظَم ذلك ، وقال : هذا هو البحر الذي لا يُدرَك قعرُه ، صاحب هذه الرؤيا يَفتح من العلوم العُلوية ، وعلومِ الأسرارِ ، وخواصِّ الكواكب والحروفِ ما لا يكون بيد أحد (42).
وهذا السر الإلهي الذي أُعطيَه ابن عربي في الحروف هو الذي جعله يستشف في الأبجدية باعتبارها نفسَا رحمانيا ما يستشفُّه في الأسماء الحسنى وعلى رأسها الاسم الأعظم .
فاسم الجلالة << الله >> هو وحده الذي اكتسب الوجودَ بحقيقته ، فالله قد جعله


مرآة للإنسان ، إذا نظر فيها بوجهه عَلِمَ حقيقةَ << كان الله ولاشيء معه >> وأدرك أن سمعَه سمعُ الله ، وبصَره بصرُ الله ، وكلامَه كلام الله ، وحياتَه حياة الله ، وعِلمَه علمُ الله ، وإرادتَه إرادةُ الله وقدرتَه قدرةُ الله ، وذلك كله بطريق الأصالة (43). فهذا الاسم هو هَيُولَى الكمالات كلها ، لا يوجد كمال إلا وهو تحت فَلَكِه ، وكمالُ الله لا نهاية له ، لأن كل كمال يُظهره الحق من نفسه فإن له في غيبه من الكمالات ماهو أعظم من ذلك وأكمل ،والهَيولَى لها نفس الشيء، لا يُدرَك لَمَا فيها من الصور غايةُُ . ولهذا كان هذا الاسم هَيُولَى كمالِ صُورِ المعاني الإلهية ، وكان كل تَجلٍّ من تجليات الحق التي لنفسه في نفسه داخلا تحت مِظَلة هذا الاسم ، إلا الظلمة التي تُسَمَّى بُطون الذات في الذات فإنه نورٌ لَهَا، فيه يُبصِرُ الحق نفسه .
إنه اسم خماسيُّ الحروف نُطقًا ، رُباعيُّها كِتابةً ، فمن ناحية النطق فهو مُكون من خمسة حروف ؛هي: (ألِف ، لام ، لام ، ألِف، هاء)، وكل واحد منها له دلالة خاصة ودلالة عامة ، زيادة على الدلالة الكلانية والوجودية .

v فالألف الأولى : هي عبارة عن الأحدية التي هلكت فيها الكثرة كُلِّيَا ، لأنها أو تجليات الذات المطلقة في نفسها لنفسها بنفسها ، ولأجل هذا كان الألف في أول هذا الاسم مُنفردًا لم يتعلق به شيء من الحروفُ ،إشارة إلى الأحدية التي ليس أول الأوصاف الحقيقية ولا للنعوت الخَلقية فيها ظهور ، فقد بَطَنَ فيها حُكمُ كل شيء من حقائق أسماء الحق وصفاته وأفعاله ومؤثراته ومخلوقاته ، ولم يَبق إلا صفة ذاته المعبَّرُ عنها بالأحدية ، والمرموزُ لها بهذه الألف.
v واللام الأولى : هي عبارة عن الجلال ، ولهذا كانت موالية للألف ، لأن الجلال أعلى تجليات الذات ، وأسبقُ إليها من الجمال . وقد ورد في الحديث النبوي << العظمة إزاري والكبرياء ردائي>> (44) ، ولا أقرب من الإزار والرداء إلى الشخص، فظهر بهذا أن صفات الجلال أسبق إلى الذات من صفات الجمال .
v واللام الثانية: هي عبارة عن الجمال المطلق الساري في مظاهر الحق . وجميع أوصاف الجمال راجعٌ إلى وصفين : العلم واللطف ، كما أن جميع أوصاف الجلال راجع إلى وصفين : العظمة والاقتدار .
v والألف الثانية : ( الساقطة كتابة والظاهرة نُطقا ) هي عبارة عن الكمال الذي لا نهاية له ولا غاية ، والمستوعب لكل المظاهر الذاتية استيعابا مُطلقًا . وسقوطها في الخط دليل على هذا ، لأن الساقط لا تُدرك له عين ولا أثر، أما ثبوتها في اللفظ فهو إشارة إلى حقيقة وجودِ نفس الكمال في ذات الحق .
v والهاء : هي عبارة عن هوية الحق الذي هو عين الإنسان ، فالإنسان هو صورة الله المعنوية الجامعة للجلال والجمال والتنزيه والتشبيه والإطلاق والتقييد ، يُقابِل الخَلق ببشريته ، ويُقابل الحق بروحانيته ، ويُقابل عالمَ المُلك بجسمه ونفسه ، وعالمَ الملكوت بقلبه وعقله ، كما يُقابل عالمَ الجبروت بروحه وسره ، فهو من حيث بشريته حادثٌ و مُمكنٌ وعدمٌ وخيالٌ ، وهو من حيث روحانيتُه الواجبُ بالله تعالى ، والوجــــودُ ، والحق والحقيقةُ . يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري في حِكَمه :<< تَحققْ بأَوصافكَ يُمَجِّدْكَ بأوصافه ، تَحقق بذلك يُمِدَّك بِعِزَّته ، تحقق بعجزك يُمِدَّك بقدرته ، تحقق بضعفك يُمدَّك بحوله وقوته >>.إن استدارة رأس الهاء إشارة إلى دوران رَحَى الوجود الحقِّي والخَلقي على الإنسان ، فهو في عالم المثال كالدائرة التي أشارت إليها الهاء .فالدائرة حق ، ومركزُها حق ، وهي كذلك خَلق ومركزها حق ، وعليه فإن الإنسان هو حق وخَلق ، له ذلُّ العبودية والعجز ، وله الكمال والعِزُّ.(45)

هذه قراءة الاسم الأعظم من ناحية حروفه المنطوقة ، أما من ناحية حروفه المكتوبة فقط (ألف ،لام ، لام ، هاء) فإن قراءته ستوقفنا على الحقائق التالية:

1ـ إن عدد حروف هذا الاسم أربعة ، وهو عددُ حروف أسماء الأنبياء الأربعة : داود ، موسى ، عيسى ، محمد ، وعددُ الكتب المنزَلة عليهم .فما السر في هذا التوافق العددي في حروف أسماء هؤلاء الأنبياء واسم الجلالة ، وعدد الكتب التي أُنزلت عليهم؟
2 ـ إن الله تعالى هو الوجود المحض ، وهو الذات المتصفة بالصفات والمسمَّاة بالأسماء ، والفاعلة للأفعال. وكل حقيقة من الحقائق الحقية والخَلقية أنزلها على نبي من أنبيائه ليتعرَّف على ربه ويُعرِّف بها قومَه الذين أُرسل إليهم .

3 ـ إن الكتب التي أُنزلت على هؤلاء الأنبياء تختلف في ماهية التعبير عن الذات الإلهية من حيث التجليات .

فالزبور : أنزله الله على داود آيات مفصلات ، ولكنه لم يخرجه إلى قومه إلا جملة واحدة بعد ان أكمل الله تعالى نزوله عليه ، وهو عبارة عن تجليات أسماء الأفعال الإلهية، وأكثره مَواعظُ ، وبَاقِيهِ ثناء على الله بما هو له فيه .

والتوراة : أنزله الله على موسى في تسعة ألواحٍ؛ هي : النور ، الهدَى ، الحِكمة ، القُوى ، الحُكم ، العبودية ، النَّجْدَان (=أي وضوح طريق السعادة من طريق الشقاوة )، الربوبية ، القدرة . وهذه الألواح التسعة التي تُكَون التوراة هي عبارة عن تجليات جملة أسماء الصفات الإلهية فقط.

والإنجيل : أنزله الله على عيسى ، وأوله : بِاٌسْمِ الأب والأمِّ والابن ، كما أن القرآن أوله : بسم الله الرحمن الرحيم . والمراد بالأب هو اسم الله ، وبالأُم كُنه الذات المعبَّر عنها بماهية الحقائق ، وبالابن الكِتَابُ وهو الوجود المطلق ، لأنه فرعُُ ونتيجة عن ماهية الكُنْهِ فالانجيل عبارة عن تجليات أسماء الذات الإلهية فقط.


أما القرآن:فقد أنزله الله على محمد مُنَجَّمًا ، وهو عبارة عن تجلي الذات ، وعن تجليات الأفعال والأسماء والصفات الإلهية . ومن ثمة كان عبارة عن الذات التي تضمحل فيها جميع الصفات ، لكونها المَجْلَى المسمَّى بالأحدية المنزَلة على محمد ، ليكون مشهدُه الأحديةَ من الأكوان .

ويترتب على هذه الحقائق الثلاث خمسُ ملاحظات :

أ-إن أي واحد من هؤلاء الأنبياء الرسُل السابقين على محمد لم يُنزل الله عليه المجموع الذي هو تجلي الذات،ولذلك لم يكن أحد منهم خاتم الأنبياء والرسل ، ولم تكن رسالته خاتمة الرسالات السماوية .
ت‌- إن أي واحد منهم لم يُرسل إلى البشرية جمعاء ، بل أُرسل كل فرد منهم إلى قومه فقط ، وذلك لأن معرفة الله على الكمال ، أي معرفة ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله تعالى على الكمال لم تحصل بعد.


ج- إن القرآن هو الكتاب الجامع للكتب المتقدمة والمحتوي على معرفة الله تعالى على الكمال لأنه يحتوي على تجلي الذات الإلهية الذي يقتضي بالضرورة احتواءَ تجلي الصفات والأسماء والأفعال. ولهذا كان آخر الكتب ، وكان محمد ص الذي أُنزل عليه خاتم الرسل والأنبياء والرسالات ، ورسولاً للبشرية جمعاء.

د- إن هذه الكتب يتميز بعضها على بعض في الأفضلية بقَدر تَميز المُرسَل بها على غيره عند الله ، وإن كانت كلها من مشكاة واحدة ، وتدعو إلى عبادة إله واحد ، والدليل على هذا قوله ص:<< سورة الفاتحة أفضل القرآن >> (46) ، فإذا صحت الأفضلية في القرآن بعضه على بعض ، فهي في الكتب السابقة أَوْلَى .

هـ – إن القرآن هو الرابع بين هذه الكتب، والأربعة بلا شك تتضمن الأعداد التي قبلها وتحتويها ، ولكن ما قبلها لا يُمكن أن يحتويها ، فهي رمزٌ لعدد حروف اسم << الله>> المكتوبة ، ورمزٌ للقرآن الذي هو ذات الله.

وإذا رجعنا إلى أصل اسم << الله>> فسنجد أنه هو << الإله>> ، ولكن الألف الوسطى سقطت منه ، وأُدغِمَت اللام في التي تليها ، فصارت الكلمة << الله>>. وعلى هذا الأساس فإن الأصل مُكون من سبعة حروف :ستة رقمية (=كتابية)، والسابعُ الواو الظاهرة في إشباع الهاء هكذا: ( ا ل إ ل ا هـ و)، وهي عينُ السبعِ الصفات التي هي الأُلوهية .
وإذن؛ فحروفُ أصلِ اسمِ << الله>> تَفرضُ قراءة أخرى تستكنه معناها ، وتستجلي صفات الأُلوهية المُضَمَّنَة فيها :

فالألف الأولى : هي عين اسمِه الحي ، فحياة الله تعالى سارية في جميع الوجود، كسريان الألف في جميع الحروف .فالألف هنا رمز لهذه الحياة السارية في الكون حِسّا ومَعنى .
واللام الأولى : هي الإرادة التي كانت أولَ تَوجُّه من الحق في ظهور العالم ، كما أشار إلى ذلك الحديث القدسي << كنُتُ كنزا مَخفيا لا أُعرف ، فأحببتُ أن أُعرف ، فخلقتُ الخلق ، فبي عرفوني >> ، وليس الحب إلا الإرادة .
والألف الثانية : هي القدرة السارية في جميع الموجودات الكونية ، إذ الموجودات كلها داخلة تحت سُلْطان القدرة .
واللام الثانية : هي العلم ، وهو جمال الله تعالى المتعلق بذاته وبمخلوقاته . فقائمة اللام مَحلُّ عِلمه بذاته ، وتعريقُها مَحلُّ عِلمه بمخلوقاته ، ونَفْسُ الحرف هو عين العِلم الجامعِ.
والألف الثالثة : هي السمعُ السامعُ ؛ الذي يُجلّيه منطوقُ} وإِنْ من شيء إلا يُسبّحُ بحمده{(47)

والهاء: هي بَصَرُ الله ، فدائرة الهاء تدل على إنسانِ غيبه المُحيط الذي ينظر به إلى جميع العالم ،والعالم هو البياض الموجود في عين دائرة الهاء . وفي هذا إشارة إلى أن العالم ليس له وجودٌ إلا بِنَظَرِ الله تعالى وإليه إِذْ لو رفعَ نظره عنه لَفَنِيَ بأجمعه ، كما أنه لو لم تَدُرْ دائرة الهاء على النقطة البيضاء لم يكن لها وجود البَتة ، ومع وجودها فهي باقية على ما كانت عليه من العدم ، لأن البياض الموجود قبل استدارة الهاء موجود بعدها ، وكذلك العالم مع الله على حالته التي كان عليها قبل أن يَخلقه الله.

والواو : الظاهرة في إشباع الهاء ، هي مَعنى يُشير إلى كلام الله تعالى ، وعَدَدُها في المرتبة السادسة ، ومن ثمة تُعتبر رمزًا لِلسِّتِّ الجهات التي غايةُ نهايتِها كمالُ العرش الرحماني المنسوبِ إلى كل جهة . فكما أن كلام الله لا نهاية له كذلك المخلوق الداخل تحت حيطة العرش مُمكِنٌ ، ولا نهاية للمُمكِن ، فعدمُ النهاية في الواجب الوجود ظهَرَ بعينه في المُمكِن الجائز الوجود والعدم.

إن هذه السبعة الأحرف هي عين معنى اللهِ وصورتِه اسمًا وذاتًا ، وليست سواه، وهي هي . فالحق تعالى تَسمَّى باسم << الله>> قبل أن يخلق العالم ، لأنه غَني عنه، بخلاف اسمه << الرحمن>> فإنه ناظر إلى ظهور أثر الرحمانية في المرحوم . وكذلك الرب والخالقُ وبقية الأسماء الرحمانية كالمُعطي والواهب والمنتقم التي تطلب مُؤثَّرًا يظهر فيه أثرها ، كالعلم فإنه يطلبُ معلومًا ، وككلمة <<كُنْ>> فإنها تطلبُ مُكوَّنا ، فهذه وما مَاثَلَها أسماء رحمانية . وأما اسم << الله >> فهو عَلَمٌ للذات التي هي هُوِّيَّة كل هوية ، وأَنِّيَّةُ كل أنّيّة ، وأَنَانِيَّةُ كل أنانية ، وهو الجامع للشي وضِدِّه (48) . وبما أن هذا الاسمَ هو هوية كل شيء ، فإن هوية الإنسان من هويته ، ولذلك كانت أحرف كلمة << الإنسان >> كذلك سبعة أحرف مقابلة في عددها لعدد أحرف كلمة << الإله>> السبعة . والسر في هذا هو أن الإنسان مُقابل للحق من وجهٍ ، ومُقابِلٌ للخَلق من وجه آخر ، كما أنه مقابل لعوالم المُلك والملكوت والجبروت ، يُقابِل الأول بجسده ، والثاني بقلبه ، والثالث بروحه .

إن إسم << الله>> هو أعلى الأسماء ، وأعْلَى مَظاهرِ الذات مَظهر الألوهية ، إذ له الحيطةُ والشمول على كل مَظهر ، وهَيمنةٌ على كل وصف أو اسم . فالأُلوهية هي أُمُّ الكتاب، والقرآن هو الأَحَدِيَّة ، والفرقانُ هو الواحدية القرآنية . والأَحَدِيَّةُ هي أعلى الأسماء التي تحت هيمنة الألوهية ، والواحدية أولُ تنزلات الحق من الأحدية، فأعلى المراتب التي شملتها الواحدية هي المرتبة الرحمانية ، وأعلى مظاهر الرحمانية في الربوبية ، وأعلى مظاهر الربوبية في اسمه المَلِك، فالمَلَكِية تحت الربوبية ، والربوبية تحت الرحمانية ، والرحمانية تحت الواحدية ، والواحدية تحت الأحدية ، والأحدية تحت الألوهية ،لأن الألوهية هي إعطاءُ حقائق الوجود وغير الوجود حقَّها مع الحيطة والشمول ، والأحدية حقيقة من جملة حقائق الوجود. فالألوهية أعلى ، ولهذا كان اسم الله أعلى الأسماء ، وأعلى من اسمه الأحَدِ،و الأَحديةُ أخصُّ مظاهر الذات لنفسها ، والأُلوهيةُ أفضلُ مظاهر الذات لنفسها ولغيرها ، ولذلك مَنَعَ أهلُ الله تَجلِّي الأحدية ، ولم يمعنوا تجلي الألوهية ، لأن الأحدية ذات مَحْضٌ لا ظهورَ لصفةٍ فيها ، فضلاً عن أن يَظهَر فيها مخلوق ، فامتنعَت نِسبَتها إلى المخلوق (49)

أما اسم الله تعالى << الرحمن>> فهو بخلاف ذلك ، لأنه يجمع تحته جميع الأسماء الإلهية النفسية ؛ وهي سبعة : الحياة، العِلم ، القدرة ، الإرادة ، السمع ، البصر ، الكلام ، بعد حروف هذا الاسم؛ التي سنُفصِّل الحديث عنها أدناه :

فالألف الأولى :هي الحياة ، فهي رمز لحياة الله السارية في جميع الأشياء بنفسها ، كما الألف سارية بنفسها في كل الحروف ، حتى أنه ما ثَمَّ حرف إلا والألِفُ موجودة فيه لفظا وكتابةً, ومن هنا كان حرفُ الألف مَظهرَ الحياة الرحمانية السارية في الكائنات .
واللام : هي مَظهرُ العِلم ، فمَحلُّ قائمتها عِلمُه بنفسه ، ومَحلُّ تعريقها عِلمُه بالمخلوقات .
والراء : هي مَظهرُ القدرة المُبرَزَة من كون العدم إلى ظهور الوجود ، فتَرَى ما كان يَعلَمُ ، وتُوجِدُ ما كان يَعْدِمُ
والحاء : هي مَظهرُ الإرادة ، ومحلُّها غيبُ الغيب، فدلالةُ الحاءِ على هذا واضحة هنا ، لأنها تَخرجُ من آخر الحلق إلى ما يلي الصدر ، والإرادة كذلك مجهولة في نفس الله ، فلا يعلم ولا يدري ماذا يريد ، فيقضي به ، فهي غيب مَحْضُُ.
والميم : هي مَظهرُ السمع ، فمَخْرَجُها شفوي أي من ظاهر الفم ، إذ لا يَسمع إلا ما يُقال وما قيل ، فهو ظاهرٌ سواء كان القول لفظيا أو حاليا . فدائرة رأسِ الميم المُشابهةُ لَهَا الهُوية محلُّ سماعِه لكلامه ، لأن الدائرة يعود آخرها إلى المحل الذي ابتدأت منه ، وكلامُه منه ابتدأ وإليه يعود . وأما تعريقة الميم فَمَحَلُّ سماعه لكلام الموجودات حَاليًّا كان أو مَقاليًّا .

والألف الثانية : ( التي بين الميم والنون) هي مَظهرُ البصر ، ولها من الأعداد الواحدُ ، وهو إشارة إلى أن الحق لا يرى إلا بذاته . وسقوط الألف هاته من الكتابة يشير إلى أن الحق لا يرى المخلوقات إلا من نفسه ، فهي ليست بغير له ، وإثْباتُها في اللفظ يُشير إلى تَمْيِيزِ الحق بذاته في ذاته عن المخلوقات وتَقدُّسِه وتعاليه عن أوصافهم وما هم عليه .
والنون : هي مَظهرٌ لكلامه تعالى ، وكنايةٌ عن اللوح المحفوظ ، زيادة على أنها عبارة عن انتقاش صُورِ المخلوقات بأحوالها وأوصافها كما هي عليه جملةً واحدة ، وما هذا الانتقاشُ إلا كلمة اللهِ لَهاَ (كُنْ) فهي تكون ، على حسب ما جرى به القلمُ في اللوح الذي هو مَظهرٌ لكلمة الحضرة ، إِذْ كلُّ ما يَصدرُ عن (كن) فهو تحت حيطة اللوح المحفوظ . ولهذا كانت النقطة التي فوق النون إشارة دالة على نقطة الوجود، أي على ذات الله الظاهرة بصورة المخلوقات ، فأولُ ما يَظهر من المخلوقات ذاتُه ، ثم يَظْهَرُ المخلوق ، لأن نون ذاته أَعْلَى وأَظْهرُ من نون المخلوق ، فدائرة النون السُّفلَى هي إشارة إلى هذه المخلوقات (50) فالنونُ السفلىَ لها ارتباطٌ بالنون العُليا ، وهذا الإرتباطُ يتمثَّل في العبودية التي هي حرفٌ من حروف الأمر المُحكم ؛ فما هي حروف هذا الأمر ؟ وأين تظهر؟

2.3 حروف الأمر المُحكَم :

إنَّ الأحدية مرتبطة بالعبودية ارتباطَ الألف باللام (=لا) ، فَمن غابَ عنها لا يرى نفسَه ، فهي حضرة التوالي والارتباط ، فسرُّها كسرِّ ارتباطِ اللام بالألف لا ينكشف ، مُودَعٌ في قوله تعالى :} الله الذي رفع السموات بغير عمَدٍ ترونها ، ثم استوى على العَرْشِ{ (51) ، لأنه نورٌ يَطلُعُ بطلوعِ نجمِ العبودية ، لو انقصم لم يكن وجودٌ (52) ، وذلك لأن الوجود كله مَسَيَّرٌ ومُدَبَّر بسبعين حرفًا أٌنزِلَ عليها الأمر ، تَظهرُ كلها في حرف واحد ، وهذا الحرف هو إشارة إلى جوهر النبوة والنبيِّ والحروف دائرته .
عشرون من هذه الحروف السبعين مُظهَرة في الإنزال ، والباقي مُدرَجَة فيها ؛ وهي :
1ـ الغين : وهي سِمةُ الحق في الأعيان
2ـ الميم : وهي ناظرُ الحق.
3ـ الكاف : وهي كاتب الحق.
4ـ النون : وهي شأن الحق.
5ـ الحاء: وهي حافظ الحق
6ـ الفاء : وهي فاتحة الحق
7ـ الألف : وهي سلطان الحق
8ـ الذال : وهي شاهد الحق .
9ـ القاف : وهي داعية الحق
10ـ الباء : وهي ناظر الحق
11ـ الهاء : وهي هادي القرآن ، والقرآن حق
12ـ الراء : وهي دولة الحق
13ـ التاء : وهي مشهود الحق
14ـ اللام : وهي حَل الحق
15ـ الجيم : وهي يقين الحق
16ـ السين : وهي سَناءُ الحق وسنا برقه
17ـ الزاي :وهي زاد الحق
18ـ الدال : وهي علو الحق
19ـ الواو : وهي وجه الحق
20ـ لاَمُ الألف : وهي آية الحق (53)

فهذه العشرون حرفًا قد اندرجت فيها بقية حروف الأمر الإلهي المُحكم المُتِمَّةُ للسبعين ، والتي هي دائرة النبي ونبوته ، فهي تظهر في النبي ، ولا يمكن لأحد أن يعرف حقيقتَه إلا بعد الإطلاع عليها ، فهي سبعون في واحدٍ ، والواحد حقيقة ، تَظْهَرُ في سبعين ألفٍ في واحد ، وهو الرب جَلَّ جلاله (54) . وإذن فحروفُ الأمر المحكم تُمثِّلُ دائرة الله تعالى ودائرة النبوة المُخوَّلِ لها التصرف في الوجود بمقتضى الحروف المنزلة عليها .

3.3 حروف الفواتح :

لقد خصَّصَ ابن عربي لحروف أوائل السور القرآنية وأسرارها عدة قصائد في ديوانه الكبير؛ منها قصيدة تُنَيِّفُ على عشرين بيتًا ، يقول فيها : ( الوافر)

حُرُوفُ أَوَائِلِ اٌلسُّوَرِ يُبَيِّنُهَا تَبَايُنُهَا
إِنَ اٌخْفَاهَا تَمَاثُلُهَـــا لَتُبْدِيهَا مَسَاكِنُهَا
فَمَا أَخْفَاهُ مُضْمَرُهَا لَقَدْ أَبْدَاهُ كَائِنُهَا (55)

وقصيدة أخرى تبلغ ثلاثة وثلاثين بيتًا ، يذكر فيها الحروف المقطَّعة في أوائل السور القرآنية ، مَطْلِعُها : ( الوافر)
أَلِفْ لَمْ مِمْ وَذَلِكَ مَا أَرَدْنَا مِنِ اٌنْزَالِ اٌلْكِتَابِ عَلَى وُجُودِ
وخاتمتُها
أَلاَ إِنَّ اٌلْبَرَاءَةَ مِنْ قُيُودٍ لَأَوْثَقُ مَا يَكُونُ مِنَ اٌلْقُيُودِ (56)

ويَبلغ عددُ السور القرآنية المبدوءة بحروف مقطُّعة ثلاثين سورة ؛ منها ما بَلغَ عددُ الحروف المقطعة فيها خمسة حروف وهو الأقصى (= كهيعص) ، ومنها ما لم يتجاوز حرفًا واحدًا (= ص، ق ، ن) . وبذلك يكون عددُ الحروف في أوائل السور ثمانية وسبعين حرفًا بالتكرار ، وبعد حذف السور المكررة فيها الأحرف يبقى ستة وثلاثون حرفًا، وبعد حذف الأحرف المكررة يكون العددُ أربعة عشر حرفًا ، أي نصفَ حروف العربية ، وقد تعددت الآراء فيه بين مذهب أهل الظاهر ومذهب أهل الحقائق العارفين ، فمنهم من أوَّل ومنهم مَن أعرضَ عن التأويل ، ومنهم مَن جعل هذه الحروفَ مُسَمَّياتٍ للقرآن ، ومَن جعلها مدلولاً على أسمائه تعالى ، ومنهم كذلك مَنْ أَوَّلَ هذه الحروف وأرجعها إلى :
1- أسماء من أسماء الحق ، فقال في ( الم) : الألف يدل على اسمه ( الله) ، واللام على اسمه ( لطيف ) ، والميم على اسمه ( مجيد ) . فالألفُ آلاَءُ الله ، واللامُ لُطفُه، والميمُ مَجْدُه .
2- عَدَدِ السِّنين ، حيث ربطها بها . كما حكى ذلك ابن كثير في تفسيره حين قال : الأَلِفُ سَنة ، واللامُ ثلاثون ، والميمُ أربعون سنة .
3 – استخراجِ حوادِث الزمان ومواقعِه وفِتَنِه ومَصالِحه ومَضارِّه ومنافعه، بحيث اعتبرها دالة على ذلك بطريق الترميز .
4- كونِها لها تعلقٌ بأسماء ِ الملائكة
5- كونِها لها ارتباطُ بمَدارات الفلك والكواكب والطِّلَّسْمَاتِ
6-كونِها رمزًا لعلِمٍ مُعيَّن من علوم الحق ، اختصَّ به أهل ولايته المتحققين دون غيرهم ، لأنها من علوم اللوح(75)

وهذه الحروف الأربعة عشر (= ا ل م ص ر ك هـ ي ع ط س ح ق ن ) يَجمعها قولك :<< نَصٌّ حَكيمٌ قَاطِعٌ لَهُ سِرٌّ>> ، والحكمةُ من ذكر الأربعة عشر حرفًا هذه دون الأربعة عشر الأخرى هو – على حسب قول الزمخشري- كونُها مشتملةً على أصناف أجناسِ الحروف ، من المهموسة والمجهورة ، ومن الرخوة والشديدة ، ومن المُطْبِقة والمفتوحة ، ومن المستعلية والمنخفضة ، ومن حروف القلقلة والغُنّة ، فهذه الحروف الأربعة عشر هي أُصول العربية ولُبُّها ، حوت كل فنون لغة العرب ، وبدونها تكون اللغة لاشيء ، وقد كثرت المشتقات منها، حتى أنها يتكون منها غالب المُعْجَمِ ، والعلومُ كلُّها في حروف المُعجَمِ . وقد قال الحكيم الترمذي في << نوادر الأصول >>: إن فواتح السور فيها إشارة إلى ما تضمَّنته السورة من المعاني ، ولايَعلم ذلك إلا حكماء الله في أرضه ، وهم قومٌ وصلت قلوبهم إلى الفردانية ، وتناولوا هذا العلَم من مشكاتها ، وهو علمُ حرفِ المعجم (58) ، والعلومُ كلها لا يُعبَّر عنها إلا بهذه الحروف ، فبالحروف ظهرت أسماؤها حتى عَبَّر عنها الناس بالألسنة.

فعلوم الحروف والأسماء – كما قال الإمام أبو زيد بن محمد في << شرحه لحزب البَرِّ الكبير >> للإمام الشاذلي – من علوم الكشف ، ولا فائدة في التصرف فيها والكلام عليها ببضاعة العقل . وعلمُ الكشف لا يَعرفُه مَن جهله ، ولا يجهله من عرفه ، وكلُّ على حسب ما فُتِح له ، ولذلك يتفاوتُ فيه أهلُه ، ويقع الاختلاف بينهم فيما يُشيرون إليه فيه ، ألم يقل القطب الدسوقي :<< إنني أشرُح في نقطة الباء سبعةَ أحمَالِ بعيرٍ ، فتتقطَّعُ قلوب العارفين ، وتميلُ عند معرفة نقطة الباء >> (59)


إن هذه الحروف هي المعجم ، والعلوم كلها في حروف المعجم ، ومبتدأُ العلم أسماءُ الله ، ومنها خرج الخَلقُ والتدبيرُ ، والأسماءُ من الحروف ظهرت وإلى الحروف رجعت ، فلو كان سِوى الاسم شيءٌ من العِلم يُحتاج إليه لعَلَّمَه الله آدم ، ولكن لَمَّا علَّمه الأسماء كلَّها عُلِمَ أن جميع العِلم داخل فيها (60)

والاسمُ له رُوحٌ وعددٌ ، ولذلك وردت الحروف في أحزابِ وأوْرَادِ الصوفية لِمَا عَلِمُوا من مغزاها وأسرارها ، فَوَقَّرُوا عُلُومَ الحرف ، وصانوها عن غير أهلها ، غيرةً على علوم الحق أن تصل إلى غير أهلها ، فالعارف منهم إذا كَمُل في مقام العرفان أورثه الله عِلمًا بلا واسطة وأخذ العلومَ المكنونة في ألواح المعاني ، ففهم رُموزَها وعرف كنوزَها ، وفكَّ طِلَّسْمَاتِها ، وعَلِمَ اسمَها ورسمَها ، واطَّلعَ على العلوم المودعة في النقطة ، ولا يمنعه من النطق بما يُبهِرُ العقولَ إلا خوفُ الإنكار ، ولذلك يَكتفي بالإشارات والترميزات إلى معاني الحروفِ ، والقَطْعِ والوصلِ ، والنصب والرفعِ ، وإلى ما هو مكتوب على أوراق الشجَر والماءِ والهواء، وما هو مكتوبُُ على قبة السماء (61) ، وما هو مكتوب بلا كتابةٍ من جميع ماهو فوقَ الفوقِ وتحت التحتِ .

وعليه؛ فإن الأسماء إنما قامت بالحروف ، والحروفُ كلها قدسية في كلام الله ، وفي صورة عِلمِه ، وكلها قديمة أزلية ، وُجدَت في عِلمِه ، وتكلمَ بها بقوله : ( الم ، المر ، حم ، عسق ، كهيعص ، طس ،طسميس، طه ،ص ،ق ، ن )إلى آخر الحروف . فهي قديمة بِقِدم الذات ، وليس قِدَمُها ما يُوجد في ألفاظنا ، ويُكتب بِبَيَانِنَا ، ويُتصَور في خيالنا ، فهي ليست الحروفَ التي نقول ، وإنما هي ما كانت هذه الأمورُ دالة عليها فقط ، فالحروف اللفظية : ( = النفسية ) والرقمية (= البيانية ) والفكرية (= الخيالية) هي دالة على تلك الحروف القدسية التي بها كلام الحق ، إذ لولا صورة الحروف القدسية ما عُرفَت صُورة الكلام ، ولا تميز بعضه من بعض ، ولا عُرفت معانيه . فالحروف القدسية وُجدَت عنها الأسماء الإلهية كلها ، وبَرزَ عنها الأمرُ الإلهي بقوله (كُنْ ) ، إذ ما في الوجود كله إلا ما قال له الحق ( كُنْ)، والوجودُ كله كلمات الحق ، فعن كلمة الحق وُجدت الموجودات كلها ، وأسماء المسَمَّيات هي من الوضع الإلهي .

والكلام الأزلي هو بحروف قدسية منزهة عن الآلات التي يقع النطقُ بها ، وهي واقعة في كلام الله ، نَعْنِي الحروفَ . ولا اعتبار لقولِ من قال إن الكلام الأزلي من غير حرف ولا صوت ، لأنه لم يُرِدْ بذلك سوى طردِ النَّافِينَ للكلام الأزلي عن قواعدهم . والكلام الأزلي ليس فيه تقديم ولا تأخير ، ولا حصرُُ ، ولا مادَّةُُ، ولا كيفيةُُ، فإذا بَرزَ من حيث ماهو << وسمعتَه زالت عنك الألباسُ كلها وهي القيود ، ورأيتَ الوقتَ حينذاك ذلك الوقتَ الذي كان قبل وجود الكائنات أنت فيه الآن ، وهو الوقت الذي كان في الأبد هو الآن أيضا ، وأما الألباس التي في الكلام الأزلي فإنما هي في وقت الحِجاب فقط>> (62) . ولهذا قال ابن العريف : ليس بين الله وبين العباد نَسَبُُ يصطفيهم لأجله ، أو يُعطيهم لأجله ، وإنما هناك العناية والمشيئة ، ولا سَبَبَ إلا الحُكمُ ، ولا وقت إلا الأَزَلُ ، وما بقي فَعَمًى وتلبيسٌ (63) ومعنى الأزل هو الذي فيه وجود الحق وحده ، ليس لشيء فيه نسبة ، وقد قال رسول الله ص :<< كان الله ولا شيء معه>> .

إن الوصول إلى الحقيقة الحقِّ في حروف أوائل السور متعذر ، وذلك لأن مساحة الرؤية والرؤيا دائما محدودة ومتغيرة من زمن إلى آخر ، فكل واحد منا يحيط بجانب من الحقيقة ، وتفوته جوانب ، ينظرُ من زاوية وتغيبُ عنه زوايا ، وما يصل إليه من صِدقٍ دائما هو صدقٌ نِسبي ، أما الصدق المطلق فهو لله صاحب العلِم المحيط ، والنظرِ الشامل .

وسَنُدَلِّلُ على هذا بهذه الحروف التي افتُتحت بها السور القرآنية ، ولنتخذ نموذجًا من سورة (ق) ، من حَيْثُ ما فيها من قافات ، وسنجد أن فيها سبعة وخمسين قَافًا ، ونفعلُ نفس الشيء مع سورة ( الشُّورى)- التي هي ضِعْفُ سورة ( ق) في الطول ، وفي فاتحتها (ق) – فنجدُها هي الأخرى تحتوي على سبعة وخمسين قَافًا . فهل هذه صُدفة؟ وإذا جمعنا عددَ القافات في السورتين (57+57= 114) فسيكون الناتج هو عدد سور القرآن الكريم . ثم إن سورة (ق) تبدأ هكذا } ق والقرآن المجيد { وتنتهي هكذا :} فذكِّر بالقرآن من يخاف وَعيد{ ، وكأنما ذلك إشارة إلى أن القاف ترمز للقرآن، وإلى أن مجموع القافات هو مجموع سُور القرآن .

وقد وضع بعض الباحثين المعاصرين سُورَ القرآن في الحاسوب ، فقدَّمَ له إحصائية بمعدلات تَواردِ حرف القافِ فيها ، حيث كانت النتيجة هي أن أعلى المتوسطات والمعدلات موجودة في سورة (ق) وأن هذه السورة تَفوقَت حسابيا على كل المصحف في هذا الحرف (64) ، فهل هذه صدفة أيضا ؟

لقد ابتدأت سورة ( الرعد) بالحروف ( ا ل م ر) ، فكيف تَعامل معها الحاسوبُ إحصائيا ؟ وما عددُ تَوارُدِها داخل السورة ؟ إن الجواب هو :

(ا) تَرِدُ 625 مرة (ل) ترد 279 مرة
(م)ترد 260 مرة (ر) ترد 137 مرة

هكذا في ترتيب تنازلي (ا)، ثم (ل) ، ثم (م) ثم (ر) بنفس الترتيب الذي كتبت به في أول السورة. ولم يكتف الحاسوب بهذا ، بل أحصَى تواردَ هذه الحروف في المصحف كله ، وبيَّن أن أعلى المعدلات والمتوسطات لها هو في سورة الرعد ، وأن هذه السورة تفوقت حسابيا في هذه الحروف على جميع سور المصحف . ونفس الأمر جرى مع سورة البقرة المبدوءة ب ( الم~ ) ، فقد جاء إحصاء هذه الحروف فيها هكذا :

(ا) وردت 4592 مرة
(ل) وردت 3204 مرة
(م) وردت 1295 مرة

بنفس الترتيب التنازلي الذي كُتبت به في أول السورة ، بل إن هذه الحروف الثلاثة كان لها تفوق حسابي على باقي الحروف. في داخل سورة البقرة ونفس الشيء في سورة (آلِ عِمْرَانَ) المبدوءة ب ( الم˜ )، فقد جاءت إحصائيات الحاسوب عنها بهذا الشكل:
(ا) وردت 2578 مرة
(ل) وردت 1885 مرة
(م) وردت 1251 مرة

بنفس الترتيب التنازلي الذي كُتبت به في أول السورة ، كما أنها تواردت في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف ، ويتكرر الأمر نفسه في سورة ( العنكبوت) المبدوءة ب(الم~) حيث جاء الإحصاء فيها كالتالي :

(ا) وردت 784 مرة
(ل) وردت 554 مرة
(م) وردن 344 مرة

بنفس الترتيب التنازلي (الم) ، وتواردت في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف . والشأنُ نفسُه في سورة (الروم) المبدوءة ب(الم ) فالإحصاءُ فيها هو

(ا) وردت 547 مرة
(ل) وردت 396 مرة
(م) وردت 318 مرة

بنفس الترتيب التنازلي (الم) ، وتواردت في السورة بمعدلات أعلى من باقي الحروف . ويتضح من هذا أن جميع السور المبدوءة بالحروف (ا ل م) هي سور مكية تفوقت حسابيا في معدلاتها على باقي السور المكية والمدنية ، ثم تفوقت كذلك حسابيا في معدلاتها من هذه الحروف على باقي السور المدنية (65) . أما سورة ( الأعراف ) المبدوءة ب ( المص˜ ) فمعدلاتُ هذه الحروف فيها هي أعلى ما تكون ، وأنها تتفوق حسابيا على كل السور المكية في المصحف . وكذلك في سورة (طه˜) فقد توارد فيها هذان الحرفان بمعدلات تفوق كل السور المكية ، ويسري الأمرُ أيضًا على سورة ( مريم) المبدوءة ب ( كهيعص˜ )، حيث ترتفع معدلات هذه الحروف على كل السور المكية في المصحف (66)

وبالمثل السور المبدوءة ب ( حم˜)، إذا ضُمَّت إلى بعضها فإن معدلات توارد هذين الحرفين فيها يتفوق على كل السور المكية في المصحف . وكذلك السورتان المبدوءتان ب ( ص˜) ، وهما سورة(ص˜) وسورة الأعراف إذا ضُمَّتا إلى بعضهما تفوقتا حسابيا في هذا الحرف على باقي السور في المصحف .

والسور المفتتحة بالحروف (الر˜)؛ وهي سورة إبراهيم ويونس و يوسف و الحِجْرِ ؛ إذا ضُمت إلى بعضها أعطت معدلات أعلى في نسبة توارد حروف (ا ل ر ) فيها على كل السور المكية في المصحف . وتبقى سورة (يس˜ ) مشتملة على نفس الدلالة ، ولكنها بطريقة عكسية ، فالياء في الأول (يس) بعكس الترتيب الأبجدي ، ولهذا كان تَوارُدُ حرف( ي) وحرف (س) في السورة تواردًا أقلَّ من تواردهما في جميع سور المصحف مدنية كانت أو مكية . فالدلالة الإحصائية حاضرة ولكنها منعكسة .

وإذا عرفنا أن القرآن نزل مُنجَّمًا ومفرَّقًا على مدة ثلاثة وعشرين سنة ، فإننا سوف ندرك أن وضعَ معدلات إحصائية مسبقة بحروفه هو من قبيل الاستحالة ،لأن ذلك أمرٌ لا يمكن أن يعرفه إلا العليم الخبير الذي يعلم كل شيء قبل حدوثه ، والذي يُحصي بأسرع وأدق من كل العقول البشرية والإلكترونية ، فهو وحده المحيط بكل شيء عِلمًا (67) . وما هذه الحروف المقطعة في أوائل السور إلا رموز عِلمه التي بَثَّها في تضاعيف كتابه لنكتشفها على مدى الزمان . ولذلك كان الذين لا يدرسون ولا يفهمون الدراسة العددية للكلمات المقطعة في بداية السور يتساءلون ويقولون : ما هذه الحروف التي جَعلت كتابَ الله لا كذبَ فيه } الم˜ ذلك الكتاب لا ريب فيه { ؟

ولكن بعد هذا الإحصاء تأكدنا أننا أمام قانون إلهي مُحكم ، وحروفٍ محسوبة ، بحيث وُضع كل حرف بميزان} الله الذي أنزل الكتاب بالحق والميزان وما يدريك لعل الساعة قريب{ (68) ، فهذا الميزان الدقيق لا يترك مجالاً لفكرة القائلين بكون النبي هو الذي ألَّف القرآن ، بعد أن قال لنفسه سوف أؤلف سورة الرعد من حروف ( ا ل م ر) ، وأُورِدُ بها أعلى معدلات من هذه الحروف على باقي الكتاب ، إنها لفكرة أشدُّ ما تكون سُخفًا، بل هي ظَنُّ أهوجُ وأبلدُ، إذْ أين هذا الذي يُحصي له هذه المعدَّلات وبهذه الدقة ؟ ألسنا أمام قمة الاستحالات ؟

إن الدلالة الجديدة لهذه الحروف تنفي بالمطلق شُبهة تأليف القرآن من لَدُن أيٍّ كَانَ مِن المخلوقات ، فهي تضعنا أمام موازين دقيقة ، ودلالات عميقة لكل حرف ، مما يستحيل معه أن يجرؤ أحدٌ على القول بأنه أمام كلام ألَّفَه مخلوق ، وإنما يقول إنه أمام كلام إلهي . فهل يصح إذن قَبول الزعم بأن القرآن من تأليف محمد كما يَزعم الزاعمون،ويَكُونُ من ثلاثين جزءًا ومائةٍ وأربعة عشر سورة ، وستةِ آلاف آية تقريبا تتضمَّنُ إعجازا عَدَدِيًّا تعجز عنه الحواسيب ؟! ، وكمثال على هذا الإعجاز نَسوقُ الكَلِمَتَيْنِ التَّالِيَتَيْنِ:

· كلمة ( الدنيا) تكررت في القرآن كله 115 مرة
· كلمة ( الآخرة) تكررت في القرآن كله 115 مرة

مما يعني أن الكلمة ونقيضَها جاءت بنفس العدَدِ دون زيادة ولا نقصان ، فما هذا الإعجاز العددي الذي يَذكرُ كلمة واحدة في كتابٍ مُكوَّن من ثلاثين جزءًا ومائةٍ وأربعة عشر سورةً ، وستة آلاف آية ، وعددٍ هائلٍ من الكلمات ، ومع ذلك تتكرر هذه الكلمة في كل هذا الكم الهائل بنفس عدد تكرار تكرار الكلمة النقيض لها ؟ ونُضيفُ إلى هذا المثال أمثلة أخرى تؤكد هذا الإعجاز العددي :





الكلمة



العدد



الرجلُ



المرأةُ



24



24



الرغبةُ



الرهبةُ



8



8



النفع



الفساد



05



05








الكلمة
العدد


المصيبة 75



الشكر 75


الملائكة

الشياطين



88



88



الحياةُ



الموتُ



145



145



إبليسُ



التَّعَوُّذُ مِنه



11



11



وليس هذا فقط ؛ وإنما هناك الصلاة ، فقد تكررت خمسَ مرات بعدَدِ الصلوات المفروضة في كل يوم، كما تكررت كلمة الشهر اثنتا عشرة مرة بعدد أشهر السنة ، وكلمة اليوم ثلاثمائة وخمسة وستين مرة بعدد أيام السنة . فهل كل هذه التكرارات المحسوبة بدقة عالية وليدة الصدفة ؟(69)

إن سِرَّ إعجاز القرآن آتٍ من << الصدق المطلق>> كما عبَّر ابن عربي حين سُئِلَ عن سر الإعجاز القرآني ، فكلمات القرآن صادقة صِدقًا مُطلقا .

1- بـــــــــراق الـــــــــروح :

كل القُوى تكمُنُ في الحروف ، وهذه القوى تَكْمُنُ بدورها في العقل ، لأنها مِلك للروح، والروح مستعدةٌ لأن تمنح العقل تلك القوى جزئية كانت أو كليةً بحسب مقدرة العقل على ما يستطيع قبوله من نور المعرفة المُشعِّ من الحروف . فكما أن الشمس تشع بضوئها على القمر فيعكس هذا الضوء إلى الأرض فيُنيرها ، كذلك الحروف ، فهي جسد روحي يمد العقل بنوره، والعقل بدوره يعكس هذا النور على الجسد المادي . ومن الطبيعي أن العقل لا يملك التحكمَ دائما في النور المنبعث من هذا الجسد الروحي ، ولذلك لا يُعبِّر دائما عن شعوره لأن سِرَّ الحرف كجسد روحي انفلتَ منه ، فالترقية الروحية ما هي إلا امتلاكُ العقل لسر هذا الجسد الروحي المسمَّى بالحرف أو بـِبُراقِ الروح، وتعبيرٌ عن الضوء المشعشِعِ فيه ، فحين يكون العقل متحدًا به ترتفع عنه الحُجُب ، ويُصبح على اتصالٍ بما وراء الوجدان . فوظيفة العقل ليست هي التعقل فحسب ، وإنما هناك وظائف أخرى أرقى من ذلك تتعلق بما فوق الوجدان، وبما هو لاَ مَرْئِي وغير محسوس ، وهذا لا يَتأتَّى إلا بسر الحرف الذي يفتح لنا أبواب المعرفة اللانهائية … المعرفة اللدُنِّيَّة التي تجعلنا نرى أنفسنا قد تغيرت فعلاً في المظاهر الباطنة والظاهرة ، كما تجعلنا نرى كل شيء يحيط بنا قد ابتدأ في التغير ، وصار طَوعًا لمشيئتنا ، وطِبقًا للحالة التي يُوجَد فيها ، بحيث لا تكون هناك قوة تتغلبُ على إرادتنا ، لأن النور الإلهي الحقيقي اخترقَنا ، فصار لنا عقلٌ بَصَائِري حُرٌّ، غيرُ مُقيَّد ، تَرَقَّى روحيا حتى صارت له القدرة على رؤية ما وراء الطبيعة ، ومُنِحَت له القوة على التكلم بلغات الله ، والتصرُّف بمشيئته ، طبقًا للحديث القدسي :<< يا عبدي ؛ أطِعْنِي تَكْنُ مِثلِي ،تقول للشيء كُنْ فيكون>>، وليس هذا ببعيد على مَنْ تشرَّبَتْه الطاعةُ وتَلَبَّسَه النفَسُ الإلهي الذي هو الحرفُ ، فَبَشَرِيَّتُه لا تَحولُ دون خصوصيته ، قال ابن عطاء الله السَّكَنْدَرِي في حِكَمِه:<< إذا أراد اللهِ أن يُعرِّفَكَ وَلِيًّا من أوليائه طوى عنك وجودَ بشريته ، وأَشْهَدَك وجودَ خُصُوصِيته . فسبحان مَنْ سَتَرَ سِرَّ الخصوصية بأوصاف البشرية >> وكل إنسان سلك هذا المسلك تكون له خصوصية وأسرار تَنتظِمُ في مَعالمَ وأُنظُومات ، على شكل إشارات متعالقةٍ في امبراطورية الفيض.

1.4 شهود الكلام الإلهي :

ففي شهود الكلام الإلهي مَيَّزَ الصوفية بين مفهومين مفهوم << الإشارة >> ومفهوم << العبارة>> ، حيث الإشارة تكون مجردَ إيحاء بالمعنى دون تعيين أو تحديد ، وهذا من شأنه أن يجعل المعنى أفُقا منفتحًا دائما . أما العبارة فهي تحديد للمعنى يجعله مغلقًا ونهائيا ، الأمر الذي يتعارضُ مع حقيقة شهود الكلام الإلهي المتعددة مستوياتُ الدلالة فيه تعددًا لانهائيا .إن هذا التمييز بين المفهومين المذكورين يتأسسُ على المبدأ الذي يؤكده الصوفية باستمرار ، وهو مبدأ الفصل بين << المعنى الظاهر>> للكلام الإلهي وبين << معناه الباطن>>، إذ الظاهر هو ما يدل عليه الكلام بدلالة اللغة الوضعية في بُعدها الإنساني ، في حين أن الباطن هو المستوى الأعمق، مستوى اللغة الإلهية << المشار إليه>> بطريقة لا تنكشف إلا لصاحب التجربة الصوفية ، فهو وحده القادر على النفاذ إلى ما يشير إليه الكلام الإلهي من مَعانٍ ودلالات إلهية عميقة (= باطنة).

لقد طور الصوفية هذا المفهوم للكلام الإلهي فميزوا بين البُعد الإلهي للغة الكلام الإلهي ، وبين بُعدِها الإنساني .فاللغة الإلهية تتجلى عند الصوفي في الوجود كله ، فهي ليست محصورة في الخطاب القرآني ، بل هي ممتدة ومتجلية في الوجود برُمَّتِه، لأنه كلمات الله المسطورة في الآفاق ، والقرآن كلمات الله المسطورة في المصحف . وكما أن كلمات الله الوجودية لا يمكن حصرُها ولا تَنْفِدُ ، فكلمات القرآن المعدودة المُحْصَاةِ في ذاتها تُشير إلى مَعان ودلالات وجودية لا تَنْفِدُ . وهم في هذه الصياغة لمفهوم اللغة الإلهية الكونية يعتمدون على القرآن ، كقوله تعالى:} قل لو كان البحر مِدَادًا لكلمات ربي لَنَفَدِ البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مَدَدًا {(70) ،وقوله:} ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده سبعة أبحُرٍ ما نَفِدت كلمات الله{ (71) . فتأويلاتهم للقرآن نابعة من فهمهم للإشارات المدلول عليها في العبارات ، وذلك لقدرتهم على النفاذِ من << ظاهر >> اللغة الوضعية إلى << باطن>> اللغة الإلهية في بنية الخطاب .(72) ومن هذا القبيل نَفَاذُهُم إلى سِرِّ حروف : << لَهُ>> و << أَبَى>>في آية سجودِ الملائكة لآدم وإباءِ إبليس . فهو لما امتنع عن السجود وأبَى ، انقلبت حروفُ آياته إلى حروف له ، حيث
انقلبَ ألفُ << أَبَى >> إلى واو << لَهُ>>، وانقلب بَاءُ<< أَبَى>> إلى هاء << له>> ، وانقلبت ياء << أَبَى>> إلى لاَمِ << لَهُ>> فظَهر << لِي>> أي } فَلْيَسْتَجِيبوا لي{ فالله << إذا ذهب بألفِ << أَبَى>> عن وَاوِ << له>> ، وبَدَّلَه مكانَ ألِفِ الأحَدِ اجتمعَ سِرُّ الواحد الأحد في الولي الخاتم ، وإذا ذهب ببَاءِ<< أَبَى>>عن هاء << له >> وبَدَّله مكانَ باء البادي اجتمَع في النبي الخاتم سرُّ البادي الهادي، وإذا ذهب بياء << أَبِي>> عن لام << له>> وبَدَّلَه مكانَ يَاءِ اليَدِ ، اجتمع في آدم سِرُّ اليد واللسان >> (74) ، ومن البادي الهادي : قرآن مَجيد ، ومن اليد واللسان : إحصاءُ كل شيء . فالله قد جمع في اللوح والكتاب والإمامِ بين الحِبِّ والمحب ، والحُبِّ الذي يَنبت من المحبَّة والخِلَّة في الخَلق(75)، ليشَهَدَ الكُلُّ كلامَه شهودَ بصيرة لا شهودَ بَصَرٍ فقطُّ ، ومن ثمة ينتقلون إلى شهود العالم في كاف ( كُنْ).

2.4 شهود العالم في كاف (كن):

ولا تتم مشاهدةُ العالم في كاف (كن) إلا إذا تَمثَّلنا ارتباطَ الكاف بالنون ارتباطًا أُونْطُولُوجيًّا سِريًّا ، ورُوحيًا قُدُسيا، من حيثُ كونُ النون هي الخمسون التي عُشُرُهَا الهاءُ الرامزةُ للصلوات الخمس الحافظةِ درجاتِ الخمسين صلاةً كما جاء في البخاري<< هي خمسٌ هي خمسون ما يُبَدَّلُ القولُ لدي >> . فالخمسة إذن هي عين الخمسين من هذا الوجه. والكافُ إنما تحفظُه الهاءُ التي تحفظ نفسَها وغيرَها ، وهذا الغير هو كافُ الكون ، لأن نور الذات الإلهي << لَمَّا ضَرَبَ في ذات (كن) امتدَّ له ظل وهو عين الكون ، فَبَيْنَ الكون والحق حِجَابُ ( كن) ، ولذلك فإن الكاف إنما تحفظه الهاءُ وقد زالت عنه في (كن) فاعتمدَ على النون حيث كانت هي الهَاءَ ، فانحفظ وجودُه بها ، وعن هذه المحافظة في (كُنْ) انحفظ الكون من العدم>>(76) ، فالكون المرموز له بالكاف مرتبطُُ بالنون الممثِّلَة للهاء ارتباطَ محافظةٍ وصيانة من الزوال منذُ النشأة .


فآدم لَمَّا عُلِّمَ الأسماءَ كلها نظر إلى مثال(كُنْ) ، ونظر إلى مراد المُكوِّن من المُكوَّن ، وشهد العالمَ في كاف( كن) التي هي كافُ الكنزية << كنت كنزًا مخفيا لا أُعْرَف، فأحببتُ أن أعرَف ، فخلقتُ خلقًا فعرَّفتُهم بي فعرفوني>>(77) ثم نظر في سِرِّ النون…نُونِ الأَنَا} إنِّي أنا الله لا إله إلا أنا{ فلما صحَّ له الهِجاءُ ، وتحققَ له الرجاءُ ، استنبطَ له من كاف الكَوْنيَّة كافَ التكريم } ولقد كرَّمنا بني آدم{ وكافَ الكُنْيَةِ : كنتُ له سمعًا وبصرًا ويدًا ، واستخرجَ له من نورِ الأَنَا نُونَ النُّورِيَّة } وجعلنا له نورًا{ ، واتصلت بها نُونُ النعمةِ} وإِنْ تَعُدُّوا نعمة الله لا تحصوها{ (87)، بمعنى ان آدمَ ، ونسلَه المضمَر فيه ؛ شاهدَ العالمَ في هذه الكاف وما فيه من تكريم له وإنعامٍ عليه مادام مرتبطًا بالنون الحافظة .

3.4 شهود ياء يد الله :

فَشُهُودُ العالم في الكافِ هو شهودُ شجرة الكون بكاملها ، إذ الكونُ كله شجرةُ ، أصلُ نُورِها من حبَّة(كن) ، وكافُ الكونية لُقِحَت بلقاح حَبَّة } نحن خلقناكم{ تنبيها للنشأة الأولى ونهايتها ، فانعقدت من ذلك اللقاح ثمرةُ} إنا كل شيء خلقناه بقدر{ (79) صغيرًا كان أو كبيرا ناطقا أو صامتا ، متحركا أو ساكنا ، ماضيا أو حاضرا ، معلوما أو مجهولا،
مُحدَّدةٌ حقيقتُه وصفتُه ومقداره وزمانه ومكانه، وارتباطُه بسائر ما حوله من أشياء ، وتأثيرُه في هذا الوجود . وقد << ظهر من هذه الثمرة غصنان مختلفان: كافُ الكمالية } اليوم أكملتُ لكم دينكم {(80) ، وكافُ الكُفرية } فمنهم من آمن ومنهم من كفر { (81) ، وظهرَ جوهرُ النون : نونِ النكرةِ ونونِ المعرفة >>(82) , وبعد بُروزِ الخَلق من غيب(كُنْ) في القِدَمِ رَشَّ الخالقُ عليهم من نوره ، فَمَنْ أصابه ذلك النور حدَّق إلى تمثال شجرة الكون المستخرجة من حَبَّةِ(كن) فلاحَ له سِرُّ كَافِهَا ، واتضح له جوهرُ نُونِها . ومَنْ أخطأه ذلك النور طَالَب بكشف المعنى المقصود من حرف (كن) ،لأنه غلط في الهجاء ، فنظر إلى مثال (كن) فاعتقد أنها كاف الكفرية بنون نكرةٍ.

فحظُّ كل مخلوق من كلمة (كن) ما عِلِمَ من هجائها وهجاءِ حروفها ، وما شهد من سرائر خفائها (83) ، فكل موجود دائرٌ في دائرة الكون ، وهذه الدائرة دائرة على سرائر (كن) ، فكيفما دار المخلوق واستدار فإليها يَؤُول وعليها يَجُول ، وعنها لا يزول ولا يَحُولُ(84) . فمن شهد كاف الكمالية ونونَ المعرفة فهو على حُكمِ ما شَهِدَ ، ومن شهد كاف الكفرية ونون النكرة فهو كذلك على حُكمِ ما شهد ، فَهُمَا معًا رَاجعَان إلى نقطة دائرة (كن) وليس للمكوَّن أن يجاوز ما أراده المكوِّن . فاختلافُ أغصانِ شجرة الكون ونوعِ ثمارها نَاشِيءٌ أصلُه عن حبة (كن ) بائنٌ عنها (85) ، وذلك لأن مُرادَ يَدِ الله في حركتها المطلقة هو مُرادُ رحمةٍ . فالله قد استخرجَ من اليد والروح خَالِصَهُمَا ، ومن الحياة والبقاء مَحْضَهُمَا وهو الحب ، وأنزل بين حاء الحُبِّ وبائه لِسَانَ التذكُّر ، فَمنْ تذكَّرَ سَرَى،وظَهَرَ له لسانٌ من الإثبات الذي هو لسانُ الخطاب المخصوص (86) الرابط بين الفردية والزوجية .

فكل مخلوق في الكون له رابطتان : روحية وزوجية فهو برابطة روحيته فردٌ عن كل شيء ، وبرابطة زوجيته مع كل شيء. فالزوجية في الذكَر ، والروحية في الأنثى، غير أن روحية الأنثى تصيرُ كزَوجية الذكَر عند تمام ولادتها ، كحواء صارت زوجَ آدم ، وصَار آدمُ زَوْجَهَا ، لأن لاَمَ اللسانِ – أعني لسانَ الإثبات – نزَلَ بين وَاوِ الوُدِّ ودَالِه ، فَوُلِدَ لَهُمَا العُلُو في الوَلَدِ المعنوي (87) ، وساد ذلك الخلق كلهم ، خصوصًا الذين فهموا معنى الفاء والواو واللام في} فَوَلِّ وجهكَ شَطر المسجد الحرام وحيثما كنتم فوَلُّوا وجوهكم شطره{ (88) ، فالفاء في ( فَوَلِّ) هي فاءُ الفَلَك والفُلْك ، والواو هي واو الصوم المجرَّد ، واللام هي لام الصلاة المجرَّدة ، فهذه الثلاثة هي نورُ الله الذي رشَّه على الإنسان (89) بياءِ يده، ويَدُهُ تَعَالَى يَاءَاتُ آلاءٍ ومَحَبَّةٍ ، وجميعُها في يده التي هي فوق الأيادي تُمثِّلُ جوهرَ بَحْرٍ مكنونٍ في ياء الإضافة المُشير إليها قوله : } ما منعك أن تسجد لما خلقتُ بيدي{ (90) ، وهي داخلة في الياء الأولى من اليقين، و فائضة عن الياء الثانية من النفس، فيُنْفِقُ الله تعالى منها على أرباب اليقين ما يشاء (91) ، حيث يرون عَمَلَ محمد في آدم بالياء.


4.4 شهود عمل محمد في آدم :

إن الوجود في ميم }بسم الله الرحمن الرحيم{ هو لآدم ، لأنه صاحب الأسماء ، فبالمدِّ الموجود فيه كان استمدادُ عالم الأجسام } خلقكم من نفس واحدة {(92)،فإن حواء

خُلقت من آدم ، ولو خلقت من غيره لم يصدق من نَفْسٍ واحدة من حيث الجسمية . وميمُ الرحيم لمحمَّدٍ، لأنه صاحب الرحمة } بالمؤمنين رؤوف رحيم { (93) رحمةِ الإيمان} وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين{ (94) ورحمةِ الإيجاد ، إذ بهذا المدِّ الموجود فيه كان استمدادُ عالِم الأرواح ، فبرَزَ مقامُه في عالم الأجسام آخرًا ، ومقامُ آدم أولا ، فقيل } بسم الله الرحمن الرحيم{ لتبدو روحانيته من أرضٍ جسمانيته.
وهذه الميم لها أسرار ؛ لا من حيث هذا المقام، كثيرةُُ وكذلك هذه الياء المتصلة بالميمين ، لأنها علة } إنما أنا بشر مثلكم { (95) ، فاتصل الأمر بيننا وبينه من هذه الوجهة ، فالياء بين الميمين دليل على هذا الاتصال بالجسم بخلاف الروح (96) .فالميم لآدم ومحمد، والياء بينهما رمزٌ لسبب الوُصلة لهما ، فهي حرف عِلَّةٍ ، ومن هنا عمل محمد في آدم بالياء عَمَلاً روحانيا ، ومن هذا العمل كانت روحانيتُه ، وروحانيةُ كل مُدَبَّرٍ في الكون من النفْس الكلية إلى آخر موجود وهو الروح الإنساني << كنتُ نبيا وآدم بين الماء والطين>>(97) ، وعمل آدم في محمد بواسطة الياء عَمَلا جسمانيا ، ومن هذا العمل كانت جسمانية كل إنسان في العالم وجسمانية محمد . فآدم أبو محمد وأبونا في الجسمانيات ، ومحمد أبو آدم وأبونا في الروحانيات فمثلاً << عيسى أبوه روحُ القدس من مقام الجسدية وعالمِ التمثيل ، وروحُ القدُس ابن لمحمد من حيث هو روحٌ ، فهو جد لعيسى على هذا النظام العجيب . وإن كان توجَّه على جسدية عيسى لَمَا استوى في الرحِم الأقدس مثل استواء كل نطفة ، فأعطاه بذلك التوجه الروحانيةَ ، فهو أبوه مثلنا >>(98) . فقيامُ الواحد القيِّم من حقيقة المحو ، وقيامُ الأحد القَيوم من الإثبات هُمَا على أصلِ مَحلِّ الإضافة المُدرَجِ في طيِّ الياء حيث قال : روحي ونفسي ، ومَحلُّ الإضافة هذا هو كذلك مُدرج في طي ياء النبي والولي ، فهما في الحقيقة ياءُُ واحدة تُمثِّل أصلَ محلِّ إضافة الواحد الأحدِ ، ومن هنا كان دخول ياء النبي في ياء الولي عبارة عن دخول ذات اليقين ، ودخول ذات اليقين يَرفعُ قواعدَ النظر والقرائن والشواهد والعقل ، ولا يبقى للداخل فيها إلا الشهود البصائري في الحضرة ، حيث يشاهدُ بَاعَ المَحْوِ ممتدًّا في كل سَبَب ، وباعَ الإثبات مُمتدًّا في كل نَسَبٍ ، كما يُشاهدُ امتدادَ باعِ السبب من المحو إلى الوضع ، وامتدادَ باعِ النسَب من الإثبات إلى الرفع ، فيَفيضُ في المحو والإثبات ، والأسباب والأنساب ، والرفعِ والوضعِ (99)، لأنه عند ربه الأعلى بيقين لا يَبْلَى
وذلك لأن المحو مِيمٌ والإثباتَ تاءٌ
فآدم لَمَّا هبط إلى الأرض خرج من المحو الذي أولُه ميمُُ ، واتصل بالإثبات الذي آخره تاءٌ ، والميمُ والتاء حرفان موضوعان لمعرفة الجمع والتعيين ، وبهما تمَّ التمثيلُ والتمثُّلُ ، وبهما يُرفَع التمثيل والتمثل عن كل تائب مُنيب (100) . فالله تَعالَى صَبَّ قارورةَ حُبِّهِ في خمسِ تاءاتٍ ؛ وهي:

1- تاءُ خلقتُ بيدي .
2- تاء سَويتُ .
3- تاء نفختُ.

تاءُ المُقابلة في المتعيِّن والمعَيَّن ، مثل قوله : اصطنعتُك لنفسي ، حيث قَارَنَ التاء بالكاف فتعيَّن المخاطبُ بالتاء ، وعيَّن المخاطَبَ بالكاف .

تاءُ حَبَّة القلب التي اجتمعت فيها التاءات الأربع السابقة ، وصارت كلَّها مُدَرَجَةًبيمين الله ، تُوَجِّهُ الإنسانَ ، وترفعُ عنه التسويلَ والتسويف النفسيين لكي يتوجه إلى هذه التاء ،(101) لأنه إذا توجَّهَ إليها سيشاهدُ حقيقة الأشياء مجموعةً في الواو ، وعند ذلك سيستريح .













5.4 شهود الواو الجامعة للأشياء :

لقد أَوْمَاْنَا فيما تقدَّم إلى أن الألفَ ترمزُ مَعرفيا إلى الذات الإلهية المنزهة عن الحركة والسكون ، وإلى أن الواو ترمزُ هي الأخرى معرفيا إلى الروحِ الجبريلي الذي حملَ الوحي إلى الرسل والأنبياء ،وإلى أن الياء ترمز هي كذلك إلى الرسول البشري الذي تلقى الرسالة في عالم التركيب السفلي(102) ، وهذا كله مُنسجمٌ أُونطُولُوجيًّا وتْيُولُوجيًّا . ولكن حيث تنقل الواو من رمزية المَلَكِ الحاملِ للرسالة إلى اسمٍ جامع للأشياء كلها ، فإن الإشكالية تشتعل ، والحيرة تتصل . فكيف تنقطعُ الحيرة وتنقشع الإشكالية ؟
إن تَتبُّعَ خُطَا أبي القاسم الجُنَيد( ت 297هـ/910 م) سيُفيدنا في هذا ، فقد قال لأبي بكر الشبلي (247هـ/861 م – 433 هـ/649 م): << إِنْ رَدَدْتَ أمرَكَ إلى الله استرحتَ>> فقال له الشبلي :" إن ردَّ الله أمرك إليك استرحت"،، إشارة إلى تَجرُّدِ الفعل ، وتجرُّد الأمر الإلهي ، حتى يتبيَّن الفعلُ في الأمر ، والأمرُ في الفعل ، ويتصف الفعلُ بالأمر ، والأمرُ بالفعل ، وعند ذلك يصير الفعل كالأمر ، والأمرُ كالفعل، كما قال الرسول ص :<< كِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ>> . وبهذا يتبيَّن أن (الم ) في هاءَ(لاَ رَيْبَ فِيهِ) ، وفاءَ وياءَ وهَاءَ لا ريبَ فيه في ميم (الم ) ، وهاءَ ومِيمَ (الم ) و ( فيهِ) في ( واو ) } ما زاغ البصرُ وما طغى{ (103)، فالواو اسم جمع الله الأشياء فيه ، وهو الجامع للحرف ، والوجه ، والفعل المجرَّدِ، والأمر المجرَّد ، وهو مَحلُّ وقوعِ الشهادة الإلهية ، وأخصُّ أسماء الولاية والوحي،فهو الذي أوْحَى الله تعالى منه إليه بلا واسطة من خارج ، وهو الذي انصرفت أجزاءُ روح الكشف إلى عينه المدرَجَة في سمعه وشمِّه، المدرَج في بصره، فقال له : يَا وَمَا زاغ البصرُ منك إلى غيرك ، وما طغى السمعُ سمعُك ، وأنت الذي يكون باسمك تصحيحُ الأفعال في العِبَادِ ،(104) فالإنسان الشاهد للواو هذه ينفصل لسانه عن يده ، ويَظْهَرُ حرفُ النداء فيه ،فيتعَّينُ حرفُ اسمه في (وَ) ، ويكون شاهدًا ومُشاهَدًا ، ومُناديًّا ومُنادًى .

أميرة الاسرار
12-10-2011, 21:46
(http://awabbelhaj.jeeran.com/archive/2010/4/1044925.html)


ابجدية الوجود دراسه في مراتب الحروف عند ابن عربي
الفصل الثالث




موازاتها لمراتب الوجود



1ـ النسق الفكري لابن عربي :

هذه هي الحروف في تجلياتها ومراتبها وأسرارها ، فما هو النسق الفكري الوجودي الذي وضعها فيه الشيخ ابن عربي ( 560هـ/11651م-638هـ/1240 م)؟ وما الدلالات التي تأخذها في هذا النسق ؟.

إن بنيَة النسق الفكري لابن عربي تَرُومُ أولاً وقبلَ كل شيء إزالة التعارضات الثنائية من الوجود ، ومن المعرفة والفكر ، ومنطَلَقُه في ذلك << وحدة الوجود = وحدة الشهود >> لا بالمعنى الفلسفي الذي يُوهِمُ به المصطلحُ Pantheisme في الفلسفة الغربية المُراوحةِ بين إمَّا وإمَّا ، بمعنى أنها إمَّا تُحِلَّ اللهَ في الطبيعة والعالم ، أو إِمَّا أن تُلغي العالمَ والطبيعة لحساب الوجود الإلهي . بينما ابن عربي في نسقه الفكري يُركّزُ على أبعدَ مِمَّا هو متصوَّرٌ، فهو نَظريًّا يحتفظ بالثنائية في شكل << مراتب >> يُدركُها الذهنُ ويُميز بينها، وعَمليًّا يُقيمُ وسائطَ عديدة بين طرفي كل ثنائية تَجمعُ كل الثنائيات وتُوحِّد بينها .

فَعَلَى المستوى الوجودي الخالص نَرى الذات الإلهية تتميزُ في مرتبة << الأحدية المطلقة>> باستقلال تام ، لأنها مرتبة << الوجود بشرط شيء>> ، أما العالم فهو بتعدد مراتبه فَلَهُ<< الوجود لا بشرط شيء>> . وهذه الثنائية الوجودية يتميز طرفُها الأول بالتحرر الكامل من كل شرط، لكونها مرتبة النفي المطلق (=لا بشرط شيء) ، بينما يتميز الطرف الثاني بالوقوع في أسرِ الشرطية الكاملة الذي هو الإثبات(= بشرط شيء)، مما يؤشر على جدلية النفي والإثبات (1) بين هذه الثنائية ، حيث << المناسبة بين الخَلق والحق غير معقولة ولا موجودة ، فلا يكون عنه شيء من حيث ذاتُه ،ولا يكون عن شيء من حيث ذاتُه . وكل ما دل عليه الشرعُ أو اتخذه العقل دليلا إنما مُتعلَّقُه الأُلُوهَة لا الذات ، فالله من حيثُ كونُه إلِهًا هو الذي يستند إليه المُمكِنُ لا مكانُه>> (2) ، << وأمَّا أحدية الذات في نفسها فلا تُعرَف لها ماهية حتى يُحكَمَ عليها ، لأنها لا تُشبِه شيئا في العالم ولا يُشبهها شيء>> (3) ، وذلك لـ<< أنَّ الكون لا تَعلُّقَ له بعلم الذات أصلاً ،وإنما مُتعلقُه العلِم بالمرتبة وهو مُسمَّى الله ، فهو الدليلُ المحفوظ الأركان الدَّالُّ على معرفة الإله وما يجب أن يكون عليه سبحانه من أسماء الأفعال ونعوت الجلال، وبأية حقيقة يَصدر الكون عن هذه الذات المنعوتة بهذه المرتبة المجهولة العين والكيف. وعندنا لاَ خِلافَ في أنها لا تُعلَم ، بل يطلق عليها نعوتُ تنزيه صفاتِ الحَدَثِ ، وأن القِدَم لها والأزل الذي يُطلق لوجودها إنما هي أسماءٌ تدل على أسلوب مِنْ نَفْيِ الأولية وما يليق بالحدوث . وهذا يخالفنا فيه جماعة من المتكلمين الأشاعرة ، ويتخيلون أنهم قد علموا من الحق صفة نفسية ثبوتية ، وهَيْهَات أنَّى لهم بذلك >> (4) .فابن عربي هنا ينقد الأشاعرة ، ويرفضُ قولَهم بوجود صفاتٍ لله ذات وجودٍ متميزٍ عن ذاته تعالى ، وذلك لأن الصفات عنده ما هي إلا مجرد أسماءٍ ونِسَبٍ لا تتمتع بأي وجود ، وهذا هُوَ مَا يَعْنِيه من أن الأسماء تدل بالسَّلبِ على نفي الأزلية والحدوث ،ولذا لا يُتصوَّر أن يكون لها وجودٌ ثابتٌ. فكل الأسماء والصفات تُمثل مَنطِقةَ وُسْطَى بين << وجود الذات>> وبين<< الوجود الظاهر>> أي العَالَم، ومن هنا فإن كل مُثبِتٍ لاسم أو صفة للذات الإلهية إذا وضع في اعتباره مستواها في الوجود الخيالـــــي
فإنه يكون صادقًا ، أما إذا أدَّعى لها وجودًا ثابتا فإنه يكون على خطأ ، مثله في ذلك مثل المتكلمين عامة والأشاعرة خاصة .

فنقد ابن عربي للمتكلمين والفلاسفة نابعُُ من كونهم يُثْبِتون صفات نفسية ثبوتية للذات الإلهية ، وهذا لأنهم لم يميزوا بين مراتب وجودية لا تتمتع بوجود عيني . فالذات الإلهية لا يتعلق بها من الوصف إلا ( النفي= السَّلبُ) ،أما ( الإثبات) فلا يجوز إطلاقه عليها ، والذي ورد في القرآن من صفات إنما يُشير للألوهة ، وهي مَرتبةُ الوجود الخيالي الفاصلة والجامعة في الوقت نفسه بين << الذات >> و << العالم>> (5) . ومرتبة الوجود الخيالي هاته يُعَرِّفها ابن عربي في سياق حديثه عن البرزخ حيث يقول : << البرزخ يَتوسَّع الناس فيه، وما هو كما يظنون ، إنما هو كما عَرَّفنا الله في كتابه في قوله في البحرين :} بينهما برزخ لا يبغيان{ ، فحقيقة البرزخ أن يكون فيه برزخ ،وهو الذي يلتقي ما بينهما بذاته ، فإن التقى الواحد منهما بوجه غير الوجه الذي يلتقي به الآخر ، فلا بد أن يكون بين الوجهين برزخ يفرِّق بين الوجهين حتى لا يلتقيان ، فإذًا ليس ببرزخ . فإذا كان عينُ الوجه الذي يلتقي به أحدَ الأمرين الذي هو بينهما عينَ الوجه الذي يلتقي به الآخر فذلك هو البرزخ الحقيقي ؛ فيكون بذاته عينَ كل ما يلتقي به فيَظهرُ الفصلُ بين الأشياء ، والفاصلُ واحدُ العَينِ . وإذا علمتَ هذا علمتَ البرزَخ ما هو. ومثالُه بياضُ كل أبيضَ ، وهو في كل أبيضَ بذاته ما هو في أبيضَ مَا بوجهٍ منه، ولا في أبيضَ آخر بوجهٍ آخر ، بل هو بعينه في كل أبيضَ ، وقد تميز الأبيضان أحدهما عن الآخر ، فَعَينُ الأبيض واحدُُ في الأمرين ، والأمران ما هو كل واحدٍ عين الآخر ، فهذا مثال البرزخ الحقيقي ، وكذلك الإنسانية في كل إنسان بذاتها ، فالواحد هو البرزخ الحقيقي ، وما ينقسم لا يكون واحدًا ، والواحدُ يَقْسِمُ ولا يُقْسَمُ أي لا ينقسم في نفسه ، فإنه إن قبل القسمة في عينِه فليس بواحدٍ ، وإن لم يكن واحدًا لم يُقابل كلَّ شيء في الأمرين اللذين يكون بينهما بذاته ، والواحدُ معلومٌ في أنه ثمَّ واحدٌ بلا شك . والبرزخُ يُعلَم ولا يُدرَكُ ، ويُعقَلُ ولا يُشهَدُ>>.(6) وهذا التعريف العام للبرزخ الحقيقي بكونه الواحدَ الذي يَقسِم ولا ينقسمُ أَدَّى بابن عربي إلى الإحتراز عن طريق التعريف التخصِيصي لِكُنْهِ البرزخِ المرادِ هُنَا ،ولذلك قال :<< ولما كان البرزخ أمرًا فاصلاً بين معلوم وغير معلوم ، وبين معدوم وموجود ، وبينَ مَنفيٍّ ومُثبَتٍ ، وبين معقول وغير معقول ، سُمِّيَ برزخًا اصطلاحًا ، وهو معقول في نفسه وليس إلا الخيال ، فإنك إذا أدركتَه وكنتَ عاقلاً تَعلمُ أنك أدركت شيئا وجوديا وقعَ بصرك عليه ، وتَعلمُ قَطعًا بدليل أنه ما ثمَّ شيء رأسًا وأصلاً. فما هو هذا الذي أثْبَتَّ له شَيْئِيَّةً وجودية ونَفيتَها عنه في حال إثباتِكَ إياها ؟ فالخيالُ لا موجودٌ ولا معدومٌ ، ولا معلومٌ ولا مجهولٌ ولا مَنفي ولا مُثبتٌ>>(7) ولكنه معقولٌ في نفسه .



إن هذه المرتبة الوجودية لها فعالية تتسع لتُصبح الحضرةَ الجامعة للحقائق من أعلاها إلى أدناها : الألوهة ، عالمَ الأمر ، عالم الخَلق ، عالم الطبائع ، وما إلى ذلك من العوالم ، مما يَجعلُ مَجالَ هذه المرتبة في اتساعٍ لا نهائيٍّ ، إِذْ << ما أوسعَ حضرة الخيال، وفيها يظهر وجود المُحال ، بل لا يظهر فيها على التحقيق إلا وجود المحال؛ فإن الواجب الوجود وهو الله تعالى لا يقبل الصورة وقد ظهر بالصورة في هذه الحضرة .فقد قَبِلَ المُحالُ الوجودِ الوجودَ في هذه الحضرة >>(8) ، فالألوهة في جبروتها البرزخي تُقابل الخَلق بذاتها ، وتُقابِل الحق بذاتها كذلك ولهذا كان لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل .فلها إلى الخَلق وجهٌ به تتجلى في صور الخَلق ، ووجهٌ إلى الذات به تظهر إلى الذات ، فلا يَعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهية <<…فتحققناها فما وَجَدْنَا سوى ما ندعوه بها من الأسماء الحُسنى ، فليس للذات جَبْرٌ في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية ، ولا يُعرف من الحق غير هذه الأسماء الإلهية ، وهي أعيانُ هذه الحضرات >>(9)

ففكر ابن عربي فكرٌ نسَقيٌّ يَقُومُ على بِنْية دائرية مماثلةٍ لبِنيَة الوجود ؛ الذي تَقوم نظريته ونشأتُه ومراتبُه عنده على هذا الأساس . وقد جَلَّى هذا كله في كتابيه :<< إنشاء الدوائر ويليه عقلة المستوفز>> و<< التدبيرات الإلهية في إصلاح المملكـــــة الإنسانية >>.

1.1 اهتمامه بإصلاح المملكة الإنسانية :

فهو قد كرَّس جهوده للكتابة في التصوف في شتى نواحيه في المملكة الإنسانية، والمُقابلة بين الإنسان والعالم ،وبينهما وبين الله ، واعتبر أن الصوفيَ الكامل لا يسأل شيئا ،بل يُراقب قلبَه في كل حين ليقف على مدى استعداده الروحي ، لأن قلب الصوفي مرآته التي يرى فيها تَجَلِّي الحق ، يتغير في كل لحظة مع تغير التجلي الإلهي .أما أنواع السؤال عنده فهي ثلاثة :
- السؤال باللفظ
- السؤال بالحال
- السؤال بالاستعداد




-61-


فالسؤال باللفظ (= الدعاء) لا اثر له مُطلقًا في الإجابة ، والسؤال بالحال راجعٌ إلى السؤال بالاستعداد، فإن الحال التي تطلب شيئا تتوقف على طبيعة استعداد صاحبها، فلم يبق بعد السؤال باللفظ غير السؤال بالاستعداد ، أي ما تَتَطَلبُه طبيعةُ كل موجود من صفات الوجود ، وذلك لأن كل واحدٍ من وجودِ الحق وثبوتِ الخَلق يُساوي الآخر ويفتقر إليه . فالعالم ظِلٌّ إذا نظرتَ إليه من حيث عينُه وباطنُه وجوهرُه المُقَوِّمُ له ، والخَلق في تَغير مستمر وتحولٍ دائمٍ ،أما الحق فهو على ما هو عليه كان منذ الأزل .فالخلق هو ذلك التجلي الإلهي الدائم الذي لم يزل ولا يزال ، وظهورُ الحق في كل ما لا يُحصَى عددُه من الصور ، وهذا الظهور مع كثرته ودوامه لا يتكرر أبدًا ،لأن نسبة الذات الإلهية إلى صورة من صور الوجود هي نَفْسُ نِسبتها إلى الصور الأخرى (10) ،وإذن فالحقيقة الوجودية – من هذا المنظور عند ابن عربي – هي واحدة في جوهرها وذاتها ، مُتكثِّرة بصفاتها وأسمائها،لا تَعدُّدَ فيها إلا بالاعتبارات والنِّسَبِ والإضافات ، وهي قديمة أزلية أبدية ، لا تتغير ، وإن تغيرت الصور الوجودية التي تَظهر فيها . فإذا نظرت إليها من حيث ذاتُها قلتَ هي (الحق) وإذا نظرت إليها من حيث صفاتُها أسماؤها وظهورُها في أعيان الممكنات قلتَ هي(الخَلق)، وإذا قلتَ الوجودَ (= العالم) فهي الحق والخَلق، والواحد والكثرة ، والقديم والحديث ، والأول والآخر ، والظاهر والباطن ، وغير ذلك من المتناقضات التي يكثر تردادُها . وليس التمييز بين الخَلق والخالق إلا بالاعتبار، وإلا فالخلق هو الخالق، والخالق هو الخَلق ،لأن العين واحدة، ولكنْ من وجهٍ آخر ليس الخَلقُ حقا ولا الحق خَلقا . ومن ثمة كانت العلوم عند ابن عربي على ثلاث مراتب :

أـ علم العقل : وهو كل عِلم حَصَلَ على ضرورة ،أو أتى عقيب نظرٍ في دليل .
ب ـ عِلم الأحوال : وهو من العلوم التي لا سبيل إليها إلا بالذوق الوجداني والتناغم الروحاني.
ج- علم الأسرار : وهو عِلمٌ فوق طَوْرِ العقل ،يَنفُثُه روحُ القدُسِ في رُوعِ مَنْ لهم شفوفٌ بصائري وذوبان في أنوار اللانهائي.

وبهذا الأخير تُعرَف الحقيقة الحق ،فالحقيقة الوجودية هي واحدة في ذاتها وجوهرها ، وبحرُ الوجود الزاخر الذي لا ساحل له. وليس الوجودُ المُدرَك المحسوسُ إلا أمواج ذلك البحر الظاهرة فوق سطحه ، وسواء أكان وجودًا بالقوة أو وجودًا بالفعل ، بسيطا أو مُركَّبا، خيرا أو شرا ، طاعة أو معصية ، فالرحمة شاملة له ، أي مُعطِيَة إياه وجودَه الخاص به ،لأنه إما موجود بالفعل متحقق الوجود، أو موجود بالقوة صائرٌ إلى الوجود بالفعل .فابن عربي هنا ينظر إلى الرحمة نظرة مِيتَافِيزيقِّيَّةً لا نظرة أخلاقية (11)، ولذلك لا يُفرق بين مَقولتي الخير والشر ، كما لا يميز بين صفتي الرضا والغضب اللتين وصف الله بهما نفسه،فالرحمة عنده لها الحُكم في إيجاد كل ما له وجودٌ عيني – مع أنها ليس لها هي نفسُها وجود عيني – شأنها في ذلك شأن جميع المعاني الكلية التي لها أثرٌ وحُكم في أعيان الموجودات رغم أنها ليست من الموجودات العينية . فالرحمة تتوجهُ إلى إيجاد الأشياء والأفعال من حيث هي، وهي بهذا المعنى تكون مرادفة للمشيئة الإلهية التي هي أعمُّ قانونٍ في الوجود ، وتُنالُ بطريقتين:




الأولى :ظهور الذات الإلهية في صور الموجودات على نحو ماهي عليه، وبحسب استعداد هذه الموجودات المُنْطَبِع فيها من الأزل.

الثانية : سؤال العبد ربَّه أن يُعطيه كذا وكذا ، مِمَّا يلائم غرضا أو يحقق له نفعا.
فالعالم من الرحمة وبالرحمة خُلِقَ ومآلُه الرحمة ، وكل خَلَلٍ فيه إنما يأتي من التعصب الذي هو أشد الأمراض فتكًا بالإنسانية ، وعلاجُه يحتاج إلى التواضع ، فالمرضُ قد يزول من تلقاء نفسه ، ولكنَّ التعصب ليس كذلك . ولو عرَف الإنسان أنه حَرْفُُ في الوجود لا يَكْمُلُ إلا بالحروف الوجودية الأخرى لَمَا أصابَه هذا المرض الذي ينْخُرُ حَمِيمِيَّة الوجود.إن الحروفَ هي مرآة الوجود وبديله الرمزي ؛ منها يتشكل نصُّه وينبثقُ معناه،إذْ لا معنى لوجودٍ خارجَ الحرف.


2.1 اهتمامه بالحرف :

ولأهمية الحروف كرمز كثيف خارقٍ له تأثير في الوجود ، أعطاه ابن عربي اهتمامًا بالغًا ، وكرَّس له أكثر من مُؤَلَّف ، بل إن كل كتبه ورسائله لا تخلو من الحديث عنه والإشارة إلى خصائصه وأسراره ، وبخاصة موسوعته << الفتوحات المكية >>*وهذا الاهتمامُ بالحرف و التماهي معه ، وقراءةُ تحولاته وأقنعتِه ليسَ دليلَ حيرةٍ عند الشيخ الأكبر ، وإنما هو قمة المعرفة الحقيقة التي هي غيرةٌ على الوجود . فهو بالحرف قد رَفَعَ التعارضَ المصطنعَ بين الكُفرِ وبين الإيمان . فالكُفر – الذي هو عدمُ الاعتراف بوجود إلهٍ للعالم – لا وجود له في الحقيقية عند معظم الصوفية العارفين بالأسرار(13)، إذ العالم كله من أعلاه إلى أدناه بمستوياته ومراتبه المختلفة ، من أرواح وعقولٍ وأجسام فَلَكيةٍ ، وعناصر طبيعية ، ليس سوى مظاهر وتجليات لحقيقة واحدة سارية في أجزائه بِنِسَبٍ مختلفة : تلك هي الحقيقة الإلهية . فالكفرُ بمعنى إنكارِ وجودِ الباري ليس إلا صفة عارضة ظهرت مع ظهور الشرائع السماوية على أيدي الرسل والأنبياء ، فصدَّقهم البعضُ ، وكذبهم البعض الآخر ، فأُطلِق على المصدِّقين اسمُ المؤمنين ، وعلى المكذبين اسمُ الكفار، إذْ لولا نزولُ الشرائع وانقسامُ الناس بين مُصدِّق ومكذب لَمَا كان للكفر أن يظهر في العالم.
غير أن ظهورَه فيه لا ينفي حقيقة أن العالم كله مؤمن في الباطن، فمنذ اللحظة التي أخذ الله فيها العهدَ على البشر وهم في حالة<< الذَّرِ>> أي في لحظة كونهم بذورًا في ظَهرِ آدم أعلنت الذَّرَارِي إيمانَها بربها حسب ما ورد في القرآن } وإذ أخذ ربُّك من بني آدم من ظهورهم ذرياتهم وأشهدهم على أنفسهم ألستُ بربكم قالوا بَلَى{ (14) ، فهذه اللحظة الغائرة في الأزل هي التي أقرَّ فيها البشر جميعًا بالربوبية لله ، وكلهم ما يزالون على هذا الإقرار الأصلي منذ الأزل. فالله – وَفقًا لفهم ابن عربي لهذه الآية – لم يسأل البشر في تلك اللحظة عن وحدانيته ،أي عن انفراده سبحانه بالربوبية ، بحيث لم يَقُلْ لهم: ألستُ بواحد؟ ، والسببُ في اتخاذ صيغة السؤال شكلَ << ألستُ بربكم >> بدلاً من << ألستُ بواحد>> هو أن الله علم << أنه إذا أَوْجَدَهُم أشرَكَ بعضُهم ووحَّد بعضهم ، واجتمعوا في الإقرار بالربوبية >> (15) ، وإذا كان البشر قد أقروا بالربوبية فإن الفارق بين الموحِّد والمشرك يكمُن في أن المشرك أضافَ لله شريكًا في ربوبيته، بينما الموحد آمنَ بإله واحد لا شريك له ، وأيًّا كان ما يَعبُد المشركون، وأيَّا كان من يعبدون من حجارة أو كواكب أو أشخاصٍ، فهم في النهاية يومنون<< أنَّ هذا الحجرَ أو هذا الكوكبَ أو ما كان من المخلوقات أنَّهُ إلهٌ>> (16)، فهم في الحقيقة يعبدون الله المتجلِّي في الحجر أو الكوكب أو الشخص ، فيكون خطؤُهم في هذه الحالة خطأً في نسبة الألوهية نِسبةً مُطلَقة إلى من نَسَبُوهَا إليه (17) . والخطأ في نسبة الألوهية لا يمنع صحةَ الإيمان ، وصحةَ العبادة في الباطن ، وذلك طِبقًا لقوله تعالى :} وما خلقتُ الجن والإنس إلا ليعبدون{ ، وعليه فكل مخلوق في الحقيقة لا يعبد إلا الله ، عَلِمَ ذلك مَن علمه ، وجهِلَه مَنْ جهِله ، وهذا يَصحُّ على القائلين بالتثليث وعلى الثَّنَوِيَّةِ وَعَبَدَةِ الكواكب والحجارة والأشجار والأشخاص وما إلى ذلك.
ولكنَّ الذي يُثير الإشكالَ هم الملاحدةُ الرافضون الانتماءَ إلى أي دين ، ووفقًا لرأي الصوفية – وفي مقدمتهم ابن عربي – فإن الإنسان لابد أن يكون مؤمنا بشيء ما، بقيمة ما ، أو بمذهب فِكري ما، وهذا يدخل فيه الإلحادُ بوصفه موقفا فكريا . فالإيمان بموضوع أو فكرة أو مذهب أو مبدإٍ ليس في باطنه العميق إلا إيمانًا بمَجْلًى من مجالي الحقيقة الإلهية المطلقة ، وهكذا يكون العالمُ كله مؤمنا(18)، لأن الله قدَّر الأمر هكذا منذ الأزل } وإنْ من شيء إلا يسبح بحمده ، ولكن لا تفقهون تسبيحهم{ . فعبادة الله سارية في كل الموجودات و<< إِنَّ كل جُزءٍ من أجزاء العالم مُسَبّح لله تعالى من كافر وغير كافر ، فإن أعضاء الكافر كلها مُسبِّحة لله. ولهذا يشهد عليه يوم القيامة جِلْده وسمعُه وبصرُه ويدُه ورجلُه . غير أن العالم لا يفقه هذا التسبيح وسريان هذه العبادة في الموجودات >>(19)، فالوجود كله ؛ خَفِيُّهُ وجَليُّهُ؛ عابدٌ لله دائرٌ حول مركز العبودية التي هي زمنُه الكوني ، إذْ لولا العبادةُ لبَقِيَ محجوبًا في الدُّرَّة التي تَكَوَّن منها.

1- نظريته في نشأة الوجود:

يَعتَبِرُ ابن عربي الوجود ناشئًا عن دُرَّةٍ مكنونةٍ في بحر الغيب ، مستورةٍ بِيَدَي الله عن كَنَفِه ، لكنه لَمَّا << أراد أن يسترها عن يديَه بنظره تعالى وتقدَّس، نظر إليها نظرةً بَعدَ نظرةٍ فذابت فصارت ماء ، فجرى فكوَّن الله تعالى منه الأرض والسماءَ، ثم دَحَا الأرض وبَنَى السماءَ ، فظهر الماءُ الذي كان عرشُه بين المياه ، وظهرَ العماءُ في عرشه ، والعرشُ في مائه ، وظهرت الربوبيةُ في الرحمانية ، وظهر الأرضُ التي فيها مَوْطِئُه تعالى وتقدس بين الأراضي ، وظهر سِرُّ قَدَمِه في سِرِّ قَلَمِه ، وخَفِيَت اليدان بَقَدَمِه، وظهرَ النظرُ بقلمه ، وخرج باطنُ الدُّرةَ إلى ظاهرها ، ودخل ظاهرُ الدرة في باطنها ، وفاضَ نورُ الروح في سماءِ ماءِ الحياة(….) وسارت الدرة مستورةً بنظره عن يديه (…) وسارت النفسُ مكتوبة بالرحمة ، ودخلت نفسُه تعالى وتقدس تحت كتابةِ نظرِ العقلِ الكُلي ، ودخل النظرُ المضافُ إلى العقل الكلي تحت كتابةِ نظرِ الله تعالى>>(02)، فنظرية الدرة الذائبة ؛ التي انقلب باطنُها إلى ظاهرها ، وظاهرها إلى باطنُها ؛هي الأصل الذي أرجع إليه ابن عربي وجودَ الوجودِ.




- 64 -


فالله كان قبل أن يخلق الخَلق في نفسه ، وكانت الموجودات مستهلكة فيه ، ولم يكن له ظهورٌ في شيء من الوجود، وهذا هو ما يُعبَّر عنه بالكنْزية المَخْفِيَّةِ التي وصفها الرسول ص بالعماء(= الهَاهُوت) الذي ما فوقه هواء ، ولا تحته هواء ،لأن حقيقة الحقائق في وجودها ليس لها اختصاصٌ بنسبة من النِّسَب، لا إلى ما هو أعلى ولا إلى ما هو أدنى، وهي الدرة البيضاء التي تحدَّث عنها ابن عربي ، والتي ورد الحديث بأن الحق سبحانه كان قبل خلق الخلق في درة بيضاء . ولَمَّا أراد إيجادَ العالم نظر إلى هذه الدرة البيضاء(= حقيقة الحقائق) التي هي أصل الوجود بنظر الكمال، فذابت وصارت ماء ، ولهذا فإنه ليس في الوجود شيء يَحمِل كمال ظهورِ الحق تعالى إلاَّ هُوَ وحده، لأن حقيقة الحقائق (=الدرة البيضاء) التي هي أصلٌ لم تحتمل ذلك إلا في البطون ، فلمَّا ظهر عليها ذابت لذلك، ثم نظر إليها بنظر العَظَمَة فَتَموَّجَت لذلك كما تُمَوَّجُ الأرياحُ بالبحر، فانْفَهَقَتْ كثائفُها بعضُها في بعضٍ كما ينفهق الزبَد من البحر(21). وفي هذا الماء الدُّرِّي رأى الله ذاتَه ، فكان أمران : أولهما :أنه سبحانه وضع قَدمَه في ذاك الماء إلى حيث انتهى نظره فيه، ثم وضعَ فيه حَقَّ دينه، وجعلَ هذا الحق حَرَمًا لصُورته .
ثانيهما : أنه وضع قلمَه حيث ألقَى نظرَه ، ثم وضع فيه حقَّ كتابه ، وجعل هذا الحق حَرَمًا لصفاته .
فمُتَضمَّن النظر الأول هو نَفَس الرحمن الذي ذَوَّب الدرة وأذابَها ، ومُتضمَّنُ النظر الثاني رِيحُ النفَس التي أجرت الماء حتى انبسط وانتشر ، ومُتَضَمَّنُ الريح رُوحُ الله تعالى .فكان من الروحِ الرُّوعُ ، ومن النور النار ، ومن النار النور ، ومن الرُّوعِ الحُورُ بطريق تبديل الحروف . وكان بين النظرتين ستة ظلالٍ لله تعالى ؛هي :
- ظلُّ السلطان
- ظِلُّ الجبروت
- ظِلُّ الكبرياء
- ظلُّ العظمة
- ظِلُّ العِزَّة
- ظلُّ الجَلال
فالنور محمولٌ على ثلاثة منها ، والماء محمولٌ على الثلاثة الباقية ، ومجموعُ الماء والنور والروح والريح والنار والرُّوع والحُورِ صورةُ خُروجِ الأمر الإلهي من الإرادة والمشيئة والقدرة القديمة << إلى الوجود الإلهي ، وإلى كونِ المُريدِ في الكون>>(22)

وهذا الكون المنشأُ من ماء الدُّرة ظهر بشكل دائري ، غير أن نصفَه العُلويَّ خَفِيٌّ، ونصفَه السُّفلي جَلِيٌّ،ويَرمزُ إلى هذا حرف النون ، فهو نصفُ دائرة الكون الظاهر ، فما ظهر منه في العالم الرقمي هو مثل ما ظهر في الفَلك ، ومثلُ ما ظهر من النشأة .فالعالم قد نشأ كرةً ، نصفُ الكرة منه حِسٌّ ،ونصفُه غيبٌ ، وكذلك الفَلكُ نصفُه ظاهر أبدًا ونصفُه غائبٌ عن الحِسِّ ، وسببُ عدم إدراكنا له أننا في الأرض ، والأرض هي الحجابُ عليه المانعُ من إدراكه ، وكذلك ما نشأ في عالم الطبع وظُلْمَتِه فإنه حَجَبَنَا عن إدراك عالم الأرواح الذي هو النصفُ الآخرُ من كرة الكون ، بحيث لا نشاهد إلا آثاره .

وإذن ؛ فحرف النون الظاهر في كلمة (كُنْ) هي التي ظهرت عنها المحسوسات ،والنصفُ الآخر المغَيَّبُ المقدَّرُ عليها هكذا הּعنه ظهرت الروحانيات (23) ولهذا كانت النون هي الوجود الدالَّة نقطتُها على المعبود كما قال ابن عربي: ( الكامل)

نُونُ اٌلْوُجُودِ تَدُلُّ نُقْطَةُ ذَاتِـــــــــهَا فِي عَيْنِهَا عَيْنًا عَلَى مَعْبُودِهَا
فَوُجُودُهَا مِنْ جُودِهِ وَيَميـــــــــــنِهِ وَجَمِيعُ أَكْوَانٍ اُلْعُلاَ مِنْ جُودِهَا
فَاٌنْظُرْ بِعَيْنِكَ نِصْفَ عَيْنِ وُجُودِهَا مِنْ جُودِهَا تَعْثُرْ عَلى مَفْقُودِهَا (24)

ثم إن النون اسمٌ من أسماء الله تعالى ، فأنت إذا جمعتَ بين أوائل السور : (الر) و (حم) و ( ن) ستحصل على اسم( الرحمن)؛الذي به انتشرت الرحمة في عين الوجود، فظهرت الأعيانُ في الوجود عن كلمة الحضرة التي هي (كن) ،ف << الواحد الجسماني ظهر عن الفَهْوَانِيَّةِ، والروحاني ظاهرٌ عن معنى الفهوانية ، وهذا كله في مستودع النون، فهي كُلِّيَّة الانسان الظاهرة ، ولهذا ظهرت>>(25) ، فكان لها الخمسون من حيث هي معقولة .(26)

هذا الوجود المُنشأُ من الدُّرة الذائبة لا يمكن تفسيره إلا بانتهاج ثلاث طرائق ؛هي :
1 ـ طريقة التجلي الأسمائي
2 ـ طريقة الكلمة التي هي التجلي في النفَس الإلهي
3 ـ طريقة النكاح الحروفي

فالأُولَى معناها أن الأسماء الإلهية هي الوسيط العازل (= البرزخ) بين الذات الإلهية وبين العالم،ولذلك فإن الوجود ليس بِنيَة خَطِّية هابطةً من << الواحد>>، بل هو بِنْيَة دائرية ذات مركز ومحيط ، يُمثِّل المحيطُ فيها الموجودات الممكنة ، بينما المركز يُمَثل الاسم الجامع للأسماء الإلهية كلها (= الله) والمُعبِّر في نفس الوقت عن ظاهرة (الذات) . فمن مركز الدائرة (= الله) تمتدُّ خطوطُُ لكل نُقَطِ المحيط (= العالم) حيث تَصدُرُ الكثرة عن الواحد ، وتكونُ التوجهات الإلهيةُ حاضرةً في العالم ، مما يجعل بِنيتَه بِنْيَةً روحية في حقيقتها وجوهرها.


file:///C:/Users/APHROD%7E1/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image002.gif العــــالـــــم

الــعالـــــم





العــــالــــــم

الأسماء
الإلهية

الأسماء
الإلهية

الله


الـــــعــــــالـم


file:///C:/Users/APHROD%7E1/AppData/Local/Temp/msohtml1/01/clip_image010.gif







بِنيَةُ العالم الروحيةُ

الأمرُ الذي يؤكد أن مفهومَ الزمن عند ابن عربي وَفقًا لهذه البينة هو مفهوم كوني إلهي ، وليس مفهوما خَطِّيُّا سَهْمِيًّا ،فالزمن لديه ؛ وإن لم يكن أصلاً في الحق ؛ هو أصلٌ في الكون (27). والطريقة الثانية معناها أن الوجود نشأ حروفًا في النَّفَسِ الإلهي ، فالذات الإلهية حين أرادت أن ترى نفسَها في صورة غير ذاتها (= أن تُعرف خارجَ إطار ذاتيتها ) وَفقًا للحديث القدسي << كنتُ كنزا مخفيا فأحببتُ أن أعرف، فخلقتُ الخَلق، فبي عرفوني >> خَلقَتِ العالم . وعلى هذا فإن الله أحبَّ أن يرى نفسه في صورةِ غيره؛ والحبُّ ما هو إلا تنفيسٌ أي إخراجُ ما في الصدر عن طريق التنفس العميق ؛ فتنفَّسَ ، وعن هذا التنفس تكونت حروف الوجود حَرْفًا حَرْفًا ،أو مرتبة مرتبة ، حتى استوت مراتب الوجود الأساسية وانتظمَت ، كما تنتظم حروف اللغة في النفَس الإنساني ، فإذا استوت الحروف أمكن تكوين الكلمات، وبالمثل إذا استوت مراتب الوجود الأساسية أمكن ظهور الموجودات . أليست الموجوداتُ في النهاية هي كلمات الله؟ فالوجودُ إذن نَبَعَ من بُعدَيْنِ ، ونشأ عن أساسين : الحب من ناحية ، والرحمة من ناحية أخرى ، ولذلك فمَآلُهُ إلى الرحمة التي منها بدأ. والطريقة الثالثة معناها أن النفْس الكلية(= اللوحُ المحفوظ) انبعثت عن القلم(= العقل الأول) << كانبعاث حواء من آدم في عالم الأجرام>> (28) ، فتَمَّ التوالدُ بين العقل (= الذكَر) والنفس(=الأنثى) فتَوَلَدَت الطبيعيةُ .

إن الجمع بين طريقة التجليات الأسمائية وطريقة تجلي النفَس الإلهي هو الذي يُمَكِّننا من موازاة مراتب الوجود الأساسية بالحروف اللغوية ، فمراتب الوجود – كما سيأتي – يصل عَددُها إلى ثمانٍ وعشرين مرتبة أساسية ، توازي كل مرتبة منها حرفًا من حروف اللغة العربية الصوامت أو السواكنles consonnes ، أما الحركات أو حروف العلة الصوائت les voyelles فإنها توازي مراتب المستوى الأول من البرزخ (29) . وهذا الربط بين مراتب الوجود الأساسية وبين حروف اللغة عند ابن عربي نابعُُ من موازاته لتجلي النفسَ الإلهي ، فكما تتشكل حروفُ اللغة نطقًا في النفَس الإنساني باعتماد أعضاء النطق على أماكنَ معينة في جهاز الكلام ،كذلك تتشكل مراتب الوجود الكلية في مستوى العماء، وتَظهر بالتجليات المختلفة والدائمة لحقائق الأُلوهة (30) مما يجعل من الحروف بديلا رمزيا للوجود .

2- ربطه بين مراتب الوجود وحروف اللغة :

فابن عربي قد أقام منظومته الفكرية الصوفية على بِنيَة دائرية مماثلة لِبِنيَة الوجود وموازية لها ، وفي كل بنية دائرية هناك مركز ومحيط ، وأي نقطة على المحيطُ يُمكن أن تكون هي نقطة البداية ، كما يمكن في الوقت ذاته أن تكون هي نقطة النهاية (31) فنظريتُه في الوجود ونشأتِه ومراتبه تعتمد – كما قدَّمنا- على ثلاث طرائق أو عناصر هي : عنصر التجلي الأسمائي ، وعنصر التجلي في النفس الإلهي الممَثِّلُ لنظرية << الكلمة>> عنده ، وعنصر النكاح الحُرُوفِي.

فالعنصر الأول – باعتباره برزخا أو وسيطًا عازلاً بين الذات الإلهية وبين العالم – هو الذي تَبطُن فيه الذات الإلهية عن أن يلحقها وصفٌ أو تتعلق بها معرفة أيًّا كانت سوى معرفة وجودها بذاتها . لكن هذه الأسماء الإلهية التي تَبطُن فيها الذات وتنحجب هي بذاتها التي تتجلى في العالم وتمنحه صفةَ الوجود ، بمعنى أنها تُظهِر فعالية الذات- المحتجبة فيها- في العالم ، فذات الحق موصوفة بالغِنَى عن العالمين ، ومحتجبة عنهم ، وذلك لأن << الألوهة في الجبروت ابرزخي ، فتُقابل الخَلق بذاتها ، وتُقابل الحق بذاتها ، ولهذا لها التجلي في الصور الكثيرة والتحول فيها والتبدل ، فَلَهَا إلى الخَلق وجهُُ به يتجلى في صور الخَلق ، ولها إلى الذات وجه به تَظهر للذات ،فلا يعلم المخلوق الذات إلا من وراء هذا البرزخ وهو الألوهية .فَتَحَقَّقْنَاهَا فما وجدنا سوى ماندعوه بها من الأسماء الحسنى ، فليس للذات جَبْرٌ في العالم إلا بهذه الأسماء الإلهية ، ولا يُعرَف من الحق غير هذه الأسماء الإلهية ،وهي أعيان هذه الحضرات >> (32) ، والمقصودُ بأعيان الحضرات حضرات الوجود التي سيأتي الكلام عنها في هذا المَفْصِل من البحث.

وعنصرُ التجلي الأسمائي في هاته المنظومة الأَكْبَرِيَّة قال به غير واحد مــــــن
الصوفية الأكابر كالعارف أبي القاسم ابن قَسِّي (ت 546هـ) في كتابه << خَلع النعلين>> الذي وضع فيه الأسماء الإلهية في مكانة عَلِيَّةٍ إلى جانب الذات الإلهية ، ووصف هذه الأسماء بأنها الماسكةُ للوجود ، والقائمة عليه ، والمتجليةُ فيه ، فهي المُوجِدَة للمظاهر الوجودية (33) ، وهي البرزخُ بين الذات الإلهية والعالم ، ولأجل ذلك تعددت حقائقُها بتعدُّدِ سريانها وانبثاقِها في الوجود ، لكونها << أصل العالمِ ، وأصلَ الجوهر الفرد ، وفَلَك الحياة ، والحقَّ المخلوقُ به >> و<< حقيقةَ الحقائق ، أو جنسَ الأجناسِ العالية>>(34).
إن اعتماد ابن عربي في نظريته عن الوجود على عنصر التجلي الأسمائي قد جعله يرى الوجودَ دائرة ذات مركز ومحيط ، وليس بِنيَة خَطيةً نازلة من الأعلى المُطلَق؛ محيطُها يُمثِّلُ الموجودات الممكنة ، ومرْكزُها هو الله المعبِّرُ في الوقت ذاته عن ظاهر الذات (35) ، غير أن داخل هذه الدائرة دوائرُ أُخرى أصغرُ ، بعضها يُصوِّر الأسماء الفاعلة في إظهار الممكن الأول ، وبعضُها يمثل الأصولَ الطبيعية (= العناصر) الأربعة : الماء، الهواء،التراب،النار) التي منها يتكون العالم الطبيعي ، فـ<< كل خط يَخرج من النقطة (= المركز) إلى المحيط مُساوٍ ، وينتهي إلى نقطة من المحيط . والنقطةُ في ذاتها ما تعددت ولاَ تَزَيَّدَت مع كثرة الخطوط الخارجة منها إلى المحيط ، وهي تقابلُ كل نقطة من المحيط بذاتها ،إذ لو كان ما يُقابِلُ به نقطةً يُقابِلُ به نقطةُ أخرى لانقسمَت ولم يصحَّ أن تكون واحدة ، وهي واحدة، فما قَابلَت النقطَ كلها – على كثرتها – إلا بذاتها . فقد ظهرت الكثرة عن الواحد العين ، ولم يتكثر هو في ذاته ، فبَطَل قولُ من قال : لا يَصدرُ عن الواحد إلا واحدٌ ** . فذلك الخط الخارجُ من النقطة إلى النقطة الواحدة من المحيط هو الوجه الحاصلُ لكل موجود من خالقه ، وهو قوله : } إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون {.فالإرادة هنا هي ذلك الخط الذي فرضناه خارجا من نقطة الدائرة إلى المحيط، وهو التوجه الإلهي إلى عين تلك النقطة في المحيط بالإيجاد لأن ذلك (= المحيط) هو عين دائرة الممكنات . والنقطة التي في الوسط المُعَيِّنَة لنقطة الدائرة المحيطة هي الواجبُ الوجودِ لنفسه . وتلك الدائرة المفروضة دائرةُ أجناس الممكنات ، وهي محصورة في : جوهر مُتحيِّز ، وجوهر غير متحيِّز ، وأكوانٍ، وألوان >> (36) << والذي لا ينحصر وجودُ الأنواع والأشخاص، وهو ما يحدُث من كل نقطة من كل دائرة من الدوائر التي يحدثُ فيها دوائرُ الأنواع. وعن دوائر الأنواع دوائرُ أنواع وأشخاصٍ ، فاعلم ذلك . والأصل في النقطة الأولى لهذا كله . وذلك الخط المتصل من النقطة إلى النقطة المُعيَّنة من مُحيطها يمتد منها إلى ما يتولد عنها من النقطة في نصف الدائرة الخارجة عنها ، وعن ذلك النصف تَخرج دوائر كاملة . وعِلة ذلك الامتياز بين << الواجب الوجود لنفسه>>وبين<< الممكن>> ، فلا يُتمَكَّنُ أن يَظهر عن << الممكن >> الذي هو دائرةُ الأجناس دائرةُُ كاملة ، فإنها كانت تَدخل بالمشاركة فيما وقع به الامتياز ، وذلك مُحال ، ليَتَبَيَّن نقصُ << الممكن>> عن كمال << الواجب الوجود لنفسه >> >>(37).

إن هذين النصين في تشابكهما وتعالقهما وكثافة دلالتهما العالية لَيُعْطِيــان تَصورًا أمثلَ وأغنى عن بِنية الوجود الدائرية عند ابن عربي ، فهو تصور يجعل من صُدُور الكثرة عن الواحد أمرًا مقبولا دون تعارض منطقي ، ويجعل الحضورَ الإلهي في العالم مستمرا من خلال التجلي الأسمائي ، كما يجعل من بِنيَة العالم بنية روحية في حقيقتها وجوهرها ، تلتقي بدايتُها الوجودية بنهايتها ، الشيء الذي يُلغي مفهومَ الزمن الخطِّي لصالح مفهوم الزمن الكوني أو الزمنِ الإلهي الباطنِ الذي يُعتَبر الزمنُ الخطي الظاهرُ تعبيرًا سطحيا عنه ، فيه تُوجَد الموجودات كلها ، وفيه تتحرك حركتَها الدائرية التي تربط البداية بالنهاية ، وذلك لأن العالم لَمَّا كان كُرَوِيَّ الشكل << حَنَّ الإنسانُ في نهايته إلى بدايته ، فكان خُروجُنا من العدم إلى الوجود به سبحانه وتعالى وإليه نرجع كما قال عز وجل : } وإليه يَرجع الأمر كله { وقال : } وإليه المصير{ وقال :} وإلى الله عاقبة الأمور{ . ألا تَرَاكَ إذا بدأتَ وضعَ دائرة فإنك عندما تبتدئ بها لاتزال تُديرُها إلى أن تنتهيَ إلى أولها ، وحينئذ تكون دائرةً . ولو لم يكن الأمر كذلك لَكُنَا إذا خرجنا من عنده خَطًّا مستقيمًا لم نرجع إليه ، ولم يكن يَصدق قوله ، وهو الصادق } وإليه تُرجعون{. فكل أمرٍ وكل موجود هو دائرة تعود إلى ما كان منه بَدْؤُهَا ، وأن الله تعالى قد عَيَّن لكل موجود مرتبة في عِلمِه>> (38) .فالوجود وَفقًا لهذا ينبني على جدلية يكون فيها الإيجاد من حالة العدم ،أي النقل من حالة إلى أخرى هي الإظهار ، وذلك بالتجلي الأسمائي . فوجودُ الذات الإلهية وجودٌ في مرتبة << الوجود لا بشرط شيء>> أي أنه الوجود الذي لا تقييدَ فيه من أي نوع ، إنه وجود بذاته ومن ذاته ولذاته ، حيث لا يُعقل بتاتا تصورُ أيِّ ثُنائية أو كثرة في صعيد هذا الوجود .فالذات الإلهية تتجلى لذاتها بذاتها ، فتُظْهِر أسماءَها إلى مرتبة << الوجود بشرط لا شيء>>، وهذا الوجود الثاني هو الوجودُ المطلَق ، أي أنه غير مشروط بأي شيء ، إذ الإطلاقْ ليس شرطًا . والفرقُ بين مرتبة الوجود الثاني هاته وبين مرتبة الوجود الأول هو وجودُ صفة الإطلاق في الثاني دون الأول (39) . فظهور الذات الإلهية بأسمائها يُمثِّل التجلِّي الأَقْدَسَ ، وتجلِّي الأسماء بإظهارِ العَالَم يُمثلُ التجلّيَ المُقدَّس ، وذلك لأنَّه إظهارٌ ، وليسَ إيجادًا من عدم ، ومن ثمة فإن دَوْرَ<< الأعيان الثابتة>> لا يقلُّ عن دور الأسماء الإلهية حيوية (40). فالوجود له علاقة مشاركة بين الأسماء الإلهية والعالم ، إذ بدون ظهور أعيان الممكنات من حالة العدم لا تتحققُ للأسماء الإلهية فعاليتُها ، فتَظل مُجردَ إمكانيات باطنة في الذات الإلهية ، زيادة على أن ظهور الممكنات من حالة العدم إلى حالة الوجود أمرٌ مستحيلٌ إذا لم تُمارس الأسماءُ الإلهية فعاليتَها . وهنا نكون أمام مَرتبتين تتضمَّن إحداهما الأخرى تَضمُّنًا ضروريًّا؛ هما : << الألوهية>> و << العالم>>، وكلتاهما بالنسبة للذات الإلهية (=الواجب الوجود بالذات ) مُمْكِنَاتٌ وجودية (41) ، وهذه الممكنات الوجودية لا يتأتى لها الظهور والإظهارُ إلا بالحب ، والحب مرتبط مدلُوله في الحديث القدسي عن الكنزية المَخفِيَّة بالرحمة . فالذات الإلهية << أحبَّت>> أن ترى نفسها في صورة أخرى غير ذاتها ، وهذا الحبُّ هو المعبَّر عنه بالتنفُّسِ الرحماني أو العماء الذي تكونت عنه حروف الوجود الأساسية (= مراتبه وممكناته) كما تكونت حروف اللغة في النفسَ الإنساني، واستوت وانتظمت، فظهرت الموجودات ، فالموجوداتُ في النهاية هي كلمات الله.

إن هذا النفَس الإلهي هو البرزخ الجامع الذي ينتظم الكونَ كلَّه ، وإذا كان الوجودُ من أعلاه إلى أدناه برزخا فاصلا وجامعا فإن هذا البرزخ الجامع ينقسم إلى ما لا نهاية له من البرازخ دون تتابعٍ زماني ، إذْ لا مَدخلَ للزمن في التجليات الإلهية ، لأنه مفهوم مخلوقٌ ونِسْبِي محدث (42) . فالتجلي في النفَس الإلهي إذن هو العنصرُ الثاني في نظرية الوجود ونشأتِه عند ابن عربي ، حيث يكونُ التجلي الإلهي الذاتي من مرتبة الوجود << لاَ بشرطِ شيءٍ>> إلى مرتبة الوجود << بشرطِ لا شيءٍ>> تفريجًا عن <<كَرْبِ الوحدة، وعن حبِّ الواحد الأحد أن يرى ذاته ماثلةً في صور غَيرِيَّة ، إِذْ في هذا المستوى المعبِّر عن << نفَس>> الذات بدأ الوجودُ رِحْلَةَ تجلياته ؛التي هي صورة الذات منعكسةً في الخارج (43).

أما العنصر الثالث في هذه النظرية الأَكبَريَّةِ للوجود فَيَتَمثَّلُ في عنصر النكاح والتوَالُد؛ الذي لا يَظهر حضورُه الفعلي إلا عند انقسام البرزخ الجامع إلى ما لا نهاية له من البرازخ ، ففي مستوى من مستويات هذا الانقسام يَبرُزُ عنصرُ النكاح الحروفي ، حيث النفْسُ الكلية (= اللوح المحفوظ) انبعثت عن العقل الأول (= القلم) << كانبعاث حواء من آدم في عالم الأجرام>>(44)، ثم بالنكاح بين العقل (=الذَّكَر) والنَّفْسِ(= الأنثى) تَمَّ التوالدُ ، حيث تولدت الطبيعةُ والهباءُ << توأمين>>. وهكذا يكون القلمُ الأبَ الأولَ، ويكون اللوح (= النفس الكلية) الأُمَّ ، غير أن اللوحَ بالقياس إلى ما يليه - الطبيعة والهباء – يُعَد أبًا ثانيا<< وبعد أن عرفتَ الأبَ الثاني من الممكنات وأنه أُمٌّ ثانية للقلم الأعلى ، فكان مما أُلقِيَ إليها من الإلقاء الأقدس الروحاني الطبيعةُ والهباءُ ، فكان أولَ أُمٍّ ولدت توأمين: فكان أولَ ما ألقَتْ (= وَلَدَتْ) الطبيعة ثم تَبِعتْها بالهباء ؛ فالطبيعة والهباءُ أخٌ وأختٌ ، فكان الطبيعةُ الأبَ فإن لها الأثرَ، وكان الهباءُ الأُمَّ فإن فيها ظهر الأثرُ، وكانت النتيجةُ الجسمَ ، ثم نزل التوالدُ في العالم إلى التراب على ترتيب مخصوصٍ>> (45)، يُجسِّدُ عالمَ الأمر الذي تتجلى فيه فعاليةُ الأسماء الإلهية في توجُّهها على إيجادِ أعيان مراتب الوجود التي تتعلق بها المعرفةُ ، حيث ترتبط كل مرتبة وجودية بمَرْتَبَةٍ معرفية يُعبَّر عنها برمزية حَرفٍ من حروف اللغة، وينبع هذا الربطُ بين مراتب الوجود الكلية وبين حروف اللغة عند ابن عربي من موازاته لمفهوم<< النفَس الإلهي >> ، فكما تتشكلُ الحروفُ اللغوية نُطقًا في النفَس الإنساني باعتماد أعضاء النطق على مواضعَ مُعينَة في جهاز النطق، تتشكلُ كذلك مراتبُ الوجود الأساسية في مستوى العماء(= النفَس الإلهي)، وتَظهرُ بالتجَلِّيات المختلفة والدائمة لحقائق الألوهة ؛(46) التي لها نظرتان في البُداء والبَرَاءِ . فالنظرةُ الأولى للحق هي نظرتُه في بَدْءِ الدُّرَّةِ ، ونظرتُه الثانية هي نظرتُه في بَرْءِ الجوهرةِ، وهي النظرةُ الظاهرة ، ومنها النظرة الباطنة .

فهو لَمَّا نظر إلى بدء الدُّرة نَظرَ منها إلى الخلائق ، حيث أرسل صورةَ الخوفِ المُشتمِلَةَ على الخشيةِ والإشفاق والوَجَل والرهَب والفزَعِ إلى الحِيلة ، ولمَّا نظر إلى بَرْءِ الجوهرة نظرَ منها إلى الأرزاق، حيث أرسلَ صورةَ الطمَع المشتملة على الرجاء والأمَل وحًسْنِ الظنِّ به عز وجَلَّ، وابتغاء الوسيلةِ ، والميل والسؤالِ منه . ويُقابِلُ هاتين النظرتين


الإلهيتين نظرَتَان للإنسان: نظرةٌ إلى خلقِه ، ونظرةٌ إلى طعامِه، وإليهما أشار قوله تعالى:} فلينظر الإنسان مِمَّ خُلق خُلق من ماء دافقٍ يَخرج من بين الصلب والترائب{ (47) وقوله :}فلينظر الإنسان إلى طعامه{(48) . ومن النظرتين وقوعُ الطمَع والخوفِ في الإنسان ، والنظرُ إلى الطعام نظرٌ ممتدٌّ إلى الأرزاقِ وإلى الرزَّاق، والنظرُ إلى الخَلق نظرٌ إلى الخلائقِ وإلى الخلاَّق . غير أن النظر إلى الرِّزْقِ يُثبِتُ المُرتزِق ، وإثباتُه إثباتٌ لِلْحِجَابِ ، والنظرُ إلى الخَلق يَذْهَبُ بالخَلق ، ويَقومُ الناظِرُ بالخالقِ، والذي يَذهبُ بالخَلق يَذْهَب بالحجاب (49).




وإذا ارتفع الحجابُ وقفَ المرءُ على حضرات الوجود كلها ؛ وهي خمسٌ:

1 ـ حضرةُ عالمِ الناسوت : وهي مرتبة وجود الأجسام الكثيفة

2 ـ حضرة عالم الملكوت : وهي مرتبة فيض الأنوار القدسية ، وتمتد من السماء الأولى إلى السابعة ، وتشمل عالمَ المِثال وعالمَ الروحانية ، وعالمَ الأفلاك.

3 ـ حضرة عالم الجبروت : وهي مرتبة فيض الأسرار الإلهية ، وتمتد من السماء السابعة إلى الكرسي ، وتشمل عالم الأرواح المجرَّدة ، أي عالم الملائكة .

4 ـ حضرة عالم اللاَّهُوتِ : وهي مرتبة ظهور أسماء الله تعالى وصفاته بأسرارها وفيوضها وتجلياتها .

5 ـ حضرة الهَاهُوتِ : ( = العماء) وهي مرتبة البطون الذاتي الذي لا مَطمع لأحدٍ في نيلها إلا التعلق بها فقط (50)

فهذه الحضرات- بمختلف مستوياتها – هي التي توازيها حروف اللغة ، غير أن إدراك هذه الموازاة متعذر على العقل المحض،مادامت بعض مستويات الحضرات المذكورة ومراتبها داخلة في المَاوَرَائيات التي لا يُدركُها إلا العقل البصائري أو العقل الأخلاقي كما يسميه إِيمَانْوِيلْ كَانْطْ kant . فهو قد قسَّم العقل البشري إلى شقين ، مؤكدًا أن أيًّا من البراهين التي يَسوقها الاستدلاليون لإثباتِ أو دحضِ الماورئيات لا تُفضي إلى شيء على الإطلاق ، وأنَّ التعقل بمعزل عن الإيمان تمامًا.

لقد أرسى كَانْطْ دعائم فلسفة نقدية شدَّدت على ثقة الإنسان بأدواته العقلية في إدراك المحسوسات ، وعلى عدمِ مقدرة هذه الأدوات في إدراك اللامحسوسات ، فكتابة << نقد العقل المحض>>هو فحصٌ لماهية المعرفة الإنسانية وحدودها ، وبيانٌ بأن ما بعد الطبيعة خارج حدود الإدراك البشري ، ولذلك يرى أن المفاهيم التي نستخدمها لا قيمة لها إلا في مِضْمَارِ التجارب الممكنة الحصول ،أما خارج هذه التخوم فلن يكون لها أي محتوى، ولا أية دلالة عينية . فالمفهوم لا يكون ذا معنى إلا إذا تقيد بتخوم التجربة والموضوعية المَبنية على الإدراك الحسي ، وعليه فإن العقل عاجز عن إدراك الله ومعرفته ، بل إن الله لا يقع ضِمْنَ العقل المحض . ولذا وضع كَانْطْ كتاب << نقد العقل العملي>> الذي يُثبت فيه وجود الله عن طريق الأخلاق ، ويَشرحُ مكانة الله في منظومته الفلسفية فمفهومُ الله ، ومفهومُ الحرية ، ومفهوم الخلود من المبادئ الأساسية التي يُقررها العقلُ العملي ويَعدُّها بُرهانا على وجود الله ، ويسميها << البرهان الأخلاقي>> بدلاً من البراهين الأُونطولوجية والكونية والغائية التي تستحيل فيها معرفة الله .

إن المعرفة الحسية لدينا تأتينا من مصدرين :
أ‌- الشهود الحسي
ب ـ مَقُولاتُ الحِسِّ المتعالي.

وبامتزاج هذين المصدرين داخلَ مقولتي الزمان والمكان يتم الإدراك الحسي ، فنحن نعرف الظواهر أو الأشياء لذاتها ، وليس الظواهر أو الأشياء في ذاتها ، وذلك لأنَّ << نُومِنْ>> الأشياء غير ممكن الإدراك بالحواسِّ، بمعنى أننا لا نستطيع التوفر على شهود حسي لهذا << النُّومِنْ>>، لأنه بمثابة باطن << اٌلْفِينُومِنْ>> والفيِنُومِنْ بمنزلة ظاهر << النُّومِنْ>> . والمشهود بالنسبة لنا هو الفِينُومِنْ(= الظاهر ) فحسب ، وهذا لا يعني أن الإدراك الحسي هو إدراكٌ للفِينُومِنْ ،إنما الإدراك الحسي هو تركيبٌ لهذه المادة الخام مع قَالَبَي الزمان والمكان ، أو صبُّ لها فيهما ، ولو لم تَحمِلْ أذهانُنا هذين القالبين لَتَعذَّر علينا الإدراك الحسي . وليس للفِينُومِنْ أي لَوْنٍ ، والزمان والمكان هما اللذان يمنحانه لونَه .

وعليه؛
فإننا لا نستطيع إدراك عِلِّيَّةِ الله للعالم ، لأننا لا نتمكن من فهم علاقة الله بعالم الوجود عن طريق العقل النظري . لماذا ؟لأن الله لا يدخل في دائرة شهودنا الحسي ،لأنه ليس شيئا ماديا محسوسا نشهده بحسنا ليُتاح لنا بعد امتزاج هذا الشهود الحسي مع صور الشهود ومَقولاتِ الفَاهِمَةِ إدراكُ العِلِّيَّة بين الله والعالم ، ولكن الذي بوسعنا فقط هو إدراكُ العِلِّية بين الأشياء الطبيعية عقليا ،أمَّا إدراكُ النفْس بعقلنا النظري فذاك ما ليس بمستطاعنا،لأنها بدورها ليست شيئا ماديا، وكذلك الحالُ بالنسبة للحرية أو الاختيار ، ناهيك عن الأمور المجرَّدة المَاوَرَائِيَّةِ ، فمن الصعب أن تغدوَ مُتعَلِّقَاتٍ للمعرفة ، لأنها مُفتقرة إلى المحتوى التجريبي ، بمعنى ان إطلاق مقولات كالجوهر، والوحدة ، والدوام ، والعِلِّيَّة ، وما إليها لا تؤدي إلى المعرفة مادَامَتْ لاتُعطِي لنا في قالبي الزمان والمكان مُمارَسةً.
وتأسيسًا على هذا فإننا نرى أن براهين إثبات الله كالبرهان الأُونْطُولُوجي والبرهان الغائي غير تامة،وأن الطريق إلى هذا الإثبات هو البرهان الأخلاقي الذي يُخرج مفهومَ الله عن طريق العقل النظري ، ويُدخله في الشعور والوعي، أي في المعرفة العرفانية ، حيث تختفي الفواصل بين << الأنا>> و << سِوَى الأنا>> (51) ، أما المعرفة العقلية فهي مقيدة بمواصفات العقل وآلياته؛ التي تبقى مَهْمَا ارتقت محدودةً ؛ ولذلك عُدَّ العقل قاصرًا في المسائل التي تتناول ما وراء الحسِّ وما وراء الوجدان ، لارتباطها بالله تعالى ، وبالجزء الخفي من الكون (= الروحاني) . وكلُّ ما هو مرتبط بالله يَصعبُ الوصولُ إليه بالعقل ؛ بما هو آلةٌ تفكير بشرية ؛ إذ لو كانت له فضيلةُ الإحاطةِ والإدراك واليقينِ لوَصَفَ الله به نفسَه ، وأدخلَه في جُملة أسمائه الحًسنى وصفاته العُلى (52). ولذلك فإن كل مقاربة للوجود بشطريه : الخفي والجلي ، وفي مستوياتهما المتعددة لا تؤتي أُكلها إلا إذا كانت عن طريق العقل البصائريِّ الشهوديِّ، فهو القادرُ على تصنيفِ مراتب الوجود ، وأنواعِ الموجودات ، وعلى إدراكِ معنى الغيب ، ومستوياتِ البرزخِ والأحوالِ فيه، وعلى فهم العلاقة العميقة بين الجَسَدِ الرُّوحِي (= الحروف ) (53) وبين مراتب الوجود .

3- موازاته الحروف بمراتب الوجود:

إن الوجود هو وجدانُ الشيءِ نفسَه في نفسِه ، أو غيرَه في نفسِه ،أو في غيرهِ في مَحلٍّ ومرتبة ونحوهما. وهو على مراتب ؛ هي :
1 ـ الوجود في التعيُّن الأول
2 ـ الوجود في التعيُّن الثاني
3 ـ الوجود الظاهرُ في المراتب الكونية ، وهو ظهوره في مرتبة الأرواح ، والمثال ، والحِسِّ ، المسمَّى كلُّ تَعيُّنٍ منها من الوجود خَلقًا وغيرًا .
4 ـ الوجود الظاهري ، وهو تجلِّي الحق باسمه الظاهر في أعيان المظاهر
5 ـ الوجود الباطن ، وهو وجودُ كلِّ باطنٍ حقيقةً مُمكنةً
6 ـ الوجود العامُّ ، وهو اسمُ الوجود باعتبار انبساطه على الممكنات ، وبهذا الاعتبار يُسمَّى صُورةَ جَمعيَّةِ الحقائق .
7 ـ الوجودُ الظَّفَرُ ، ويُراد به وِجدَانُ الحق في الشهود .
8 ـ الوجود السيَّار ، وهو مَنزلٌ من منازل السائرين إلى الله تعالى ، وهو أحدُ المنازل العشرة التي يشتمل عليها قِسْمُ النهايات .(54)

فهذه الوجودات نشأت حروفًا في النفَس الإلهي ، واستوت مراتبُها الأساسية كاستواء حروف اللغة في النفسَ الإنساني ، وبهذا الاستواء أمكن ظهور الموجودات التي هي في النهاية كلمات الله ، وذلك على أربعة مستويات يتضمَّنُ كل مستوى أربعَ مراتبَ:
مستوى البرزخ الأعلى أو العماء المطلق ،أو الخيال المطلق ، أو حضرة الهَاهوُتِ
أ‌- مستوى عالم الأمر أو العقول الكُلِّيَّة .
ج- مستوى عالم الخَلق
د- مستوى عالم الشهادة أو عالم الكون والفساد .

وهذه المستويات تنقسم إلى عَالَمِ غيبٍ(= وجود خفي ) وعالم شهادة (= وجود جَلِيّ) . فكل عالم نظرَ إليه الله بواسطة الإنسان فهو عالمُ شهادةٍ وجودية، وكل عالم نظر إليه من غير واسطة الإنسان فهو عالمُ الغيب ، وهذا الغيب على نوعين :

&#216; غيب جعله الله مُفصَّلا في عالم الإنسان
&#216; غيب جعلهُ مُجمَلاً في قَابِليَّةِ الإنسان

فالأول يسمَّى غيبا وجوديا ، وهو كعالم الملكوت ، والثاني يسمَّى غيبا عَدَمِيًّا ، وهو كالعوالم التي يعلمها اللهُ تعالى ولا نَعلَمها ، فهي عندنا بمثابة العدم، فهذا هو معنى الغيب العدمي.

والعالمُ الدنيوي الذي يَنظر الله إليه بواسطة الإنسانِ مايزال شهادةً وجودية مادام الإنسانُ واسطةَ نظرِ الحق فيها ، فإذا انتقل منها نظر الله إلى العالم الذي انتقل إليه الإنسانُ
بواسطة الإنسان، فصار ذلك العالمُ شهادة وجودية ، وصار العالم الدنيوي غيبًا عَدَمِيًّا ، ويكونُ وجود العالمِ الدنيوي حينئذٍ في العالم الإلهي كوجودِ الجنة والنار اليومَ في عِلمهِ سبحانه وتعالى ،فهذا هو عينُ فناء العالم الدنيوي وعينُ القيامة الكبرى وهي الساعة (55).وأيًّا كان الغيبُ فإنه لا يَخرج عن مستويات البرازخ التي أشرنا إليها؛ وهي : البرزخ الأعلى ، ومستوى عالم الأمر ، ومستوى عالم الخَلق ، ومستوى عالم الشهادة ،فهذه المستويات الأربعة هي مستويات برزخية وجودية ، وعليه فإن البرزخ وجودُُ لا عدم ، ولكنه وجود غير تامٍّ ولا مستقل ، إذ لو كان تامًّا أو مستقلا لكان دارَ إقامة مثل دار الدنيا والآخرة فهو كتلك الشعلة المُخضرَّة بخضرة الزجاجة تُشكَّل كما هي عليه ، ولكن في عالم الخيال ،لأن عالم الخيال لأهل الدنيا غير تام ،فليس لخيالهم استقلالُُ بنفسه،أمَّا عالمُ الخيال في نفسه فهو عالم تام ، ولكن بالنظر إليه في عينه ، وهو بالنظر إلى عالم الحسِّ والمعاني غير تام ، بخلاف خيال العارفين بالله فإنه كامل ومستقل وتام بنفسه ، فهو بمثابة آخرة غيرهم من أهل الدنيا . ولم يُسمَّ البرزخ برزخًا إلا لأنه ليس له وجود تام ، وكذلك خيال أهل الدنيا برزخ بين العالم الوجودي وبين العَالَم العدمي . وأحوال الخلق في البرزخ مختلفة ، فمنهم مَنْ يُعامَل فيه بالحِكمة ، ومنهم مَنْ يُعامَل فيه بالقدرة (56)فهو برزخ البرازخ الأعلى (= الخيال المطلق أو العماء)الخارجُ عن نطاق المعرفة ،لأنه تعبير عن الذات الإلهية في وحدتها المطلقة ، لا يُعرف إلا من خلال تجلياتها .
وبما أن الوجود هو تَجَلٍّ إلهي مستمر ،فإن ابن عربي ينظر إليه كبِنيَة دائرية نصفُها خَفي والنصفُ الآخر جَلِي ، تُمثّل النونُ النصفَ الجَليَّ ، والنصفَ الخَفيَّ تُمثِّلُه النون المقلوبة الغائبة التي تُتَمِّم الدائرةَ ، وعليه فإن الوجود عنده وجودان: وجود خفي وجود جَلي.

1.3 الوجود الخفي : مراتبه وحروفها :

وهو يتضمن ثلاثة مستويات هي بمثابة العِلَلِ الكلية للوجود ، وفي كل مستوى أربع مراتب . وهذه هي مستوياته الثلاثة بمراتبها وبالحروف التي توازيها :
أ- مستوى البرزخ الأعلى:أو الخيال المطلق أو الهَاهُوت ، ويشتمل على أربع مراتب وجودية ؛ هي:

1 ـ مرتبة الأُلوهية التي تمثل مجموع الأسماء الإلهية الفاعلة في الوجود ، كما تمثل الوسيط الذي تجتمع فيه الذات الإلهية والعالم.
2 ـ مرتبة العماء أو الأعيان الثابتة في العدم، وتمثل وسيطا من نوع آخر بين << الوجود المطلق الكلي>> و<< العالم المطلق ،أي أنه وسيط عالم << الإمكان>>الذي توجد فيه أعيان الموجودات وجودًا بالقوة لا بالفعل.
3 ـ مرتبة حقيقة الحقائق الكلية ، وتمثل الوسيطَ المعرفي الكلي،أي الحقائق الكلية المعقولة التي تُشبه إلى حَدٍّ ما << المعقولات الكلية>>
4 ـ مرتبة الحقيقة المحمدية ، أو الإنسان الكامل ، وتمثل الوسيط بين الذات الإلهية والإنسان.

ب- مستوى العقول الكلية : أو مستوى عالم الأمر ، وفيه يحضر مفهوم النكاح الحروفي والتوالد ، ويحتل مكانا وَسَطًا بين مستوى البرزخ الأعلى ومستوى عالم الخَلق الذي يليه ، وفي هذا المستوى تتجلى فعالية الأسماء الإلهية في توجهها على إيجاد أعيان مراتب الوجود . وهو يحتوي على أربع مراتب :

1 ـ مرتبة العقل الأول (= القلم الأعلى ) الذي هو أول مُبدع في العماء ، وأولُ
تَعيُّنات الحق في المظاهر الخَلقية على التمييز ، وذلك لأن الخَلق له تَعيُّن إيهامي أولاً في العِلم الإلهي ، وله ثانيا وجودٌ هُوَ مُجْمَلٌ حُكمِيٌّ في العرش ، ثم له ثالثا ظهور تفصيلي في الكرسي ، ثم له رابعًا ظهور على التمييز في القلم الأعلى . وجميع الظهورات الثلاثة الأُوَّل في تلك المجالي تُعتبَر غيبًا ، أما الظهور الرابع في القلم الأعلى فهو ظهور عيني وجودي مميَّز عن الحق.فالعقل الأول أو القلم الأعلى أنموذج يكتب ما يقتضيه في اللوح المحفوظ، كالعقل فإنه أنموذج يكتب ما يقتضيه في النفس ، فالعقل بمكانة القلم ، والنفس بمكانة اللوح ، والقضايا الفكرية التي وُجدت في النفس بالقانون العقلي هي بمثابة الصور الوجودية المكتوبة في اللوح المحفوظ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام :<< أول ما خلق الله تعالى العقل>>(57) ، وقال :<< أول ما خلق الله القلم >>(58) ، والعقلُ الأول بنِسبتِه إلى الخَلق يُسمَّى القلم الأعلى ، وبنسبته إلى مُطلق الخَلق يسمَّى العقل الأول ( 95). وهو بهذا يكون مَحلَّ الشكل العِلمي الإلهي في الوجود ، منه ينزل العِلمُ إلى اللوح المحفوظ(= وَاقِعَة النكاح ) ، فهو إجمالُ اللوح ، واللوحُ تفصيلُه ، بل هو تفصيل عِلم الإجمال الإلهي ، واللوح محلُّ تعيُّنه وتنزُّله . وفيه من الأسرار الإلهية مالا يسعه اللوحُ، كما أن في العِلم الإلهي مالا يكون العقل الأولُ مَحلاًّ له ، فالعِلم الإلهي هو أمُّ الكتاب ، والعقلُ الأول هو الإمام المُبٍينُ ، واللوح هو الكتاب المبين ، فاللوحُ مَاْمُومٌ بالقلم تابعٌ له ، والعقل الأول (= القلم) حاكمٌ عليه ، مُفصِّل للقضايا المُجمَلة في دَوَاةِ العلم الإلهي المعبَّرِ عنها بالنون . والفرق بين العقل الأول (= القلم) والعقل الكُلي وعقلِ المَعَاشِ(= العقل البشري )هو أن العقل الأول نورُ عِلمٍ إلهي ظهر في أول تَنزُّلاته التَّعْيِينيَّة الخَلقية ، فهو أقرب الحقائق الخَلقية إلى الحقائق الإلهية ، والعقلُ الكلي هو القُسْطَاسُ المستقيم وميزانُ العدل في قبة اللوحِ الفَصْلِ ، أي أنه العاقلةُ المُدرِكَة النورية التي ظهرت بها صورُ العلوم المُودَعة في العقل الأول ، والعقلُ المَعاشُ هو النور الموزون بالقانون الفكري ، لأنه لا يُدرِك إلا بآلة الفكر ، وإدراكُه يكون بوجه من وجوه العقل الكلي فقط ، لا طريق له إلى العقل الأول لأن العقل الأول مُنَزَّهٌ عن القيد بالقياس ، وعن الحصر بالقسطاس ، ومُنزَّه عن الحصر بقانون دون غيره ،بل إن وزنه للأشياء على كل معيار . أما العقل المعاش فليس له إلا معيار واحد وهو الفكر ، وليست له إلا كِفَّة واحدة وهي العادة ، وليس له إلا طرف واحد وهو المعلوم ، وليس له إلا شوكة واحدة وهي الطبيعة ، بخلاف العقل الكلي فإن له كِفَّتَينِ : إحداهما الحِكمة والثانية القدرة ، وله طرفان : أحدهما الاقتضاءات الإلهية ، والثاني القوابل الطبيعية ، كما له شوكتان : إحداهما الإرادة الإلهية والثانية المقتضيات الخَلقية ، وله كذلك مَعاييرُ شتى ؛ من جملتها انه لا معيار له ، ولذلك كان هو القسطاس المستقيم ،
ولكنه لا يتعدَّى الكون ، ومن ثمة لا يُعرَف الله بالعقل سواء كان عقلا كليا أو عقلَ مَعاشٍ،وإنما بنور الإيمان الذي تكون معرفته مطلقة غير مقيدة بالدلائل والآثار ، لأنها متعلقة بالأسماء والصفات. إن العقل الأول نورٌ واحدٌ؛ فإذا نَسَبْتَه إلى العبد يُسَمَّى العقل الأولَ، وإذا نسَبْتَه إلى الحق يُسمَّى القلم الأعلى (60). فهو من حيث بُعده الباطن ينتمي إلى مستوى برزخ البرازخ ، ومن حيث ظاهره ينتمي إلى أُولَى مراتب مستوى عالم الأمر (= مستوى العقول الكلية)، ومن هنا كان دوره بين المستويين الأول والثاني بمثابة همزة الوصل . والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجاد العقل الأول هو << البديع>> ، ويوازيه من حروف اللغة حرف الهمزة على المستوى الوجودي / المعرفي (61)، فهذا التوازي بين مراتب الوجود حسب ترتيبها في النفَس الإلهي هو نفس التوازي بين حروف اللغة في النفَس الإنساني .

2 ـ مرتبة النفْس الكلية (= اللوح المحفوظ ) التي هي أول مُنبعث عن مرتبة العقل الأول (= القلم) ، وهي عبارة عن نور إلهي حَقي مُتجلٍّ في مشهد خَلقي ، انطبعت الموجودات فيه انطباعا أصليًّا . وتُعتبرُ النفس الكلية أُمَّ الهَيُولَى ، لأن الهَيُولَى لا تقتضي صورة إلا وهي منطبعة في اللوح المحفوظ ، فإذا اقتضت صورة مَا وُجِدَ العَالمُ على حسب ما اقتضته من الصور والمُهْلَةِ،لأن القلم الأعلى جرى في اللوحِ المحفوظ بإيجادها ، واقتضتها الهَيُولى ، ومن ثمَّ فلا بد من إيجادها على حسب المقتضى ، ولهذا قال العارفون الإلهيون : إذا اقتضت الهيولى صورةً ، كان حقا على واهب الصور أن يُبرزها في العالم ، فالنور الإلهي المنطبعُ فيه الموجودات هو المعبَّر عنه بالنفس الكلي ، ثم الإدراك لما كتبه القلم الأعلى في ذلك النور المعبَّر عنه باللوح المحفوظ (= النفس الكلية ) لا يكون إلا بوجه من وجوه ذلك النور ، وذلك الوجه هو المعبر عنه بالعقل الكلي كما أن الانطباع في النور هو المعبَّر عنه بالقضاء وبالكرسي. فالتقدير في اللوح هو الحُكم بإبراز الخَلق على الصورة المعيَّنة بالحالة المخصوصة في الوقت المفروض ، وهذا هو المعبَّر عنه بالقلم (= العقل الأول) ، ومثاله: قضى الله بإيجاد شيء ما على هيئة ما ، في زمنٍ ما، فالأمر الذي اقتضى هذا التقدير في اللوح هو القلم الأعلى ، والمحلُّ الذي وجِدَ فيه بيانُ هذا الاقتضاء هو اللوح المحفوظ، ثم الأمر الذي اقتضى إيجاد هذا الحُكم في الوجود هو مُقتضَى الصفات الإلهية المعبَّر عنه بالقضاء ومَجْلاَهُ هو الكرسي . وإذن ؛فإن مرتبة اللوح المحفوظ ما هي إلا نُبذة من علم الله تعالى ، أجراه الله على قانون الحِكمة الإلهية حسب ما اقتضته حقائق الموجودات الخَلقية ، وإلا فإن لله عِلمًا وراء ذلك هو حسب ما تقتضيه الحقائق الحقيَّةُ ، برز على نمط اختراع القدرة في الوجود لا تكون مثْبَتَة في اللوح المحفوظ بل قد تظهر فيه بعد ظهورها أيضا ، وجميع ما في اللوح المحفوظ هو عِلمُ مُبتدأ الوجود الحسِّي إلى يوم القيامة . والمقتضَى به المقدَّر في هذا اللوح هو على نوعـين:

v مُقدَّر لا يمكن التغيير فيه ، ولا التبديل ، لأنه من قبيل الإثبات فقط ، ويشمل الأمور التي اقتضتها الصفات الإلهية في العالم ، ولا سبيل إلى عدم وجودها .

v مقدَّر يمكن التغيير فيه والتبديل ،لأنه من قبيل المحو والإثبات أو النَّسْخِ ، ويشمل الأشياء التي اقتضتها قَوابلُ العالم على قانون الحِكمة المعتادة ، فقد يجريها الحق سبحانه وتعالى على ذلك الترتيب فيقع المقضيُّ به في اللوح المحفوظ ، وقد يُجريها على حُكم الاختراع الإلهي فلا يقع المقضيُّ به . ولا ريب أن ما اقتضته قوابلُ العالم هو نفس
مُقتضى الصفات الإلهية، ولكن بينهما فَرقًا ، فلو اقتضت قوابل العالم شيئا فإنه من حُكمها العَجْزُ لاستناد أمرها إلى غيرها ،فلأجل هذا قد يقع وقد لا يقع ، بخلاف الأمور التي اقتضتها الصفات الإلهية فإنها واقعةُ ضرورةِ الاقتضاء الإلهي ، فقوابلُ العالم مُمكِنة ، والممكن يَقبَل بالشيء وضده ، أما الأمور التي اقتضتها الصفات الإلهية فهي قضاء مُحكَمُُ لا تغيير فيه ولا تبديل عكسَ القضاء المُبَرمِ ، ولهذا استعاذ النبي ص من القضاء المُبرَمِ ، لأنه يَعلم أنه يُمكن أن يَحصُلَ فيه التبديل والتغيير ، قال الله تعالى:} يمحو الله ما يشاء ويُثَبِّت وعنده أُمُّ الكتاب {(26) بخلاف القضاء المُحْكَم فإنه المشار إليه بقوله تعالى :} وكان أمرُ الله قَدَرًا مقدورا{ (36) ، وعلى كلٍّ فإن النفس الكلية هي النور الإلهي الحقي المتجلي في المشهد الخَلقي (46) ، يُمثلها على مستوى حروف اللغة حرف الهاء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الباعث>> (56)، والفارق بينها وبين العقل الأول فارقُُ كَمِّيٌّ لا كَيفيٌّ ،فكل منهما يمثل تجليا مختلفًا في مستوى العماء ، يتماثل مع الفارق بين << الهمزة>> التي تُمثل حالةَ التحرر الكامل لهواءِ النفَس ، وبين حرف << الهاء>> الذي يمثل مرحلة أدنى من تحرر الهواء على المستوى الصوتي .

3 ـ مرتبة الطبيعة الكلية أو الهباء ، وهي ثمرة التلاقح (= النكاح) بين القلم (= الذكر) وبين اللوح (= الأنثى )، ويمثل هذه المرتبة من حروف اللغة حرف العين ، والاسم الإلهي الذي توجه على إيجادها هو << الباطن>>.

4 ـ مرتبة الجوهر الهبائي ، ويوازيها من حروف اللغة حرف الحاء ، والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجادها هو << الآخر>> . وفي داخل هذه المرتبة – يُدمِجُ ابن عربي- مرتبة أخرى هي مرتبة << الجسم الكل >> ، وتُمثل مرتبة وُسطَى بين المعقولات وبين أول الموجودات في المستوى الثالث المسمَّى بعالم الخلق ، وهو العرش ، ويوازي هذه المرتبة الوسطى المُدْمَجَة من حروف اللغة حرف الغين ، والاسم الإلهي المتوجه على إيجادها هو << الظاهر >>(66)، وتتداخل أيضا مع هذه المرتبة مرتبة << الشكل>> التي تبدو تجريدية أكثر من مفهوم<< الجسم الكل >> ، ويوازيها من الحروف حرف الخاء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الحكيم >> وللأسماء الإلهية المتوجهة على إيجاد هذه المراتب دلالتُها هنا ، فالطبيعة تمثل باطنَ النفْس الكلية (= اللوح المحفوظ) ، والجسمُ الكل يمثل مَجْلَى << الظهور>>الأول في << الجوهر الهبائي>> الذي يمثل بدوره آخر المراتب المعقولة (67)

أ‌- مستوى عالم الخلق : ويشتمل على أربع مراتب وجودية كذلك ؛هي :

1 ـ مرتبة الجسم الكُلِّي أو العرش، وهو يمثل من حيث باطنُه آخرَ مستويات عالم الأمر ، ويمثل من حيث ظاهره أول مستويات المرتبة الثالثة . فهو مَظهرُ العظمة ومكانةُ التجلي وخصوصية الذات ، ويُسَمَّى جسمَ الحضرة ومكانها ، مُنزَّه عن الجهات الست ، شاملٌ لجميع أنواع الموجودات ؛ مِثلُه في الوجود المطلق مثل الجسم للوجود الإنساني ؛ كما أنه شامل للعالم الروحاني والخيالي والعقلي ، وقد عبَّر عنه بعض الصوفية بالجسم الكلي ، غير أن في هذا نظرًا ، وذلك لأن الجسم الكلي وإنْ كان شاملا لعالم الأرواح فإن الروحَ فوقه والنفْسَ الكلي فوقه . وليس في الوجود شيء فوق العرش إلا الرحمن، كما عبَّروا عن النفْس الكلي بأنها اللوح ، وعليه فإن من قال إن العرش هو الجسم الكلي لا يعترض على أنه فوق اللوح ، وقد عبَّر عنه بالنفس الكلي ، ومرتبة النفس أعلى من مرتبة الجسم . إن العرش (= الجسم الكلي ) فَلَكَ محيطٌ بجميع الأفلاك المعنوية والصورية ، سطحُه هو المكانة الرحمانية ، وهُوِّيَّتُه هي مُطلَق الوجود عينيا كان أو حُكميًّا، وله ظاهر وباطنٌ ، فباطنه عالمُ القُدْسِ وهو عالمُ أسماءِ الحق سبحانه وتعالى وصفاتِه ، وعالمُ القدس ومَجْلاَهُ هو المعبَّر عنه بالكَثِيبِ الذي يَخرج إليه أهل الجنة يوم سَوقِهم لمشاهدة الحق . وظاهرُه عالمُ الإنسان ، وهو مَحلُّ التشبيه والتجسيم والتصوير ، ولهذا كان سقفَ الجَنةِ . فكل تشبيه وتجسيم وتصوير من كل جسم أو روح أو لفظ أو مَعنًى أو حُكمٍ أو عين ، فإنه من ظاهر العرش ، فمتَى قيل العرشُ مُطلقا فالمراد به هو هذا الفلك المذكور أو هذه المرتبة ، ومتى قُيِّد بشيءٍ من الصفات فإن المراد به عالمُ القدس، كقوله : العرش المجيد فالمقصود به المرتبة الرحمانية التي هي منشأ المَجد ، وكقوله : العرش العظيم فالمقصود به الحقائق الذاتية والمقتضيات النفسانية التي مكانتُها العظَمةُ ، وذلك من عالم القدس الذي هو عبارة عن المعاني الإلهية المقدسة والمنزهة عن الأحكام الخَلقية والنقائص الكونية . وكما أن الجسم في الهيكل الإنساني جامعٌ لجميع ما تَضَمَّنه وجود الإنسان من الروح والعقل والقلب وأمثال ذلك، فكذلك العرش، فهو هيكلُ العالم وجسدُه الجامعُ لجميع متفرِّقاته، فالإنسان نَظِير العرش في العالم، والعرش نَظيرُ الإنسان في الوجود ، ولهذا الاعتبار قال بعض الصوفية عن العرش إنه الجسم الكلي(68). ولكونه أولَ عالمِ الوجودِ الروحي الذي يُحيط بجميع الموجودات ،فإن الحرفَ الذي يوازيه من حروف هو حرف القاف، والاسمَ الإلهي الذي توجَّه على إيجـــاده هــو<< المحيط>>.

2 ـ مرتبة الكرسي الذي يمثل بداية عالم التعدُّدِ في علام الروحانيات ، غير أنه تعدُّد في مستوى << الإِثْنَيْنِيَّةِ>> التي تَتحوَّل إلى الكثرة في المرتبة التالية .والإثنَيْنِيَّةُ التي يمثلها الكرسي مَنشَؤُها أنه موضعُ << القدمين>> أي انقسام الأمر الإلهي إلى << خَبَر وحُكم>> وانقسامُ الحُكم إلى << أمر ونهي>> ، ثم انقسامُ الأمر إلى << وجوب ونَدْبٍ وإباحةٍ>> ، في حين انقسمَ النهيُ إلى << حَظْرٍ وكراهة>> . فالكرسيُّ هو مَظهرُ الاقتدار الإلهي ومحلُّ نفوذِ الأمر والنهي ، فيه تتجلَّى جملة الصفات الفعلية ، وعليه تتدلَّى قدما الحق ، وذلك لأنه مَحلُّ الإيجاد والإعدام ، ومحلُّ بروز الأمر والنهي في الوجود ، ومحلُّ فَصْلِ القضاء ، والقلمُ محلُّ فصل التقدير ، واللوحُ محلٌّ للتدوين ، يَسَعُ كلَّ شيء ولا يَسعُه شيء} وَسِعَ كرسيُّه السموات والأرض{ (69)، وهذا الوُسْعُ وُسعان:

أ‌- وسعٌ حُكمِي يتمثل في أن السموات والأرض أثرُ صفةٍ من صفات الله الفعلية ، والكرسي هو مَظهَرُ جميع الصفات الفعلية ومَحلُّها ، فحصل الوسعُ المعنوي في كل وجه من وجوه الكرسي ، إذ كل وجه منه صفة من الصفات الفعلية .
ب‌- وسعٌ وجودي عيني يتمثل في أن الوجود بأسره محيطٌ بالسموات والأرض وغيرهما ، وهو المعبَّر عنه بالكرسي ؛ أعني الوجودَ المقيد ؛ لأنه محل نفــــــوذ
الأمر الإلهي ومحل الصفات الفعلية ، ومَظهرُ الاقتدارت الإلهية وليس المراد بجميع ذلك
إلا الوجود المقيد ، إذ هو المأمورُ المنفوذُ فيه الأمرُ (70). ويوازي الكرسيَّ من حروف اللغة حرفُ الكاف ،والاسمُ الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هو << الشكور>> .

2 ـ مرتبة فَلَكَ البروج ؛ الذي تتحول ثُنَائِيةُ المرتبة السابقة فيه إلى كثرة تمثلها البروج الإِثْنَا عَشَرَ ؛ وهذا الفَلَك بحُكم تمثيله للكثرة يُعَدُّ سَبَبًا لكل التغيرات التي تقع في عالم الكون والفساد (= عالم التبدل والتغيُّر) على المستويين : الطبيعي والروحي . وهو فوق السماء السابعة ، ويسمَّى بالفلك الكبير ؛ سطحُه هو الكرسي الأعلى ، وبينه وبين الفلك المُكوكَبِ ثلاثة أفلاك وَهْمِيَّةٍ حُكميَّةٍ ، لا وجود لها إلا في الحُكم دون العين؛ وهي:

¨ الفَلك الأعلى على فَلَك الهَيُولَى
¨ فَلَكُ الهَبَاءِ
¨ فَلَكُ العناصر
وفَلَكُ البروج هذا هو عرصةُ سِدْرَةِ المنتهَى ، وهي تحت الكرسي (71) . ويوازيه من حروف اللغة حرف الجيم، والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هـــــــــو << الغني>> .

4 ـ مرتبة كوكب المنازل ، ويوازيه من الحروف اللغوية حرفُ الشين، والاسم الإلهي الذي توجَّه على إيجاده هو << المُقدِّر>> ولا تخفَى دلالة هذا الاسم هنا ، فالأمور يتم تقديرُها تقديرًا فِعليا عبر هذا الكوكب ، ودلالةُ حرف الشين الموزاي له آتيَةٌ من خصائصه الصوتية ، فهو يُشير إلى << التَّفَشِّي>>الواضح للهواء حال النطق به ، وهي حالة توازي تَحوُّلَ<< المُضمَر>> إلى << مُعْلَنٍ>> في الأمر الإلهي من حيث صلتُه بعالم الكون والاستحالة .

وهذا جدول يُبيِّن مراتبَ الوجود الخفي والحروفَ الموازيةَ لها ، والاسمَ الإلهي الموجَّه على إيجاد كل مرتبة من مراتب المستويات الثلاثة السالفة :


الرقم الترتيبي
الحرف اللغوي
الإسم الإلهي
اسم المرتبة الوجودية
1
الهمزة(ممدودة)
البديع
العقل الأول (= القلم)
2
الهاء
الباعث
النفس الكلية (=اللوح)
3
العين
الباطن
الطبيعة الكلية
4
الحاء
الآخرِ
الهَيُولَى(= الجوهر الهبائي)
5
الغين
الظاهر
الجسم الكل
6
الخاء
الحكيم
الشكل
7
القاف
المحيط
العرش
8
الكاف
الشكور
الكرسي
9
الجيم
الغني
فلك البروج(=الفلك الأطلس)
10
الشين
المُقدِّرُ
كوكب المنازل



2.4 الوجود الجلي : مراتبه وحروفها :

ويشتمل هذا الشطرُ الظاهر من الوجود المسمَّى عالمَ الشهادة (= الكون والفساد) على ثَمَانَ عَشرة مرتبةً؛ هي :

1 ـ مرتبة السماء الأُولى ، وهي مخلوقة من حقيقة الروح، لتكون نِسبَتُها للأرض نِسبةَ الروح للجسد، جعلها الله أشدَّ بياضًا من الفضة ومن اللبن ، ووضعَ القمرَ فيها ،لأن القمر مظهر اسمه الحي ، وأدارَ فَلَكَه في سماء البروج ، فيه حياة الوجود، وعليه مَدار الموهوم والمشهود ، يتولى تدبيرَ الأرض كما تتولى الروح تدبيرَ الجسد ، ولو لم يَخلق الله سماء الدنيا من حقيقة الروح لَمَا كانت الحِكمةِ تقتضي وجودَ الحيوان من الأرض ، بل كانت مَحلَّ الجمادات (72) ، ويوازيها من الحروف حرف الياء ، والاسم الإلهي الذي توجه على إيجادها هو << الرب>>.

2 ـ مرتبة السماء الثانية ، وهي مخلوقة من الحقيقة الفكرية ، جوهرُها شفاف لطيفٌ ، ولونُها أشهبُ ، وتُعتبر للوجود بمثابة الفكر للإنسان ، ولهذا كانت مَحلاًّ لفَلك الكاتب ،وهو عطارد (73) ، يوازيها من الحروف حرف الضاد ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << العليم>>.

3 ـ مرتبة السماء الثالثة ، وهي مخلوقة من حقيقة الخيال ، وجعلها الله مَحلاًّ لعالم المِثال (74)، يوازيها من الحروف حرف اللام ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << القاهر>>.

4 ـ مرتبة السماء الرابعة ، وهي مخلوقة من النور القلبي ، لونُها أَزْهَرُ، وهي سماءُ الشمس وقطبُ الأفلاك، تُعتبَرُ الشمسُ فيها بمنزلة القلب للوجود ، به عِمارتُه ، ومنهُ إشراقُه ونَضَارتُه ،فالنجومُ تلتمس أنوارَها منها ، وبها يعلو في المراتب مَنارُها (75) . وقد جعل الله هذا الكوكب الشمسيَّ في الفَلَك القلبي ليكون مَظهرَ الأُلُوهية ، ومَجلًى لمتنوعات أوصافِه القدُسية ، فالشمسُ أصلٌ لسائر المخلوقات العُنصرية ، كما أن الاسم << الله >> أصلُُ لكل المراتب العلية . ويوازي هذه المرتبة من الحروف حرف النون ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << النور>> .

5 ـ مرتبة السماء الخامسة ، وهي مخلوقة من نور الوهم ، لونُها أحمرُ كالدَّم ، وهي سماء كوكب الزُّهَرَةِ؛ الذي هو مَظهرُ العظَمى الإلهية ؛ لأنه يقطع جميع الفلك في أربع وعشرين ساعة (67)، ويوازي هذه المرتبة من الحروف حرفُ الراء ، ويتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << المُصوِّر>>.
6 ـ مرتبة السماء السادسة ، وهي مخلوقة من نُورِ الهِمَّة ، لونُها أزرقُ، وجوهرُها روحاني شفَّاف ، وكوكبُها المشتري الذي هو مظهر القَيُّوميَّة (77)، ويوازيها من حروف اللغة حرف الطاء،وتَوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << المُحْصِي>>.

7 ـ مرتبة السماء السابعة ،وهي مخلوقة من نور العقل الأول ، جوهرُها شفافٌ أسودُ كالليل المظلم ،تكَوَّنَتْ بالسواد إشارةً إلى سوادها والبِعاَدِ ، فلهذا لا يَعرفُ العقلَ الأولَ إلا كلُّ عالمٍ أكمل ، فهي سماءُ كِيوَانَ المُحيط بجميع عالم الأكوان ، وأفضلُ
السموات وأعلى الكائنات (78) ، وهذه المرتبة يوازيها من حروف اللغة حرفُ الدال ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << المُبين>>.

وهذه السموات السَّبْعُ كلها باختلاف كواكبها ومراتبها إنما هي في الأصل مخلوقة من ماء الدُّرَّة البيضاء ، فقد صَعِدَت لطائفُه كما يصعد البُخار من البحار ، ففتَّق الله هذه اللطائفَ سبعَ سموات ، وخلق ملائكةَ كل سماءٍ من جنسها ، ثم صيَّر ذلك الماء سبعةَ أَبحُر محيطة بالعالم ، فهذا هو أصلُ الوجود جميعه (79) . والسموات هاته هي من الدنيا لتبدُّلها وتغيرها ، وليست السماءُ الدنيا هي المزينة بزينة النجوم والكواكب التي تُشاهَدُ بالبصر ، لأنها لو كانت هي السماءَ الدنيا لكانت السمواتُ التي فوقها ليست من الدنيا ، ومعلوم أنها من الدنيا ،لأن كل شيء يُبدَّل ويُغيَّر وهو في معرض التبديل والتغيير ، فهو من الدنيا ، وقد قال تعالى :} يوم تُبدَّل الأرض غير الأرض والسموات{ (80)، بل السماءُ الدنيا هي السماءُ السابعة المشترَكةُ بين السموات العُلَى ، والسموات السُّفلَى ، وهي السماء التي سَوَّى الله منها السموات ، وجَعلَها ذاتَ وجهين ، وزينَها بالمصابيح التي هي عُكُوسُ قُلوبِ الملائكة ، كما أن سماء الأرض هي المزينةُ بالنجوم التي هي عُكُوسُ قلوبِ البَشَرِ . فأَحَدُ وجهي السماء الدنيا مُزينٌ بالمصابيح التي هي عُكُوسُ قُلوبِ قُلُوبِ الملائكةِ ، والوجهُ الآخَرُ مزين بزينة الكواكب،وهي عُكُوسُ الصفات الإلهية (81) . وإذن ؛ فإن الفرق بين السماء الملحوظة والسماءِ الدنيا هو أن هذه الملحوظةَ ليست بسماء الدنيا، وليس لَونُها لونَها ، ولا وصفُها وصفَها ، فهذه التي نراها ما هي إلا البخارُ الطالعُ بحُكم الطبيعة من يبوسة الأرض ورطوبةِ الماء، صعدت به حرارة الشمس إلى الهواء ، فملأ الجوَّ الخاليَ بين الأرض وبين السماء الدنيا ، ولهذا نراها تارة زرقاء ، وتارة شَمْطَاءَ ،وتارة غَبْرَاءَ ، كل ذلك على حُكم البخار الصاعد من الأرض ، وعلى قدر سقوط الضياء بين تلك البخارات ، فهي لاتصالها بسماء الدنيا تُسَمَّى سَمَاءَ الدنيا نَفسَها ، فلا يقع النظر عليها لشدة البُعدِ واللطافةِ(82).

وإنَّ هذه السموات السبع(= الأفلاك السبعة) المتحركة هي التي تُسبِّب حركتُها التغيرَ والتحولَ في العالم المنظور .

8ـ مرتبة كرة النار (= عنصر النار) ، وهي مرتبة روحية كلية ، لادرجة تعلوها درجاتٍ ، أو تسبقُها درجاتٍ في الوجود ، وتمثل طبعًا من الطبائع التي تشكلت منها أجسام الكواكب والأفلاك من الناحية الوجودية المادية . ويوازي هذه المرتبة حرفُ التاء ، والاسم الإلهي الموجَّهُ على إيجادها هو << القابض>>.

9 ـ مرتبة كرة الهواء (= عنصر الهواء) ، وهي مرتبة روحية كُلية ، لا تعلوها درجات ، ولا تسبقها درجات في الوجود ، وتمثل طبعا من الطبائع التي تكونت منها أجسامُ الكواكب من الناحية الوجودية المادية ، ويوازيها حرف الزاي ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الحي >>.

10 ـ مرتبة كرة الماء (= عنصر الماء) ، وهي كذلك مرتبة روحية كلية ، لا تعلوها ولا تسبقها درجات في الوجود ، تُعَدُّ من الطبائع الأصلية التي تشكلت منها أجسامُ الكواكب من الناحية الوجودية المادية . ويوازيها حرف السين ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي<< المُحْيِي>>.
11ـ مرتبة كرة التراب(= عنصر التراب) ، وهي أيضًا مرتبة روحية كلية ، وعنصر من العناصر الأربعة الأصلية التي صِيغت منها أجسام الكواكب من حيث الوجود المادي ، لا درجة تعلوها أو تسبقها في الوجود. ويوازيها حرفُ الصاد ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << المميت>> .
12 ـ مرتبة المعدن ، وهي مرتبة الموجودات الأصلية التي تمثل مرتبة الحياة بإطلاق ، ويوازيها حرف الظاء ، وتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << العزيز>>.
13 ـ مرتبة النبات ، وهي من مرتبة الموجودات الأصلية كذلك؛ التي تمثل مرتبة الحياة عامة ، ويوازيها حرفُ الثاء ، وتوجه على إيجادها الاسم الإلهي << الرازق>>.
14 ـ مرتبة الحيوان ، وهي من مرتبة الموجودات الأصلية أيضا ؛ التي تمثل مرتبة الحياة مُطلقًا . ويوازيها حرف الذال ، والاسم الإلهي الموجَّه على إيجادها هو << المُذِلُّ>>.
15 ـ مرتبة المَلَك ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة من مرتبة << الحيوان>>، ولكن بصورة مباينة ومخالفة ،فإذا كانت المخلوقات كلها من ذات الله فلأَنَ ذَاتَ الحق تَجمعُ الضدين ، فهو تعالى خلق النفْسَ المُحمديَّة من ذاته ، وخلق الملائكةَ من حيث الجمالُ والنورُ والهُدَى من نفْسِ محمد ص (83) ، ولهذا كانت هذه المرتبة روحانية وجودية .ويوازيها حرف الفاء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << القوي>>.
16 ـ مرتبة الجن ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة كذلك من << الحيوان >> ولكن بوجود روحاني . ويوازيها حرفُ الباء ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << اللطيف>>.
17 ـ مرتبة الإنسان ، وهي من مرتبة الكائنات الحية المنبثقة أيضا من مرتبة << الحيوان>>، ولكن بوجود مادي وروحاني ، ويوازيها حرف الميم ، وتوجَّه على إيجادها الاسم الإلهي << الجامع>>.
18 ـ مرتبةُ المَرتبَةِ ، وهي المرتبة الأساسية التي على أساسها تَرتَّبت المراتبُ الوجودية كلها . ويوازيها حرف الواو ، وتوجَّه على إيجادها الاسمُ الإلهي << الرفيع الدرجات>>.

ويُستخلص من كل هذا أن مراتب الوجود والموجودات العينية تتوازى مع حروف اللغة ؛ التي تتشكل بدورها من تآلُفِ الحروف ؛ التي تُوازي مراتب الوجود . وعلى ذلك فالموجودات هي كلمات الله التي توازيها كلمات اللغة ، ولكن لابد من ملاحظة أن مراتب الوجود البسيطة هي ثمان وعشرون مرتبة بعدد حروف اللغة ، وكلماتُ الله التي تتألف من الحروف ؛ بالمعنى الوجودي واللغوي ؛ لا حصر لها . فالمستوى الأولُ من مستويات الوجود (= برزخ البرازخ)لا يوازيه أي حرف من الحروف الصوامت ، وإنما توازيه الحروف الصوائت (= الحركات) التي لا تتصف بالدخول في هذا العالم ولا بالخروج عنه (84) . فمن تآلف الصوامت والصوائت تتألفُ الكلمات التي تَفوق الحصر سواء في الوجود أو في اللغة ،فـ<< فالممكنات هي كلمات الله التي لا تنفد ، وبها يَظهرُ سلطانُها الذي لا يبعد ، وهي مُركبَّات لأنها أتت للإفادة ، فصدرت عن تركيب يُعبَّرُ عنه باللسان العربي بلفظه << كن>> ، فلا يتكون عنها إلا مُركَّبٌ من روح وصورة ، فتلتحمُ الصورُ بعضها ببعض لِمَا بينها من المناسبات (…..) والمادة التي ظهرت فيها كلمات الله التي هي العالم هي نَفَسُ الرحمن، ولهذا عُبِّر عنه بالكلمات>>(85).فمراتبُ الوجود إذن وُجِدَت عن نَفَسِ الرحمن، والموجودات المركَّبة وُجِدَت عن كلمة << كن>> الإلهية المرَكَّبة، والتي تتكون من جانبين:

أولهما: ظاهرٌ ، وهو تَكونُها من حرفين صامتين هُمَا الكافُ والنون.
ثانيهما : باطن، وهو تَكونُها من ثلاثة حروف هي : الكاف والواو والنون .

ومعنى هذا أنها توازي بباطنها عالمَ الغيب والملكوت ، وتوازي بظاهرها عالمَ المُلك والشهادة ؛ الذي له في الوقت نفسه ظاهر وباطن . فظاهرُ كلمة << كن>> يَعكس هذين البعدين ، بحيث تُمثل الكاف- من حيث مَخرَجُها –البعدَ الباطنَ،لأنها من حروف أقصى الحَنَك ، أي توازي باطنَ عَالمِ الشهادة ، وتمثل النونُ – من حيث مَخرجُها – البُعد الظاهرَ، لأن مخرجَها من التقاء اللسان مع أُصُولِ الثنايا العُليا ، زيادة على أنها تمثل شطرَ الوجود الجَلي (= الظاهر) ، حيث تُحيلُ النقطةُ التي فوق نصف الدائرة إلى النصف الخفي (= الباطن أو الغائب) . ويَكتسبُ حذفُ الواو عِدةَ دلالات وجودية ،فهي رابطةٌ << باطنة >> بين الكاف والنون ، وتُماثِل من هذه الوجهة التوجَّهَ الإلهيَ الباطنَ في إيجاد عينِ كل شيء ، سواء تَمَّ هذا التوجه باسم إلهي كما في إيجاد مراتب الوجود الأصلية ، أو تَمَّ التوجُّهُ بالقول (86) .إن هذا الوضعَ الباطنيَّ للواو يَتَماثَلُ مع وَجْهَيْ كلِّ موجودٍ. وجهٍ إلى عِلته وسببه المباشر ، أي وَجْهِهِ الظاهر ، ووجهٍ إلى مُوجِدِهِ الفعلي وهو الله ، أي وجهه الباطن ، وهو ما عَبَّرنَا عنه في أحد النصوص بـ<< نقطة واو >> فالواوُ إذن اسمٌ جَمَعَ فيه اللهُ الأشياءَ كلها ، ولأجل هذا جاءت موازية للمرتبة الأساسية التي ترتبت على أساسها المراتب كلها (87)

وهذا هو جدول مراتب الوجود الجَلي (= الظاهر) المرموزِ إليه بالنون ، والحروفِ الموازية لها ، والاسمِ الإلهي الموجَّه على إيجادها:






الرقم الترتيبي



الحرف اللغوي



الاسم الإلهي



اسم المرتبة الوجودية



11



الياء



الربُّ

السماء الأولى


12



الضاد



العليم

السماء الثانية


13



اللام



القاهر

السماء الثالثة


14



النون



النور

السماء الرابعة


15



الراء



المصور

السماء الخامسة


16



الطاء



المُحصي

السماء السادسة


17



الدال



المُبين

السماء السابعة


18



التاء



القابض

كرة النار (= عنصر النار)


19



الزاي



الحي

كرة الهواء(= عنصر الهواء)


20



السين



المُحْيِي

كرة الماء (= عنصر الماء)


21



الصاد



المُمِيت

كرة التراب (= عنصر التراب)


22



الظاء



العزيز

المعدن


23



الثاء



الرازق

النبات


24



الذال



المُذِلُّ

الحيوان


25



الفاء



القوي

الملائكة


26



الباء



اللطيف

الجِنُّ


27



الميم



الجامع

الإِنْسُ


28



الواو

الرفيع الدرجات
مرتبة المرتبةِ


ومجموعُ مراتب الوجود بشطريه هو المسمَّى بالحضرات الخمس ؛ وهي:
1- حضرة عالم النَّاسُوتِ ، وهي مرتبةُ وجودِ الأجسام الكثيفة بمختلِف أشكالها وأنواعها .
2- حضرة عالم الملكوت ، وهي مرتبةُ فيضِ الأنوار القدسية ، وهذه الحضرة تمتد من السماء الأولى إلى السماء السابعة ، وتُمثل عالمَ المثال وعالمَ الروحانيات والأفلاك.
3- حضرة عالم الجَبَرُوتِ، وهي مرتبةُ فيضِ الأسرار الإلهية ، وتمتد من السماء السابعة إلى الكرسيِّ ، وتُمثل عالمَ الأرواح المجرَّدة الذي هو عالمُ الملائكة .
4- حضرة عالم الَّلاهُوتِ ، وهي مرتبةُ ظهورِ أسماء الله تعالى وصفاتِه بأسرارها وأنوارها وفيوضِها وتجلياتها .
5- حضرةُ عالمِ الهَاهُوتِ ، وهي مرتبة البُطُونِ الذاتي (= العماء )؛ التي لا مَطْمَعَ لأحدٍ في نَيْلِهَا إلا التعلُّقُ بها فقط (88).

وللمراتب في التنزيل سبُع تسميات؛ وهي:

1- مرتبة الذات الساذج
2- مرتبة الأحدية
3- مرتبة الوحدة
4- مرتبة الواحدية
5- مرتبة الأرواح
6- مرتبة المِثال
7- مرتبة الحِسِّ

فمرتَبَةُ الذات الساذج هي كُنْهُ الحق ، وحضرةُ الطَمْسِ والعماءُ الذاتي ، والبطونُ الأكبر . ومرتبة الأحدية هي أقدمُ قِدَمِ أَحَدِيَّةٍ مطلقةٍ. ومرتبةُ الوحدة هي الاسم الأعظم . ومرتبةُ الواحدية هي حضرة الألوهية . ومرتبةُ الأرواح هي التعيُّنُ الأول الذي يُمثل عالمَ الأمر ، والنفوس المجرَّدةَ ، وعِلمَ الباطنِ ، وحقيقةَ الإنسان ، ومَجْمَعَ الأرواح، وعالمَ المعاني والعقول ، ومرتبةُ المِثالِ هي التعيُّنُ الرابعُ الذي يُمثل الكونَ الجامعَ مَنْشأ النُّور ، ورتبةَ الخيال المنفصِل . ومرتبةُ الحِسِّ هي عالمُ الأجسام الذي يُمثل عالمَ الشهادة، وعالمَ الخَلق ، ومرتبةَ الإنسانِ التي هي المرتبةُ الجامعةُ(98) ففي هذه المرتبة إذن يَظهر الموجود باعتباره ظاهرَ الممكنات ؛ الذي هو تجلي الحق بأحكامها المعبَّرِ عنها بظاهِرِ الوجودِ ، وبظاهرِ الحق في اسمه تعالى : } هو الأول والآخر والظاهر والباطن{ (90) ، وبتجلياته المُظهِرَة لأحكامِ معلوماته ؛ التي هي حقائقُ مُكوِّناتِه . فكلُّ ما يصح ظهورُه لغير الحق فإنما هو من قبيل هذا القسم ، لاستحالةِ إدراكنا لذاته ، ولحقائق معلوماته (91).

FARAHAT
06-04-2012, 20:04
بسم الله الرحمن الرحيم
بارك الله فيكي ان شاء الله في ميزان حسناتك

محمد ابو الياس
27-12-2012, 18:35
بارك الله فيك وعليك أميرتنا أميرة الأسرار ورحمك الله ورحم والديك