المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : اسماء الله الحسنى اوشو



شيخ الأسرار الباطنية
08-05-2021, 10:28
أسماء الله الحُسنى ليست بالأسماء، كما كلمات الحق ليست بأيّة كلمات. أسماء الله تروي لسالِك الدرب عن حالِه الأسمى، حكايات. وأكثر من حكايات. هي الزّاد والزُوّاد على درب رحلة الغريب عن كل الناس إلا الله… إلا نفْسه والحق
كلٌّ إسمٍ من أسامي الله مفتاحٌ يفتحُ داخلك أبواباً توجد خلفها كنوزاً مَهيبة
إن فهِمتَ هذه الأسماء وتحلَّلَت في قلبك وسرَت في عروقك، فهي قادرة على تحويل حياتك
تسعة وتسعون إسماً هي… وقد تسأل، لماذا ليست مئة؟ أين الإسم المئة؟
وللسؤال جوابٌ فيه سرّ الأسرار. جوابٌ للنخبة والصفوة من الأخيار. الإسم المئة لا يعرفه أيّاً مَن كان. يحوي جميع الأسماء وجميع الألقاب وجميع الصفات وجميع الموجودات، وفي الوقت نفسه يتجاوزها ولا يحويها لأنه مصدرها وحاويها
صعبٌ عليك الإدراك… لهذا أبقِيَ على هذا الإسم صامتاً مخفياً لا يُنطَق به
هو إسم الله الحقيقي الذي لا يمكن النُّطق به
الإسم الذي يُنطَق لن يكون الإسم الحقيقي والله الذي بإمكانك الحديث عنه ليس بالله الحقيقي لأن الكلمات تُفَلسِف المعاني والحقائق الإلهية المُجَرَّدات السَّامِيَات. الكلمات مفاتيح أوَّلِيّات
الإسم المئة هو الإسم الحقيقي. لا يُمكن النُّطق والإسرار به. سيفقِد جماله إن نُطِقَ به. لذا يبقى مُخَبّئاً في لبّ ألباب قلوب العارفين
والأسامي التسعة والتسعين نُطِقَ بها لأجل أن تساعدك فتكون جِسْراً تعبُر عليه حتى تقفز في روضة الإسم المئة
الإسم المائة يساوي الفناء. هو النيرفانا… هو اللاشيء حينما تتنَحّى الأشياء ولا تبقى سوى حَضرة تثمَل لحضورها الأرواح الحاضِرة الشاهِدة فتتَّحِد وتتوحَّد بالحَضرة المَهيبة البديعة وتفنى بفنائها العَذب
هو الخبير. والخبيرُ هو مَن يرى كلَّ شيءٍ ويُحيط به. هو الشاهِد المُختَبِىء في لبّ ألباب وباطِن كلّ مخلوقٍ حَيّ. ليس ما نراه بحقيقي دائماً، لكنّ الشّاهِد الخبير الذي يرى كل شيء هو الحقيقي دائماً وأبداً. أحياناً تعكسُ مرآة مَن بداخلنا مَشهَداً فنراه، أحياناً أخرى لا تعكسُ أيّ مشهد فلا نرى شيئاً. قد يكون ما نراه حقيقةً، وقد يكون ما نراهُ وَهماً. في الليل يزورك حلمُك وفي الصباح تستيقظ لتعي بأن الحلم لم يكن حقيقة. الحلم لم يكن حقيقي، ورغم هذا فإن مَن رأى الحلم لا يزال حقيقي وله وجود. إنَّ مَن يرى هو الحقيقي على مدار الليل والنهار. هو حقيقي في كلِّ وقتٍ وآنْ. في ظلام الليل أنت ترى حَبلاً فتَخدَعُك عَيناك وتظُنَّه أفعى. لكنّك عندما تقترب منه شيئاً فشيئاً ترى زَيف ما ظَنَنْتْ وما رأَيْت، إلا أنّ الذي رأى ليس مزيفاً ولن يكون مزيفاً أبداً. حتى حينما تتجسد لك هلوَساتِك وتراها أمامك، فإنَّ مَن يرى يبقى حقيقي ولا يَختَلط بالزَّيف أبداً.
هذا هو الخبير. هو الذي يَرى. هو الشاهِد يُشاهِد مِن لبّ ألباب، مِن داخل أعماق كلّ مخلوق ويَرى. أقرب من حبل الوريد. إقفِز عميقاً واسبَح في أنهار الخبير… إستَمِدّ الروح والمعنى من كلمة الخبير وعَوِّد نفْسك على أن تكون هويتك ذاك الذي يَرى. كُن مَن يُشاهِد ويَرى. أطلِق سراح ذاتك ولا تُحَدِّد هويتك بما ترى، بل إصعَد إلى منازِل الذي يَرى. لستَ ما تَرى، أنت مَن يَرى. تذَكَّر وأنتَ إلى إحدى الأشجار تنظُر… تذَكَّر ذاك الذي يشاهِد الشجرة ويَرى. وأنت تأكُل، تذَكَّر ذاك الذي يأكُل. وأنت تمشي، تذَكَّر ذاك الذي يمشي. صُبَّ ماء الأواني على مَن يحيا داخلك ألوهية المعاني لا على مَن وما يَحيا خارجك ومِن الإزدواجية يُعاني. رويداً رويداً ستقترب مِن ذاك الذي يَرى، ستتجلّى لك حقيقة الذي يَرى. هي حقيقتنا وحقيقة الله فينا أجمعين.

هو اللطيف. واللطيفُ هو الشفاف الأشف من النسيم. الكثيف يُرى لكنّ الشفاف لا يُرى. الكثيفُ خارجنا لكنّ الشفاف داخِلُنا. الكثيفُ أداة نفكِّر بها ونعرِفُها لكنّ الشفاف أصلنا وجوهرنا. وها هي البشرُ عن الله تبحثُ، لكنهم بين الكثيف خارجهم يبحثون. بعضهم يقول أريد أن أرى الله. لكنّك لا ترى سوى الكثيف خارجك، أمّا الشفاف فتشعُرُه، تحدُسُه وتستشعِرُه دون أن تراه. يذكُرُه صفاء نفْسك وخشوعها ويتذكَّره. الكثيف تراه عيناك حين تفتَحهُما، والشفافُ تراه عيناك حين تُغلِقهُما. ليس الشفّاف بأداة أوشيء أو أحد سوف تُلاقيه وتلتقيه. الله جوهرك يحيا داخلك. الله حقيقتك. لستَ بقادرٍ على الوقوف خارج الله في مكانٍ ما حتى تنظُر إليه وتراه. أنت قادرٌ على رؤيته مِن داخلك حينما تكونه وتحياه.
هُما دربا معرفة السِرّ الأبدي….
أحدهما هو العلم الخارجي يُعنَى بالكثيف خارج كلّ واحدٍ مِنّا. ثانيهما هو الدين، العلم الداخلي، يُعنى بالشفاف داخل كلّ واحدٍ مِنّا. حينما ترى زهرة، بإمكانك النَّظَر لها بطريقة علمية خارجية. أنت ترى شكلها والمواد المُكَوَّنة منها. أنت تُشَرِّحها لترى جميع ما يُكَوِّنها. وبين أحضان تشريحك لها، شيء مُهِم سوف يَنقُصُها. جمالها سوف يتركها لأن الجمال، جمالها ليس إحدى مكوِّنات الكثيف داخلها. وإنْ سألتَ العالِم إلى أين رحلَ جمال الوردة وغادرَها؟ سيُجيبك بأنَّ جمالها كان وَهمها. قد شرَّحَها وقَسَّمَها ولم يجد بداخلها سوى هذه المُكَوِّنات التي وجدها. هذه التركيبة الكيميائية، تلك المَواد، هذه الذرَات وتلك الجُزَيئات وَجَدها. لكنه لم يجد جمالها. هذا كل شيء بالنسبة له. هذا ما وجَده. لكنك تعلَم والعالِم مثلك يعلَم حين تأخُذُه لحظاته الرومانسية الشاعرية من عقله وتَسْلُبُه لُبُّه، بأنّ الجمال كان موجوداً هناك بداخلها. فحينما أهدى زوجته وردةً، لم يُهديها تركيبةً كيميائية. كان يُهديها قيمة حِسِيّة شاعرية جَمالية. لكنه حينما يعود لعقله العلمي المنطقي، فسوف يُنكِر جمالها.
وإنّ درب معرفة الجمال لا يكون بالنَّظَر خارِجاً وبعيداً في كلّ مكان، بل باكتشاف وجوده داخل الألباب، في عُمق كلّ ذات. سوف يذهَب الشاعِر الحقيقي وأمام الوردة يجلس. يُغمِض عينيه حتى يمِدّ جسور الوَصل بينه وبينها. حتى يراها داخله تحاكيه وتناجيه. سيغدو الزهرة نفسها. فيها شيء منه وفيه شيء منها. هكذا تولَد المعرفة الحكيمة. هكذا يولَد الحُبّ أيضاً. قد تلتقي إنساناً وتُحصي معلومات طوله ووَزنه وبلده وإسمه، وكل شيء عنه خارجه، لكنك تفتَقِد شيئاً. فقط حينما تقع في حبّ هذا الإنسان سوف تتعرَّف على ذاك الشيء وتعرِفه.
سوف تتعرف على روح ذلك الإنسان وتلتَقيها. سوف تُقابِل جمالَه وجهاً لوجه. في الحب عليك أن تُمسي وتُصبِح واحداً أنت والإنسان الذي تُحِبُّه.
هو اللطيف أي هو الشفاف. الله هو الشفاف. لا تبحث عنه بأساليبٍ وطُرُقٍ مادية. إبحث عنه بأساليب غير مباشرة، حِسِيّة فنية جمالية شاعرية رومانسية. تعَلَّم فنّ الثقة، كيف تثِق وتذوب وتُصبحُ واحِداً مع الجمال. وفي يومٍ من الأيام، يولَد السِّحر الأبعَد من الخيال. في يومٍ من الأيام يزور الله محرابك. لن يزورك كشخصٍ يقفُ خارجك، سيزورك كأنت، كحَضرة تحياها أنت داخلك في لبّ ألباب كيانك. وسط محرابك. لن يزورك كشيءٍ يمُرّ خارجك، بل كحَضرة تُهَروِل إليك من مَركَزَك في وسط جسدك.

هو الجليل وذو الجلال والإكرام. لأنه صاحب الجلالة والحَضرة البديعة. فجميع ما هو جميل وجليل وراقي يأسِر الألباب بسِحره الخلاب في هذا الوجود، هو جزءٌ من الله. أينما رأيتَ الجمال فاعلَم أنه مُقَدَّس. إنحني للجمال واخشَع أينما رأيتُه، فهو لله تجسيد. وقد يتجسَّد في وردة، في وجه إنسان، في نَجمة أو في أيّ مكان. لكنك متى ما شعَرْتَ بدهشة السِّحر الخلاب الذي يأسِرُ الألباب، بحَضرة صاحب السُمُوّ البديع والذوق الرفيع، إنحني في رحابِه واخشَع. هذا تأمُّل جميل. كُلَّما فقَهْتَ أسرار الجمال، كُلَّما أصبحتَ من الله أقرب ورأيتَ خفايا الوجود تتكَشَّف لك في كل مكانٍ انطَوَت فيه واستوَت. والخفايا والسِّحر والجمال موجودة في كلّ مكان. في الحجر تراها موجودة فيه. في أقسى صخرة تراها موجودةً هناك. ما على العَيْن سوى أن تعي معاني الجمال.
كلّما بحَثْتَ عنها كلّما التقَيتها على دربك باستمرار. والقبيحُ سيختفي من أمامك شيئاً فشيئاً فلا شيء في الوجود بإمكانه أن يكون قبيح. كلٌّ شيءٍ هو الله فكيف يكون للقُبح في الوجود مكان؟ للقُبح في الوجود مكان لأننا لم نفهم الحال. القبح سوء فهم، سوء تحليل وتَعقيب… القبح مِن حولنا بحاجة لتعَاطُفٍ وفَهمٍ مِنا حتى يفتح قلبه لنا.
إبحث عن الخفايا والسِّحر والجمال في البرق والرَّعد والمطر والأصوات، في الصمت. لا تنشَغِل سوى بالبحث عن الجليل السامي الرفيع الذي يحضُر الجمال في حَضرَته وسوف ترى بأن لا حاجة لك للذهاب إلى أيّ معبَد أو مسجد أو كنيسة فالوجود بأكمَله معبَد الله الواسع الفسيح. هو معبَده حقاً.
والجلال هو الجمال والإكتمال، فكلٌّ جميلٌ هو من الله، وكلٌّ قبيحٌ مِن صُنع الإنسان. أينما رأيتَ الجمال إنحني في محرابه وتَعَبَّد. الجمال إلهي مقدس. قدِّس الجمال في كل مكان، في الشمس عند المغيب، في وجه إنسان، في طيرٍ على الغُصن، في الرياح هادِرة ترقُص على هديرها الأشجار وفي الأنهار تشُقّ طريقها نحو البحار. أينما رأيته قدِّسه، إنحني له واسجُد وادخُل في وصلٍ وصلاةٍ نابعة من لبّ قلبك، فأينما حَلَّ الجمال وُجِدَ الله.
وعيك لإحساسك بالجمال هو وعيك لجمالٍ مهول يُحيط بك في أصغر الأشياء حولك وأنت لم تكُن تدري. الحصى على شاطىء البحر، أو صمت الصحراء، أو حشرات الليل أو ظلام الليل نفسه. وعيك له هو جِسرك لتعي أن كل موجود عائدٌ لِجَلاله، لجمالِه.
ولستُ أقول لك بأن تنظُر خارجك فقط، بل انظُر داخلك أيضاً. وأنت تقف أمام مرآة، لا تظُنّ نفسك ذلك الذي يقف، هذا هو الله أيضاً تعكسه المرآة. أنظُر في عينيْك تعكسهما المرآة، قدِّس الناظِر المُطِلّ منهما وانحني له. عندها تتفَتَّح براعم علاقة حبّ جديدة بينك وبين الوجود. علاقة سوف تقودك رويداً رويداً إلى الأبدي السرمدي.

هو الرَّحيم… والرحمة هي المَوَدّة والرِقة والحنان. إعزِف على أوتار شعورك بالرحمة. تناغم معه وانسَجِم، واطرَب لِلَحنه وانعَم به. هذا مفتاح يفتح بابك على الله. إسبَح في نهر الرحمة بدون أيَّةِ أسباب. الرحمة لا توجَد لها أسباب، وليس بإمكانها أن تجِد لنفسها أيّة أسباب. الرحمة نِعمَة وفَرحَة نفسها. رحمَتك والأسباب تُلاحقها، ليست برحمة على الإطلاق. الرحمة عفوية تنساب بحُرية، لا شروط لها ولا تبريرات ولا دوافع. هكذا تكون الرحمة مصدراً لفَرحة عارِمة كونية.

هو الحسيب… والحسيبُ يحتَسِبُ لك أي يَعِدُك بأن يُشبِعُك ويرضيك. نعم هو شبَعَك ورِضاك فبدون الله كيف لك أن تَقنَع؟ الإنسان يبحث ويبحث ويبحث على دروب هذه الحياة لكن جميع ما يجِدَه يُثبِتُ بعد فترة عَجزَه وعدَمِيّته وأنه لن يُشبِع للأبد صاحبه فيعود ليبحث عن شيءٍ غيره. وما الإشباع والرِّضى الذي يشعر به الإنسان حينما يُحقق هدفه وينال المُراد سوى لحظات أوهام في عُمر الأيام تمُرُّ كالسَّراب فلا يكاد يلمَحها أو يشعُر بها إلا ويجدها قد فارقَته كأنها ما كانت هنا. كقطرة ندى سقَطَت على ورقة شجر خضراء… لا تكاد تلمحها حتى تجدها انزلَقَت عنها واختَفَت إلى الأبد. هذه هي حياتك، رغبة واحِدة تُشبِعُها، تُشعِرُك بالرِّضى لحظتها… تنقَضي اللحظات وتشتعل نار رغبة جديدة فتعود لتبحث عن رحلة تسلُك دربها من بين الرحلات. رغبة واحدة تنقَضي لتولَد مكانها عشرات الرغبات… ولا نهاية لهذا حتى تجد العمر انقضى ومَرّ وفات.
فقط حين تَثمَل بالله تنتهي الرغبات. تتوقَّف العَجَلة عن الدوران. حينما يشعُر الإنسان بالله، يحيا حَضرته، يراه فيه وفي كل مكان، تختفي الرغبات جميعها. يبلغُ الإنسان منتهى الرضى والإشباع. رضىً للأبد يدوم. إنه الإكتفاء الأبدي المُطلَق فلا يبقى للإنسان سوى الله حَسبُه لأنه لم يرى ولم يجد أحداً حقيقي غيره.
الإنسان ليس بحاجة أنْ يؤمن بالله، إذ جُلَّ ما يحتاجه هو البحث عن الرضى والإكتفاء والتسليم الأبدي الذي يملأ كيانه وبه للأبد يرتوي. مجرد وصولك لهذا الحال سوف تعلَم مَن هو الله. الله إسمٌ آخر للإكتفاء والرضى والتسليم الأبدي. لحظة التسليم هذه لا تنتهي. لحظة التسليم هذه هي للعقل صمتٌ أبديّ فلا يرغب ولا يتمنى بعدها، لا يفكر من تلقاء نفسه بعدها لأن التفكير جزءٌ من الرغبة نفسها. لا يحلم بعدها لأن الحلم جزءٌ من الرغبات نفسها. لا توَقُّعات ولا خيبات أمل بعدها. يغدو الإنسان حينها في لحظته يحيا حاضِرها دون حركة لماضي أو مستقبل تأخذه بعيداً عنها. كلّ شيء توقّف، العالَم أجمع يتوقف وقتها.
توَقُّف العقل والعالَم هذا، هو وعيك لأن الله هو الحسيب. هو حسبُك بيده وحده إشباعك ورضاك وإليه مآبَك وتسليم حالك. الحسيب واحدٌ من أجمل أسماء الله.
أيّ شيءٍ عدَا الله على درب هذه الحياة هو مجرد وعود. وجميع الوعود زائفة. جميع الوعود مُبَهرَجة تُمنّيك بما ليس بمقدورها أن تقدّمه لك، فلا ترويك ولا تُغنيك ولا ترضيك. المال يَعِدُك ويُمَنّيك بأنك وإن حَصُلتَ عليه لسوف ينتَشِلُك من وسط جميع مشاكلك. وها هي الناس تغدو أكثر ثراءً دون أن تعرف للسعادة عنوان. رغباتك تُشبه الأفق البعيد. وَهمُك يُحيي الأفق البعيد. هكذا العلاقات تُمَنّي أصحابها بأن الحياة أصبحَت وردية، لا شقاء ولا تعب بعد اليوم، ولسوف يعيش طرفاها في سعادة وهناء إلى الأبد. ولا يحدث هذا… هذا لا ولن يحدث سوى مع الله وفي الله.

هو الهادي لأنه المُرشِد والدليل. الإرشاد يأتي من الله… دليلك لتختار دربك وسبيلك من الله يأتيك. وهو دائماً يأتي ويهطُل عليك كالأمطار. لكنك لا تسمع. عليك أن تتعلَّم فنّ الإصغاء. إرشاده لك هو صوتٌ خافِت رقيق يبزُغ من وسط قلبك. إستفتي قلبك. والعقلُ يملؤه ضجيج الأفكار، سوف يصعُب عليك الإصغاء. والعقلُ صامتٌ يبزُغ الصوت الهامِس الرقيق في قلبك. صوتٌ تشعُر معه بوضوحٍ شديد، برأيٍ سديد لا تَرَدُّد ولا شكٌّ يُخالِجُكَ معه وفيه. صوتٌ أنت معه مُجَرَّدٌ من الخَيارات. صوتٌ لا يُخَيِّرُك لأنه قد اختار لك. صوتٌ أنت تستسلم وتُسَلِّم لقراره واختياره. لكن الناس لا تسمع هذا الصوت. العقل بركان فيه غليان، وزحمَة سيْر الأفكار تُسدِل الغشاوة على الأبصار.
هاديكَ ومُرشِدُكَ إلى الطريق ليس أحدٌ خارجك. هاديكَ ومُرشدك يحيا داخلك. أحفُر داخل مستويات كيانك قليلاً وسوف تجد الله. سوف تجد المُرشِد الحقيقي. حينما تلتقي مُرشِدك وهاديك الذي يسكُن فيك ستوَدِّع أخطائك إلى الأبد وتهجُر ندمَك على ما ارتكبتُه في الماضي دون عودة، وسوف لن يعرف الذنب لك بعد الآن عنوان. الصالح والطّالح كلاهما لا مكان لهما في حياتك وتصرفاتك بعد الآن. أيّاً ما تفعل بعد الآن هو صالِح. والصالح هنا لا تُعَرِّف الأخلاق مدى صلاحه. لا علاقة بينهما. كيانك صالح لذا فجميع النسائم التي تهُبّ منه هي صالحة أيضاً. ستمشي في نور وتحيا في نور لأن الرأس فقَدَ تأثيره عليك وبات جزءً من ماضيك. والحياة تتحوَّل فرحة وضِحكة ومحبة حينما يمشي الإنسان ويحيا في نور.
لحين تهتدي لمُرشِدك وهاديك الذي فيك، أنت بحاجة سيِّد مستنير. متى ما وَجَدْتَ هاديك داخلك فأنت سيِّدٌ على نفسك. السيِّد خارجك ليس سوى الصوت الذي في قلبك يسعى كي يُسمِعُك ما يريد صوت قلبك أن يقوله لك. ولأنك لست بمُصغٍ لصوت قلبك، يأتيك المستنير ليُسمِعُك إياه من خارجك. قد اعتدْتَ سماع الأصوات خارجك بدقة أكثر من سماعك للأصوات الهادئة داخلك.
المستنير خارجك ليس سوى رمز للمستنير الحاضِر داخلك. ليس المُرشِد الداخلي والمستنير خارجك بحالتين مختلفتين. كلاهما يحكي ذات اللغة. إستسلامك للمستنير هو استسلامك لمُرشدك داخلك. المستنير خارجك هو صدى للصوت الذي بداخلك. هو المرآة التي تعكسك. هو مَن يقول بصوتٍ عالٍ ما يُخبركَ به قلبك بصمت.

هو المجيد. صاحب المجد والعِزّة. إنها الخطوة التالية على دروب الحكمة، فالحكمة البشرية لا جدوى منها ولا فائدة لها ما لم تكشف لك المَجد الإلهي. بدون هذا التجلّي تغدو الحكمة البشرية مؤذية. تقودك للأنا والأنانية. على الحكمة البشرية أن تستسلم وتُسَلِّم نفسها عند أقدام الله. إنّ الحكمة والمجد هي جميعها له. على الإنسان أن يكون مغفّلاً أحمقاً في عيون الله. وأنت من هذه اللحظة، ليكُن ظنَّك بنفسك بأنك أحمق وأنّ الله هو الحكيم. هذا ما سيمنحك الحكمة الحقيقية.
حماقتك وبلاهَتك أمام الله تحوي حكمتك.

هو الحليم… هو الذي يحتَمِل كل شيء فيسامِح ويغفِر. حتى لو كان طريقك ضدّه يُعارِضُه ولا يؤيِّده، فإنه لن يُعارضك ولن يكون ضدّك. حتى لو أنكَرته، فهو لن يُنكرك. حتى وإن ضَلَلْتَ الطريق، هو يعلم أنك عائدٌ إليه من جديد. ثقتُه فيك مُطلقة ليس لها حدود. متى ما فهِم الإنسان معنى الحرية التي وهَبها الله لنا أجمعين… حرية تامة تؤهِّلُك لإنكاره حتى، لتختار درب المسير ضدّه، عندها ستعي أن الله هو الحرية.
فكرة الله الديكتاتور هي مجرد فكرة زائفة. وفكرة الله الذي يُريد من الجميع طاعته وإرضائه هي مجرد هُراء. إن الطاعة المفروضة عليك من خارجك ليست بطاعةٍ حقيقيةٍ على الإطلاق. إنها عبودية. نعم، عشقك لله سيكون الرّحم الذي ستولد منه طاعتك له، لكنها طاعة إختيارية. إنها قرارك فأنت مَن اختارها. بإمكانك أن تَعصي، بإمكانك أن تُطيع. وبالنسبة لله، فالأمر سَيّان، لا فرق. كِلا آدم ويسوع المسيح عند الله واحد لا فرق. قيمة المسيح عند الله ليست أعلى من قيمة آدم الذي عصاه.
مجرّد استشعارك لهذه الحرية، يصبح الله لك الحالة الديمقراطية الأعظم في الوجود. هذا هو معنى الحليم. الله يُحِب وحُبُّه فيضان وطوفان لدرجة أنه يُحِبّ كُرهك له. حُبُّه لك ليس له شروط، حُبُّه لك لا يتعلّق بأفعالك وتصرُّفاتك وحالك وأحوالك. حُبُّه لا ينتظر ولا يعتمد على أفعالك.

هو العَلِيّ العظيم الكبير، وكلُّ موجودٌ عظيم فلا مكان للصغير. لا مكان للصغير لأن الكلّ هو الله والموجودات أجمعين بحَبل الأبدية الإلهية موصولين مُتَّصِلين مُوَحَّدين. أصغر ذرة في الوجود هي جزء من الكلّ العظيم. لن توجَد الذرة الأصغر بدون وجود الكلّ الأكبر والعكس صحيح، فالكلُّ الأكبر لن يوجَد بدون الذَرّة الأصغر. الكلُّ لن يكون كُلّاً مُكتَمِلاً بدون الجزء الأصغر. سوف يفتقدُ وجوده… ستولَد هوة يصعُب رَدْم فراغها. لذا فعُشبة الأرض الأصغر هي عظيمة قَدْر عظَمة أيّ شمسٍ من الشموس.
حينما تبدأ بالبحث عن العظيم فسوف تجده في كل مكان. لن تجد مكاناً يخلو من وجود عظَمَة العظيم. وإنها واحدة من رؤى الفيزياء الحديثة الأعظم. في خِضَّمّ بحْثِهم عن الأصغر، إذا بهم يتوصَّلون لمصدر الطاقة الأعظم. بحثهم في الذرّة قادَهم لاكتشاف الطاقة الذرية. الصغير يبدو صغيراً في شكله فقط. المظهر هو الصغير لكنه يحوي بداخله العظيم.
ولن يكون بمقدورك إيجاد العظيم مباشرةً. أينما بَحَثتَ فإنك واجِد الصغير، فالصغير طريقة العظيم حتى يُعَبِّر عن نفسه ويحكي. أنت لا ترى المحيط، بل ترى هذه الموجة وتلك. وحدها الأمواج تُرى لكنك لا ترى المحيط. أنت مُحاطٌ بالأصغر دوماً، الرجل والمرأة والشجرة والجبل وحبّات الرمال ونقطة الماء، لكنها جميعها أشكال. غُص داخل الأشكال عميقاً ولسوف تتحول الأشكال أبواباً. أبوابٌ تأخُذك للأبدي.
والأبدي هو العظيم. أنظُر داخلك وخارجك بعُمق، ولسوف تجِدُه.

وهو الحفيظ الذي يحفَظَك بينما تبقى أنت قلقاً خائفاً مُضطَرباً دون جدوى. قلقك وخوفك واضطرابك، جميعها لا فائدة منها لأن ما سوف يحدُث لابدّ أن يحدث. لأنّ ما قُدِّرَ له أن يحدُث هو الأمر الذي سوف يحدُث. لا سبيل للتغاضي عنه، لا سبيل لتحاشيه ولا سبيل للقاء قدَر غير القدر الذي سوف يحدث. رؤيتك لهذا الحال من شأنها أن تُبقيك تحيا في حالٍ من الإستسلام والتسليم التام. لحظة تجَلّي هذه الحقيقة لك، أن الله وحده مَن يحفَظك، تمحي بعدها أي قلق ينتابك بشأن أمنِك وأمانك وضماناتك ووسائل حمايتك. عندها أيّاً ما حصل وأيّاً ما شاء له الحدوث فهو خيرٌ لك، لابدّ وأنه خيرٌ لك لأنه يأتيك من الله. سوف يتسائل العقل أحياناً ويسأل، كيف يكون الأمر خيراً وأنت تعاني كل هذه المعاناة وتحيا كل هذا الألم والقلق والإضطراب؟ كيف لهذا الأمر أن يكون جميلاً وخيراً؟ لكن في بعض الأحيان يحتاج الإنسان المعاناة. تكون المعاناة خيراً في بعض الأحيان لأن الناس تنمو وتنضُج من خلال المعاناة. وأحياناً يكون الألم نِعمة لأنه يزورك ومعه تحدٍّ… تحَدّي لا يُحضِره معه لزيارتك سوى الألم. القلق والحيرة أحياناً تُحَفِّز المُصَلّي الذي فيك حتى يُصَلّي.
لذا فالبركات ليست جميعها بركات واللعنات ليست جميعها لعنات. وكلُّ ما يحدث هو الخير في عيون مَن يثق بأن الله حافِظُه من كلِّ شيءٍ يَحْفَظه. إن كان ما يحدث له لعنة، بصدرٍ رحِبٍ وبامتنانٍ شديد يقبَلها. وإن كان نِعمة فهو بنفس الإمتنان والتقدير قابِلٌ لها. هو لا يملُك الخيار والقرار فلا يقول، يجب أن يحدث هذا وأن لا يحدث هذا. هو يُسَلِّم للحافِظ نفسه. إستسلامه هذا لتَلَقّي أقداره هو بمثابة تَحَوُّلٍ روحي عظيم يحدث له. الإستسلام هو الثقة. الإستسلام بداية المسير على الدرب الحق.
لذا لتنسى قلقك على نفسك من هذه اللحظة. إرمي حمولتك التي أتعَبَت كتفيْك. الله يهتم بك في هذه اللحظة ويرعاك، وما من سبيلٍ حتى تحيا في عالمٍ أفضل من العالَم الذي أوجدَك فيه.
هذا ما أدعوه بالوعي المُتديِّن. هذا وعيٌ لا علاقة له بالإسلام أو بالمسيحية أو بالهندوسية. إنه وعيٌ متديِّن صافٍ نقي عَذبٌ كمياه الأنهار تحتويه ثقتك التي ليس لها حدود بالله منبَع الخير في هذا الوجود. تحتويه ثقتك العظيمة بالوجود الذي يرعى الجميع مثل أمٍّ تحتضِن أطفالها، فالجميع جزءٌ منه ينتمون له… هذا الوجود وأنت مِنه، كيف له أن يُعاديك؟ هذا الحال وهذه الثقة تجعل حياتك سلسَبيلاً عَذباً. ليس حياتك فقط، بل ومماتك أيضاً.

هو البصير، والبصير هو مَن يرى كلَّ شيء. لا سبيلَ لك حتى تختبىء من الله لكن الإنسان حاول ويحاول الإختباء من الله. محاولاته مصيرها الفشل وخيبة الأمل. محاولاته تضييع لحياته وأوقاته، تقوده لغُرْبَته في اغترابه عن إلهِه حيث موطِنَه الأصلي.
إبدء بانتباهك للألوهية تُحيط بك من كل مكان، بالله الموجود حولك وفي كل مكان، بأنك لست وحدك أبداً، وليس بإمكانك أن تكون وحيداً أبداً، بأنه حولك يرى علانيتك، بأنه ينظُر من داخلك فيرى سريرَتَك. ليس بإمكانك الفرار منه فما مِن مكانٍ تلجأ إليه سوى هو. أينما وحيثما تكون، هو هنا وهناك معك. أنت تحيا فيه، أنت تجسيدٌ له. هو لا يراك من مكانٍ ما خارجك، لأن الإختباء سيكون حلّاً بديلاً لو أنه كان ينظر إليك من خارجك… لكنه يراك من خلالك، من داخلك، من لبّ ألبابك، يراكَ عِبر وعيك نفسه، هذا الوعي جزءٌ منه لذا فاستحالة عليك أن تتوارى عنه.
إستسلم وكُن قلباً مفتوحاً مُرَحِّباً بالله. كُن عارياً أمامه من جميع أقنعتك وإضافاتك ولمَساتك وتزيينك وتنميقَك لكلماتك. هذا معنى الصدق. الإنسان الصادق هو الإنسان المُتَديِّن. هذا الإسم وسيلة حتى تحُثُّكَ على الصِّدق.

وهو الشهيد… شاهِدٌ يشهَد على كلِّ شيء. هو الشّاهِد العظيم.
لاشيء يَخفَى عن الله لأن الله يسكُن لبّ ألباب جميع الأشياء والموجودات والكائنات والمخلوقات. والساكِن في سكينة كلّ كائن يعلَم كلّ شيء. بإمكانك أن تُخفي شيئاً عن الآخرين وليس عن نفسك، ونفسك هي المعبد الذي يسكنُه الله. الله ليس في المكان بل في مَن يُدرك وجود المكان نفسه.
تقول واحدة من الحكايات الصوفية بأن تلميذين أرادا البحث عن الحقيقة الإلهية فلجآ إلى سيِّدٍ مستنير. أعطى المستنير كلٌّ منهما يمامة وأخبرهما بأنْ ليذهب كلاكما ويقتل اليمامة التي معه في مكانٍ لا يراه فيه أحد.
خرج الأول خارج المنزل حيث لا يوجد أحد فقد كان وقت الظهيرة والجوُّ حار. قتل اليمامة ثم عاد. أمّا الثاني فلم يظهر وطال غيابه ثلاث سنوات. انتظره المستنير وانتظر مدة ثلاث سنوات حتى عاد واليمامة في يده قائلاً: “لم يكُن بمقدوري أن أجد مكاناً لم يكن يراقبني ويشاهِدني فيه. لجأتُ لجميع الأماكِن حيث لا بشر ولا عين ترى. ذهبْتُ لكهوفٍ ظلامها حالِك لدرجة أنّ وجود أحدهم معي في ذات الكهف لم يكُن ليساعده على رؤية ما أقوم به من شدة الظلام. لكنه كان يشاهدني من داخلي في كلّ مكان قَصَدْته. أغمَضْتُ عينيّ فوجدْتُه ينظر إليّ من خلف الأبواب المُغلقة، من خلف العيون المُغلَقة. أنا آسف ليس بإمكاني تأدية المُهمة”.
فرِحَ المستنير وقال للتلميذ: “أنت على الدرب تسير عكس صديقك الذي يجهل ألف باء المَسير. قد وَجَدْتَ سِرّ التأمل ولبّ قلبه. أنْ تحيا حياتك واعٍ لهذا الشاهِد وسوف تعي مَن هو الله حقاً.”

هو الظَّاهِر، الذي تَجَسَّد للعيون. الشّهيد مَخفي عن العيون ناظِراً من الداخل، من خلف العيون. الظاهِر هو مَن تجَسَّد فبات مرئياً في كل مكان. في الأشجار والأنهار والجبال والبشر والحيوانات. الله ظاهِر وباطِن، مَرئي ولامرئي. هو ليس فقط داخلك بل وخارجك أيضاً لأن كل شيء هو الله.
تذَكَّر الله حينما تنظُر إلى الأشجار. إنسى الشجرة وتذكّر الله. وأنت تنظر إلى زهرة، إنسى الزهرة وانظُر لله فيها. وأنت تتحدث مع صديق، إنسى الصديق وابدأ بحديثٍ وكأنك تتحدث مع الله. إنه الفن العظيم. مجرد أن تتعلّم هذا الفن فأنت تحمل عصاكَ السحرية معك: أصبح بإمكانك تحويل كل شيء إلى الله. حينها ستُصبح مُحاطاً بالألوهية في كل مكان بجميع الأشكال.

هو الصَّبور… وصَبر الله أبدي ليس له حدود. لهذا لا يتوقّف الخَلق والإبداع… لهذا يستمرّ الله في خَلق جميع المخلوقات. خيبة الأمل في الخَلق لا مكان لها في عالم الألوهية وإلا لتَوَقَّفَ عن الخَلق منذ زمنٍ بعيد. على الأقل لكان توَقَّف عن خَلق الإنسان. لا يستحق الإنسان أن يكون هنا فقد أثبتَ أنه حِمْلٌ ثقيل على الوجود، لكن الله لم يخِب أملُه في الإنسان بَعد.
قد قال طاغور العظيم يوماً في أغنية صغيرة، أنه متى ما رأى طفلاً جديداً يولَد فهو يشكر الله، لأنه يعلَم عندها أن الله لازال يأمَل. أنّ الله لم يتعب بعد، لازال يؤمن ويثِق بالإنسان. سيظلُّ يخلِق ويخلِق ولن يَخيب أمَلُه أبداً.
هذا واحدٌ من أجمل أسماء الله. إسمٌ يحوي رسالةً لك. لأنك إنْ كنتَ تنوي البحث عن الله، فعليكَ أن تَتحَلّى بالصَّبر الذي ليس له حدود. عليك أن تتحلى بأخلاق الله وتكون مثله. لا شيء يُعيق وصولك إلى الله مثل قِلّة الصّبر. وفقدان الصّبر واحدٌ من أعظم مشاكل العقل المعاصر. لم يمُرّ الإنسان في تاريخ حياته بحالةٍ انعدَم فيها الصَّبر كما في هذا العصر. لم يكُن الإنسان في تاريخ حياته في مثل هذه العَجَلة والإستعجال يريد كلّ شيء أن يحدث في الحال. تظنّ الناس أن معرفة الله مثل شُرب فنجان قهوة أو شيء من هذا القبيل. الله يحتاج منكَ صبراً جميلاً، صَبراً أبدياً طويلاً، لأنه لن يزورك إلا حينما تصل لحال من الإستسلام التام من كل ناحية. وأنت عَجول، وأنت في حال توتُّر وطلَبات مُستمرة، وأنت تريد أن تعرف كل شيء الآن، لن تسترخي أبداً. توقُّعاتك لزيارة الله لك سوف تُثير حماسَك، واستثارة حماسك لأيّ شيءٍ كان، هي نوعٌ من الحُمّى.
لن يزورك الله وتحياه سوى حينما تكون في سلامٍ تام، مُستسلِم أيّما استسلام… مُستكين داخل محرابك. فإن زارك اليوم، يا للجمال، وإن زارك غداً، يا للجمال أيضاً. إن زارك في يومٍ من أيام الأبدية، يا للجمال، وإن قرّر أن لا يزورك أبداً، فيا للجمال أيضاً لأن مشيئة الله هي الأمر الصحيح في كلّ الأحوال. هذا هو الصّبر وهذا هو الإستسلام. حين يحيا العقل حال الصّبر والإستسلام والسلام هذا، سيزورك الله فوراً.
كلّما ازدَدْتَ صَبراً، كلما زارك فوراً… مع الصبر القليل، سيكون انتظارك لزيارته طويل.
أشعُر بالله وكأنه الصّبر نفسه، وعلِّم نفسك أن تصبُر مثله. فوحدهُ الصِّبر يلاقي صَبراً مثله.

هو الواجِد… موجِد كل موجود وليس له لا حاجة ولا احتياج. الرِّضى إسمٌ آخر لله. الله حالٌ من الرِّضى التام. ذوبانك بين يديّ الله هو اختفائك من عالم الإحتياجات. ذوبانك فيه هو بقائك دون حاجةٍ على الإطلاق… بقائك لأنه أراد لك أن تكون. في هكذا حال، أيّاً ما حدث لك نِعمة ونعيم، في الحياة نِعمة وفي الموت نعمة أيضاً. في هكذا حال، لا فرق عندك بين فشلٍ أو نجاح، لا قرار ولا خَيار.
كلّما قَلَّت حاجاتك كلّما أصبَحْتَ من الله أقرب. وفي زيارة لحظات انعدام الحاجة لك، تنهار الحدود والسُّدود بينك وبين الله. لحظات خالية من الحاجات تُقارِب بينك وبين الله وتختصرُ أطوَل مسافات. أحياناً تمُرُّ عليك لحظات تكون خالٍ من جميع أنواع الحاجات. مع مطلَعِ فجْرٍ جميل، تجلسُ في صمتٍ مُشاهِداً لحظة الشروق. لا حاجة لديك، لا رغبة فيك، ولا فكرة تُحاكيك. العقل صافٍ فارِغ غير مُلَبَّد بالأفكار العشوائية. يتوقف الزمان في هكذا لحظات، لهذا يُسَمّونها بالوَجد.
إبحث عن لحظات الوَجْدِ هذه. أحياناً تزورك من تلقاء نفسها، لكنها سوف تزورك أكثر وأكثر إن بحَثْتَ أنت عنها. إن انتظَرْتها ستكون قادراً على معرفة سرّها.

وهو الصَّمَد الذي تُوَجِّه وجهك له حينما تحيط بك الصِّعاب من كلِّ حدبٍ وصَوب. لا يتذكّر الإنسان الله إلا حينما تواجِهُه الصِّعاب. حينما يفتح الإنسان عينيه ويرى ألماً وقلقاً وهَمَّاً وغَمَّاً، حينما يرى كَم هَشّة هي الحياة، حينما يرى كَم سريعٌ هو الزمان وكيف أنّ دوام الحال مِن المُحال، حينما يعي دوران عجَلَة الحياة التي لا تتوقّف عند أحد، حينما يشعُر بأنّ الموت يقترب منه مع مرور اللحظات… حينها فقط يُوَجِّه الإنسان وجهه لله.
إنه مَغزى ودَوْر المعاناة. دورُها أن تجعَلَك لله ذاكِر مُستَذكِر… بأنّ للمعاناة مَخرَجاً وللضيق فرَجاً… بأنّها لك مُفارِقة وعنك مُهاجِرة إن عُدْتَ ولله وَجَّهْتَ وجهك. حينما يحيا الإنسان في سعادة وتكون الأمور على خير ما يرام، مَن الذي يهتمّ بالله؟ في هكذا أحوال تكون الناس قادرة على إنكار وجوده، على تأجيل البحث عنه وعدم اللجوء إليه، على تجاهله وعدم التعَرُّف عليه. لهذا السبب ترى أغلب الناس التي تحيا حياة الثراء والرخاء تبقى سطحية في أغلب الأحيان. أغلب الأثرياء يحيون حياةً سطحية لأنهم لم يذوقوا طَعم القلق الذي يهِبُ النفْسَ عُمقاً، ولا طعم المعاناة الذي يدفع الناس للهرولة إلى الله عائدين. الألم يلِجُ في دواخل البشر مانحاً إياهم عُمق النظرة والرؤية. المتعة الدائمة تُبقي الإنسان سطحياً فارغاً فلا يزوره تحدي حالاً صعباً يُقاسيه ويحياه.
لماذا وُجِدَت المعاناة في الحياة؟ لأن وحدها المعاناة تُعَبِّد لك درب العودة إلى الله، وحدها تُطَهِّر قلبك فهي تشتعل بداخلك كالنار… هي تطهير وطهارة تَغسِلك فهذا هدفها ومغزاها… هذه مُهِمَّتها.
الصَّمَد هو مَن تُدير له وَجهك حينما يجتاحك بؤسك. ومَن تعَلَّم أن يُدير لله وجهه حينما يغلِبُه بؤسه، فسوف يتعلَّم أن يدير له وجهه ويوكِل أمرُه إليه في جميع حالاته وليس فقط حينما يزوره بؤسه. إنها ثاني الخطوات. أولى الخطوات طبيعية، فالجميع يتذكّر الله في الشدائد والأزمات، لكنّ ثاني الخطوات تحمِلُك وتُحَلِّق بك بعيداً عن الطبيعة. ثاني الخطوات هي أن تتذكّر الله وأنت عن المعاناة بعيد. لا تنساه وأنت تحيا في سعادةٍ ورخاء، وسوف تجد سعادتك تغدو أعمق وأعلى تطال حدود السماء. تذَكُّر الله يمنح كلّ ما في حياتك عُمقاً وجمالاً وارتفاعاً شاهِقاً. بدون الله لا يكون الإنسان سوى توهَان، سوى قطعة خشبية تتقاذفها الأمواج بين الشطآن.

هو الجامِع… الواصِل الذي يصِل ويُمسِك ويَجمَع بوَصْلِهِ كلَّ شيء. بدون الله لهَوى الوجود وانفَلَت وما انوَصَل ولا اتَّصَل. لكان الوجود زِحاماً مُتراكماً من الأزهار وليس إكليل غار. لأجل إكليل الغار تحتاج حَبلاً يصل الزهرة بالزهرة، حَبلاً يُوَحِّد ويجمَع ويصِل جميع الأزهار.
الله هو الحَبْل الذي يجمَع الفوضى صَافّاً إياها فتولَد أوركسترا الكون البديع. هو الوِحدة التي تُوَحِّد الأشجار بالأنهار بالجبال بالنساء بالرجال بالنجوم. هو مَن يُمسِك الوجود ويُبقيه مُترابِطاً مُتماسِكاً واحِداً. إنه القوة الخفيّة خلف انسجام وتناغُم جميع الأشياء.
يؤمن العُلماء بالجاذبية فبدونها تَنفَلِت الأمور وتجتاح الأرض فوضى عارِمة، رغم أنّ أحداً لم يرى الجاذبية أبداً ولم يلتقيها يوماً، لكن مفهوم الجاذبية يُثبِت نفسه بنفسه إذا ما عُدنا بالزمان إلى الوراء، لذاك اليوم الهامّ حين سقطَت التفاحة بينما كان نيوتن جالساً تحت إحدى الأشجار. لحظتها ترائى له شيئاً لطالما كان موجوداً إلا أنه لم يكن بيِّناً. الآن بات واضِحاً. أصبح بإمكانه فَهم ما الذي دفع التفاحة للسقوط أرضاً. لماذا لم تسقُط صعوداً؟ لماذا تهوي جميع الأشياء أرضاً؟ لابدَّ من وجود عاملٍ جاذب في الأرض يجذب الأشياء نحوه. عامِلٌ جاذب لا يمكن للإنسان رؤيته إلا أنه بإمكانه أن يشعُرُه.
الله هو الجاذبية… جاذبية لا تخُصُّ الأرض وحدها، بل الكون كاملاً. هذا هو معنى الجامِع. مَن يُبقي كلَّ شيءٍ متماسكاً مَجموعاً مُتقارِباً مُنَظَّماً. والحبُّ هو الجوهر الذي بإمكانه توحيد جميع ما هو كائن ويكون. لم يغدو العالَم وِحدة واحدة مُوَحِّدة إلا بسبب المحبة. هذا ليس نظاماً آلِياً منطقياً. إنها روحٌ كونية تفيض بالحياة والحيوية.
لذا فلتتذكَّر وتَذكُر بأنّ الحب هو التجربة الأعمق من بين التجارب التي تجعلُكَ من الله أقرب. وأنّ الله هو ذروة اختبار تجربة الحب. الحُبّ يجمَع ويُقارِب ويُآلِف.

هو السَّلام. ولكلمة السّلام معنَيان، تماماً كالعُملة التي تحمِلُ وجهَيْن. السَّلام كلمة تعني الصمت والسّلام. الصمت هو باطن الحال ومعدَنه، أما السّلام فظاهِر الحال الذي يُعَبِّر ويَحكي عنه. حينما يعتري باطِن الإنسان صَمتاً ساكِناً عميقاً، يغدو السّلام عِطراً يُحيط بظاهرِ أحواله وتصرفاته وأسلوب حياته. ما لَم يتفَتَّح بُرعُم الصمت ليِّناً يانعاً نابِعاً مُغَرِّداً من باحة كيانك، من وسط جسدك، من لبّ قلبك، فإنَّ السلام الذي تعرِفُه ليس بالسَّلام… سلام الظاهِر هو مجرد مَظاهِر هَشّة.
لا تُحاول ادِّعاء السّلام علناً، أبداً. سوف يخلِق بداخلك صراعاً لا ينتهي مُطلقاً. صراعٌ هو سبب جميع أمراض النفْس وانفصام الشخصية، التي أصابَت البشر في هذه الدنيا. يستحيلُ فَرض السلام من خارجك، إلّا أنّ الإنسان لم يكُفّ عن هكذا نوع من المحاولات البائسات. علَّموا الإنسان أنْ يكون مُسالِماً فادّعى السلام بينما داخله بركان يغلي. تعلَّم الإنسان فنّ الحديث والتصرُّف والذوق واللياقة، لكن قوة حياته داخل كيانه لم تتحوَّل. تحدَّث الإنسان ويتحدّث عن السلام، لكنه بارعٌ في جميع أنواع الحروب.
كلّ ما هو طبيعي عفوي فطري يبدأ من داخلك ويفوح كعِطرٍ لزهرتك وينتشر خارجك. إنها حكاية البِذرة… لا تُفرَض الشجرة عليها من مكانٍ ما خارجها. البِذرة تَفنى في التربة لتولَد الشجرة منها. الداخل يتحوَّل ويتمدَّد ويظهَر إلى العلَن. السريرة تغدو علانية. الباطن يغدو ظاهِراً.
الصمت هو السلامُ مَخفياً والسلام صمتاً مَخفياً. هو معنى السّلام. الله هو الصمت والسلام. وعلى الإنسان أن يتعرّف ويغرِف من ألوهيته ويعي الإله الذي يسكنه. على الإنسان أن يكون صامتاً مُسالِماً لأجل أن يرى حقيقة ما هو كائن ويكون، ليفهم جوهر السرّ المكنون. والقلبُ صامِتٌ لا تمُرُّ به فكرةٌ أو عاطِفةٌ أو إحساسٌ، وحينما يختفي صراع النفْس مع نفسها وصراعها خارجها، حينما تنتهي العداوات الشخصية… عندها فقط يعرف الإنسان حقيقة الوجود… لحظتها فقط يعي الإنسان مَن هو الله.

هو العليم يُحيط بكلِّ شيءٍ عِلْماً ولا يَخفَى عليه شيئاً. وحده الله يعرف ويعلَم وما لم تغدو واحِداً معه، ما لم تنصهر وتذوب فيه فإنك لن تعرف ولن تعلَم شيئاً. لن توجد المعرفة الحَق. إنّ جميع ما يظنّه الناس بالمعرفة والمعارف، جميعها هُراء وأكوام نفايات لا معنى لها. جميعها معلومات لكنها ليست المَعرفة الحقيقية. والفرق بينهما عظيم. أن تعرِف يعني أن تلمِس بداخلك شيئاً فتختبره وتحياه، أما المعلومة فهي شيء تتلقاه أو تجمعه من مكانٍ ما خارجك.
إسأل عالِماً عن الزهرة وأيّاً ما يُخبِرُك به لن يكون سوى معلومات. ثم اسأل شاعِراً أو عاشِقاً أو رسّاماً. ما سيُخبِرُك به عن الزهرة سيكون للمعرفة الحقيقية أقرب، سيكون نَبعاً يتدفق من النهر الجاري داخله.
يقولون في اليابان بأنّك وإن أرَدْتَ رَسْمَ الخيزران فعليكَ أن تصبح خيزراناً بنفسك… بدون أن تشعره وتكونه وتتنفَّسه، كيف لك أن ترسُمه؟ سوف تَجهَل حكايته التي يُخَبِّئها بداخله. هو الفرق بين الرسم والتصوير. إلتقاط صورة يُشبه المعلومة، لأن العدَسة عاجزة عن دخول معبد وقلب ما تلتقِط صورته. ستبقى العدَسات كالناظِر من الخارج، يقف على قارعة الطريق، ينظر من بعيد. أما اللوحة والرّسمة فحالٌ يعني أن صاحبها، مَن رسمها قد دخل داخلها، قد زار كيانها، قد شعَر بها ووقع في حُبِّها. تأتي الرسام لحظات يختفي فيها ويبقى ما يرسمه حاضِراً مكانه.
يقول الصوفي (الله أعلم) لأن الله يحيا بداخِل كلُّ واحِدٍ مِنّا. يسكُن قلوب الجميع. ليس الله بشخصٍ يجلِسُ في مكانٍ ما في السماء… الله هو كينونة ولُبّ وجود كلّ موجود. الله لُبّ وجودي ووجودك ووجود الصخرة والزهرة. الله قلب الوجود.
العِلم يدرس الوجود كمادّة، من خارجه، مِن على سطحه، لذا لا يعدو كوْنه معلومات. أما الدين فيخترق الوجود ويدخُل معبده. الدين لا يقِف على قارعة الطريق وينظُر من بعيد، الدين وقوعٌ في حبّ مَن ينظُر إليه، لذا يدخُلُه ويتعرَّف عليه. هذا معنى العليم… العالِم بجوهر ولُبّ وحقيقة الموجودات.

هوَ الواحِد الأحَد… الوجود وكلُّ موجود، الجميع واحِد. التعَدُّدية ليست سوى مَظاهِر وهمية. الوِحدة الأحدية هي الحقيقة الأبدية الجوهرية. جميعنا يختَلَف من الخارج، من الظاهِر، لكننا في القلب والأصل والمصدر، واحِد… الظاهِر العلَني مُتَعَدِّد، والسِرّ الباطِن واحد.
وإنك إذا نظَرْتَ للظاهر يظهرُ لك على سطح الحياة ومسرحها، يبدو لك وكأنّ أحداث الحياة مجرّد صُدَف لم يتمّ التحضير لها، بأنها مصادفات عشوائية لا علاقة لها ببعضها. لكنك وإن نظَرْتَ من باطن القلب، من جوهر ومصدر اللُّبّ، ستعي أن الكُلّ واحِد… جميع الأحداث والظواهر والعلاقات والحيوات، جميعها متشابكة بعضها يقود لغيرها، جميعها تحدُث ضمن سياقات يجمعها حبلٌ من نورٍ مُنير. الله هو هذا الحبل… إكليل الغار يجمع الزهرات ويُوَحِّدها جميعها مع بعضها. إنه الواحِد الأحَد… فلا تضيع في عالم الأعداد والأشكال والعقول المُختلفة، لا تخسَر نفسك هناك… تذكَّر الواحِد واذكُرْه.
حتى وإن بَدَا لك الكثير الذي يُناقِض بعضه، عالَم الإزدواجية المادية… حتى وإنْ بدا لكَ في بعض الأحيان حقيقياً واقعياً لا وجود لحقيقة غيره، فَلْتُصِرّ على تذَكُّر الواحِد والوِحدة الكونية. على أن تراه في الأحداث والأشخاص تمُرُّ على مسرح حياتك اليومية. هذا ما قاله المسيح حينما قال أحِبوا أعداؤكم… إنه يُخبِرُك بأنّ عَدُوَّك هو أنت وليس مُنفَصِلاً عنك. تفكيرك في تدمير العدوّ هو لك انتحار لأنك ستُدَمِّر نفْسك. لذا، وفي مثل هكذا سياقات، حينما تغدو رؤية الواحِد في هكذا علاقات، شديدة الصعوبة وواحدة من أصعب المُهِمّات، فلتُصِرّ، أصِرّ على أن ترى الواحِد لأجل أن تفتح لك الحقيقة العُلوية أبوابها السرمدية.
وإنه لن يكون بمقدورك بلوغ الواحِد الأحَد ما لم تكُن الفناء… إن لم تصبح لا أحد. ما لم تختفي فإنّ الله لن يظهَر. موت الأنا هو ولادة الله. موت الأنا قيامتك من روح الله. عليكَ أن تَمحي وتمسَح نفسَك تماماً حتى تصبح لا أحد. لا ترتاح لقليلٍ من الأنا تبقى بداخلك، فهذا القليل كافٍ لمنعِك من لقاء الله. سيكون هذا القليل حاجزاً يمنعك من الوصول. والأنا مثلها مثل السّرطان. خلية سرطانية واحدة بإمكانها أن تضاعِف نفسها لتنتشر في سائر أنحاء الجسد. هكذا هي الأنا. قليلٌ منها يختبىء في إحدى زوايا كيانك، كفيلٌ بأن ينتشر داخلك ويملأ كيانك. عليك اجتثاثها وانتشالها من جذورها تماماً.
الفناء يعني شعورك بأنك أصبحتَ لا أحد. حينما تنظر داخلك ولا تجد أحداً هناك، لا فكرة ولا قلق ولا ماضي ولا مستقبل ولا ردة فعل ولا أيّ شيء. أنت حتى لن تكون قادراً على سؤال نفسك “مَن أنا؟ مَن أكون؟” فالإجابات جميعها ستبدو عاجِزة سطحية مزيفة واعتباطية. لكنك حينها ستكون عالِماً بما هو ليس أنت. سيكون بإمكانك تمييز جميع ما هو ليس بأنت. وفي أحضان هذا الجهل الجميل، يتنَزَّل عليك العرفان الإلهي. في واحة البراءة هذه تنبُت الحكمة وتُزهِر. حينما لا تجدُ أحداً داخلك، عندها فقط أنت حاضِرٌ لاستقبال وملاقاة الله. حينما تكون لاشيء، تُفتَح أبوابك على مصراعيها فيدخُل الواحِد ويملأك ويَكفيك.
لأنك الآن موجودٌ بأناك، فإنك لن تعرف ولن ترى ولن تعي الله. مجرد وجودك نفسه يخلق الثنائية “أنا والآخر”. مع اختفاء الأنا يختفي الآخر. إنه ومنذ الأزل لم يحدث أن قامَ حواراً بين الإنسان والله لأن الحوار يحتاج وجود طرفيْن اثنيْن. نعم الوَصْل والوِصال بين الإنسان والله ممكن، لكن ليس الحوار. حينما تختفي أنت يحدث الوِصال… ستعي وقتها ما حدث. ستعيه ليس ككيان عن الله مفصول، بل كبقاءٍ من قلب الله يشهَد.

وهو الوَهّاب… هو العَاطي المانِح الذي يُعطي ويمنَح دون حِساب ودون أن يتوقَّف عن العطاء.
جميع ما نملِكُه، ما نحيا به، رُزِقنا به، جميع ما نَنعَم به هو هِبَتُه وهدِيَّتُه لنا. ليس مكسَباً كسَبناه بواسطتنا. أنت لم تكتَسِب حياتك، لم تفعل شيئاً للحصول عليها.. حياتك هدِيَّتُه لك. ولا يوجد سبباً لمَنحِه الحياة لك. في الواقع نحن لا نستحقها… إنك كُلَّما نظَرْتَ إلى سِحر وجمال وروعة الحياة، كُلّما راوَدك السؤال، ماذا فعَلْتُ كي أستحِقَّها؟ قد تنَزَّلَت نعمةً وهِبَةً عليك.
الله نبعٌ من العطاء لا ينضب… يتدفق ويتدفق ويتدفق… لا ينضَب. الله يُعطي ويمنَح لأنه ليس بإمكانه سوى أن يُعطي ويمنَح… عطاؤه مصدرُه غِناه الذي لا حدود لأبعاده ولا يُمكنك إدراك مُحتواه ومعناه. هو يُعطي كما الشمس تُعطي النور وتمنَح، كما الزهور تُعطي العطور… العطاء طبيعة الله وحالُه. حالما تفهَم هذا الحال ستجد قلبك لله يميل ويلجأ. سيغدو هذا دربك: أنْ تبدأ بالعطاء لمَن حولك، فهو الطريق لتصبح من الله أقرب.
الإنسان يكتَنِز ويُخَبِّىء ويمتَلِك ويخاف على ما بين يديه من الضياع… إنه البُخل، فاتِح باب الجفاء والعَداء بين الإنسان والله. بُخل الإنسان. حتى وإن أعطى في بعض الأحيان، فهو يُعطي بدافع أن يرتَدّ له العطاء ويعود عليه بمِثلِه ويَجود. لا يكُفّ الإنسان عن التفكير بمبدأ الربح والخسارة. عطاء الإنسان ليس سعادته، بل عمله وتجارته. عطاؤه ليس مَحَبَّته ولا مشاركةً منه. هذا معنى الإنسان الدنيوي، عابِد الدنيا وعَبْدها.
مَن هو إنسان الروح؟ إنسان السماء؟ مَن هو المتدين؟ هو مَن يعرفُ حلاوة العطاء فيُعطي ويمنَح دون سببٍ على الإطلاق، يُعطي دون أن يُفَرِّق بين البشر على دروب العطاء. يُعطي دون أن يتّخِذ من الطالِح موقفاً فيقتصر عطائه على الصالِح ولا يَمنح الطالح ممّا يملُك أبداً. التّفرقة في العطاء بين صالحٍ وطالح تعني أنّ عطائك ليس مشاركتك، بل تجارتك. الله يستمرّ في إغداق النِّعَم على الآثِم والقديس دوماً، لا تفرِقة ولا تفريق. وحينما تُمطِر غيومه فهي لا تُفَرِّق بين صالحٍ فتُنزِل عليه مطراً وبين طالِحٍ فتمنع أمطارها عنه. وحينما تُشرِق شمسُه فهي لا تمنح نورها للقديس فقط، بل للجميع.
إعتَنِق روح المشاركة، توَحَّد معها وعانِقها ودَعْها تكون أسلوب حياتك. هذا ما أسَمّيه بالصلاة. هي الصلاة الحقيقية الضرورية: أنْ تكون قادراً على العطاء دون أدنى فكرة عن ما ستجنيه وما الذي سيعود عليك لأنك أعطيْت وشارَكْت بما لديك. صلاتك هي أن تكون قادراً على العطاء دون قيود أو شروط. أنْ تُعطي لأنك نبعٌ لا ينضَب.

هو المُجيب. والمُجيب هو سامِع الدّعاء، المُصغي إلى الصَّلوات. صلاتك لن تكون يوماً هباء، لأنّ مناجاتك لن تندَثر وتضيع أدراج الرياح بين الأرض والسماء. الصلاة التي لا تُسمَع هي الصلاة التي لم ينطِق بها القلب يوماً. لا وجود لصلاةٍ نطَق قلبك قبل شفتيْك بها، لا تُرَدِّد السماء صداها، أبداً. وحدها صلاة الشِّفاه لا صدى لها ولا جواب. وحدها كلماتٍ جوفاء فوق الشِّفاه بدافع المصلحة والجشع ليس لها جواب. وحدها صلاة هجَرَتها البراءة ورحلَت عنها الطهارة، ما مِن سامعٍ لها في أيّ مكان. وحدها صلاة أرَدْتَ من خلالها استغلال الله لتحقيق مآرِبَك، وليس بإمكان أحد أن يستَغِلّ الله. ليس بإمكان الإنسان سوى الإستسلام لله وتسليم الأمر له. ليس بمقدور الإنسان سوى أن يُسَلِّم لله نفْسه حتى يعمَل الله من خلاله وتكون مشيئته. ليس بإمكانك سوى أن تقول لله: “لتكُن مشيئتك”.
هذا هو الأساس الذي يجب أن تُبنى عليه جميع الصّلوات وكلّ صلاة. لا يجب أن تكون الصلاة طلبات، بل استسلام وتسليم. حينها تُسمَع الصلاة فقط، حينها تُردِّد السماوات صداها. وكلّ صلاة ينتظرها جوابها. هذا معنى المُجيب. الله حاضِرٌ كي يسمعك، الله مُصغٍ إليك، ما عليك سوى أن تتعلَّم كيف تنطِق، كيف تحكي وكيف تقول. ما عليك سوى أن تتعلَّم كيف تحكي بقلبك قبل لسانك، بقلبٍ مُحِبّ… إنها المناجاة.
صلاةٌ نابعة من الرأس ليست بصلاة. والصلاة الشكلية المُتعارَف عليها ليست بأساسٍ صحيحٍ للصلاة. لا يوجد شيء اسمُه صلاة مسيحية وإسلامية وهندوسية، لا…. صلاتك يجب أن تكون لك وحدك. صلاتك تُخُصُّك وحدك، نابِعة من قلبك. صلاتك لا تتعلَّمُها من مجتمعك ورجل دينك ومَن وُجِدَ قَبلك. إمنعوا رجال الدين من الوقوف جداراً بينكم وبين الله، من التدخُّل في علاقتكم الحميمة بالله. صِلَتك بالله هي صِلة مباشرة منذ الأزل، لا حاجة لأي وسيط. صلاتك فردية تَخُصُّك وحدك. صلاتك تحكي عن حميميّتك وتروي حكاية حبّك مع الله. حينها أيَّاً ما صدَر وتدفَّق من قلبك، هو على موعدٍ مع جواب السماء. الله ليس سميع الدعاء فقط، بل مُجيب الحاجات. لذا، فليكُن رداء صلاتك حنان وصِدق وبراءة قلبك، قبل أن تترُكَك قاصِدَةً الكون الفسيح. دَع حياتك اليومية تتحوَّل لصلاة مديحٍ إلهية، لشُكرٍ وامتنان وأغنية ملؤها الفرح على النِّعَم والبركات الكونية.

هو المَلِك… ملِك الملوك وسيِّد الوجود… والملك كلمة بمثابة مانترا وذِكر غاية في الجمال. ترديدها يخلِقُ بداخلك مساحاتٍ شاسعة من الجمال. يا ملك، يا ملك، يا ملك… كلمة لها قيمة صوتية. الذبذبات الصادرة من هكذا أصوات بإمكانها اختراق لبّ ألبابك، عُمق قلبك والوصول لمحراب كيانك ساكِنةً في أعماقك.

هو الله الذي لا إله إلا هو… وإنّ لكلمة الله أهمية تفوق ما تحويه كلمة God الإنكليزية. في الحقيقة لا وجود لأيّ كلمة في قاموس اللغات العالمية بإمكانها أن تفوق هذه الكلمة أهمية. جميع الكلمات التي استُخدِمَت للدلالة على الذات السرمدية تحملُ الصفات المعنوية لكلمة God. جميعها لا تحوي تعبيراً كالذي تحويه كلمة الله. الله ببساطة هي كلمة تعني الوجود. كلمة تحوي معنى جميع ما هو موجود: تحوي الجيّد والسيء والحياة والموت. هذه الكلمة لا تعني الموجود بل الوجود.
الإنسان موجود. لكن الله هو الوجود نفسه. أن تقول بأن الله موجود فهذا مجرد لعِبٌ بالكلمات وكأنك تقول الوجود موجود. لا معنى لهذا الكلام. الشجرة موجودة، الإنسان موجود، الجبل موجود لكن ليس الله. الجبل موجودٌ اليوم لكنه قد لا يوجَد غداً. قد مرَّ على الزمان يوماً ولم يكن هذا الجبل موجود. ولسوف يأتي على الزمان يوماً لا يكون هذا الجبل موجوداً فيه.
لكن الله دائماً هنا. ليس بإمكانك استخدام ضمير الماضي أو الغائب مع الله. قد يكون استخدامه صحيح لغوياً، لكنه خاطىء وجودياً.
ليس بإمكانك أن تقول “الله موجود”، وهذا معنى كلمة الله. الله هو الوجود.

وهو السَّميع… والسميع هو سامِع الجميع. الحبيب يسمع مناجاة حبيبه. والجميع أحباب الله. الله سامِع كل شيء دون تحريف أو تأويل. وإن استطاع الإنسان أن يكون سَميعاً، أن يسمع ما هو كائن كما هو، فهو ليس في حاجة شيء أبداً. إن كان بمقدور الإنسان سمَاع صوت الريح هادِرة مارَّة عبر الأشجار، فهذا إنجيلُه. إن كان بمقدور الإنسان سمَاع العصافير تُغَرِّد صباحاً فوق الأغصان، فقد استمع لصلاةٍ حقيقية. إن كان بمقدور الإنسان سمَاع صوت شلال الماء، وتَكَسُّر أمواج البحر، فقد سمِعَ صوت الكون. جميعها طُرُق الله حتى يصل إليك، حتى يتحدث معك، حتى يناديك. جميعها دعَوات مُرسَلة من الله لك.
لكن إنسان اليوم باتَ أصَمّاً وأعمى ومُتَحَجِّراً دون قلب. ما عاد الشعور يسكُن كيان الإنسان بعد الآن. حتى حينما يشعُر الناس اليوم، فهُم يظنّون أنهم يشعرون. والناس ما عادَت تسمع شيئاً اليوم، فسماعُك شيء ما لا يتطَلَّب وجود أذُنَيْك فقط، بل قلباً يشعُر. والناس ما عادت ترى بعد الآن، إذ أنّ الرؤية دون قلبٍ يقفُ خلف العينين، ليست برؤية على الإطلاق لأنك لن ترى حقيقة ما هو كائن ويكون. لن ترى الجوهر والمضمون. سترى المرئي وسوف يفوتك اللامرئي. سوف تسمع الكلمة لكنك لن تسمع الصمت خلف الكلمة. سوف تقرأ النصوص لكنك لن تجد جواهر النفوس. وإنّ الصمت خلف الكلمة هو الحقيقي، والجواهر التي في النفوس هي الحقيقة… هي الحياة الحقيقية… اللامرئي… الأبدي.
والصوفي يشعُر بالله وكأنه الموسيقار. بأنّ الله يمتلك أذُناً تفهم الموسيقى. وبسبب هذا الشعور والتجلّي الجميل، غاصَ الصوفيون عميقاً في علم الموسيقى لأنّ أفضل صلاة بإمكانك نثرها في أحضان الوجود تكون من خلال الموسيقى. والموسيقى لا تحوي كلماتٍ بين طيّاتها… إنها صوتاً نقياً. واللغة عائِق بينما الموسيقى تخترق وتتجاوز الحدود. والله لا تصِلُه لغةً بقدرِ ما تصِلُه لغة الصوت النقي. لهذا يفهم البشر الموسيقى أجمعين. لهذا تجد الموسيقى لغة عالمية.
أذُن الله موسيقية.

هو الرَّقيب… يُشاهِد الجميع ويشهَد على كلِّ موجود. وهذا دور كلّ إنسانٍ هنا، أن تكون الشاهِد الشهيد. كُلَّما أصبحتَ شاهِداً كُلّما غدَوْت إلى حقيقة نفْسك أقرَب. إنسانٌ غافِلٌ عن الشاهِد المُراقِب داخله، ليس سوى آلة بلا روح، يحيا لأجل أن يأكل وينام.

وهو الرؤوف… والرؤوف هو الرحمن الرحيم. والرحمة عبير المحبة. المحبة زهرة والرحمة عِطرُها. توجدُ أزهارٌ لا عِطر لها… أزهارٌ فقيرةٌ هي، فالزهرة ليست بزَهرة ما لم تُعطِّر الأجواء وتُنعِشُها بعِطرها. أزهارٌ لا عِطر لها، لا تمنحُ العالَم شيئاً، لا تُرسِلُ روحها سابحةً في أثير العالَم. هي زهرةٌ تفتَقِدُ شيئاً… تفتَقِدُ لمسة شاعرية فيها… بدون لمسةٍ شاعرية تبدو قاسية وليست ناعمة طريّة. تبدو وكأنها لا تملُك القلب الرقيق ولا الذبذبة الشفافة التي لا تراها العيون. هي ظاهرِية أكثر منها جوهراً ومَضموناً. هي شكل، هي جسد يفتقدُ الروح. إنّ العطر أثيرٌ يُخبِرُك بأنّ للزهرةِ قلبٌ حيّ… ما تُخفيه الزهرة داخلها يُجَسِّدُه عِطرُها خارجها… إنها معجزة المعجزات.

هو المَتين… الصَّلب تمتدّ جذوره عميقة مُتَمَدِّدة منتشرة في الأرض المقدسة. وهذا ما يحتاجه الإنسان، أن يكون له جذور… قد أصبح الإنسان مركِباً تتقاذفه الأمواج بين الشُّطآن… فقدَ جذوره وبات يحيا بدونها… فقدَ جذوره جميعها. الإنسان لا يعرف من أين أتى ولماذا هو موجودٌ هنا وإلى أين الرحيل بعد أنْ يَفتَرِق عن جسده. حينما تفقدُ في الكون جذورك، تغدو حياتك خالية من كلِّ معنى. جذورك تحمِلُ معنى حياتك، والله هو التُربة التي ننمو فيها وبها ولا حياة بدونها.
وما الذي سوف يحدث لشجرةٍ نسيَت أصولها وفقدَت ذاكرة جذورها والأرض التي نبَتَت منها؟ ستختفي الزهور منها وترحل الطيور عنها وتبدأ بالذّبول. خضارها سوف يذبُل وستغدو ألوانها شاحِبة. لا دماءٌ جديدة تجري في عروقها. سوف تحيا الشجرة حالاً من البؤس والقلق والإضطراب. قد نسيَت مَن تكون، أصبحت تَجهَل مَن تكون، ولماذا أراد لها الكون أن تكون، ولماذا الكون من الأساس كائنٌ يكون؟ ستتبَدَّل الفصول وتتغيَّر، والشجرة في مكانها لا تتغيَّر ولا تتحوَّل ولا تعرف ما الذي أصابها ولا حقيقة حالها… لا هي تحيا حياتها ولا هي قادرة على أن تنمو لتُحَقِّق أقدارها.
وأنت ما لم تكُن لك في الكون جذور، ما لم تمتَدّ جذورك الكونية في الوجود عميقاً وتَطول، فنُمُوَّك الروحي مستحيل. الإنسان مِثلُه مثلُ شجرة، وبدون الله يغدو الإنسان شجرةً بلا تُربة.

وهو الرَّشيد… والرشيد دائماً على صواب فهو المُرشِد والدليل… الرشيد لا يُخطىء أبداً… الرُّشد هو درب الصَّواب دائماً وأبداً. يقعُ الإنسان في الخطأ لأنه يظُنّ نفسه عن الله بعيد. صحيحةٌ هي مقولة (الخطأ جزء من الطبيعة البشرية)، لأنّ الإنسان يحيا عن الألوهية فَصلاً وبُعداً وهو يعبُر على جسر بشريّته. لحظة تجاوُز ذلك الفَصل والعودة إلى الأصل، يعبُر الإنسان جسر البشرية صاعِداً إلى الألوهية. عندها يختفي الخطأ ويتلاشى ويغدو مستحيلاً. إنك وإنْ قُمْتَ بفِعل شيء، يغدو تحاشيكَ للخطأ أمراً مُستحيلاً لأنّ أناك هي التي أرادت وابتغَت أن تقوم بهذا الفِعل من البداية. وأناكَ وحدها عن الله تُبعِدك. قيام أناك بأيّ فعلٍ أو عمَل هو الخطأ الأعظم الذي يقودك لجميع أنواع الأخطاء وما بقِيَ منها. أناكَ هي الخطيئة الأصلية. حالما تتجاوَز الأنا، تختفي احتمالات ارتكاب الأخطاء من حياتك، وللأبد. عندها أنت لستَ الفاعِل. عندها الله يفعل من خلالك ما شاء.

هو الوَصي… العارِف الفاهِم العالِم المُتَصَرِّف بكل شيء. إنه العِرفان الإلهي. إنه الفَهم الإلهي.
للمعرفة طريق بشري عبر العقل، عبر المنطق. هكذا معرفة تُشبِهُ مَن يمشي في ليلٍ حالِكٍ ويتخَبَّط في الظّلام. وللمعرفة طريق إلهي عبر الحَدس. مع الحَدس يرحل الظلام فتفتَح عينيْك لترى الأشياء كما هي دون إسقاطاتٍ وشروحاتٍ خاصة بك وبنظرتك للأمور. عبْر العقل أنت تصل لإستنتاجات حيث تقوم بتحليلات وتفسيرات منطقية وتقديم الأدلّة والبراهين. أنت تجمع المعلومات وتناقش لأجل أن تُقنِع الآخر بهذا الرأي أو ذاك، لصالِح هذا الرأي أو ضدّه، ومن ثمّ يصل الباحثون إلى قرار. لكن هكذا قرار ليس باستطاعته أن يكون تعبيراً عن حقيقة مُطلقة لم ولن تتغيَّر أبداً. وهذا هو سبَب عدَم ثبات العِلم على أي قاعدة علمية للأبد… لهذا تستمر القواعد العِلمية الحديثة في إلغاء القديمة ويستمرّ العِلم باكتشاف الجديد ويتغيَّر كلّ يوم.
لا وجود لنظرية علمية حقيقية بشكلٍ مُطلَق… هي حقيقية بشكلٍ نِسبي فقط. هي اليوم حقيقية، لكن ربما تنتهي صلاحية الحقيقة التي تحويها غداً. النظرية العلمية حقيقية فرَضياً. هي أقرب ما يُمكننا تفسير ظاهرة معينة بواسطته حتى اللحظة، لكن قد يأتي الغد بحقائق علمية جديدة مختلفة تُغَيِّر رؤية وفَرَضيّة هذه النظرية. لذا يستمرّ العِلم بكوْنه تيارً جارياً ونهراً سارياً مَرِناً قابلاً للتغيير.
الدين يختلف تماماً. الحقيقة التي يكتشفها الدين هي حقيقة مُطلَقة لأن الوصول لها لم يتمّ عبر التحليل والتفكير والتفسير المنطقي. إنها حقيقة تتجَلّى. ليست اكتشافاً بين أفكار، بل اكتشاف حينما تختفي الأفكار. ليست اكتشافاً يقوم به عقلك الذي قد يُخطِىء ويُصيب، إنما اكتشاف يحدث حينما تتجاوز العقل وتُحَلِّق بعيداً جداً عنه. العمَل العلمي يتطلّب تدريب العقل بطريقة علمية مع موقف علمي وخلفية علمية. رحلة التديُّن تعني أن تضع عقلك جانباً لأجل أن تهجُرُك محتوياته التي تُعيق تحَرُّرك من نفسك. حينها فقط يكون قلبك حاضِراً في حَضرة الحقيقة الأبدية الإلهية.
لا يُمكن للدين أن يُعطي أيّة استنتاجات بالطريقة التي يُعطيها العِلم. هي ليست استنتاجات لأنها ليست نتاج عملية فكرية تحليلية. وهي ليست آراء منطقية. إنها حالات وجودية بسيطة نقيّة. الله هو الوجود. لا أحد إلا الله لأنه الوجود. هذا ليس شرحاً ولا تحليلاً ولا استنتاجاً ولا تفسيراً، لذا ليس بإمكانك أن تسأل لماذا. قد تجَلّى للوعي المتدين حقيقة الله فوقه وتحته وداخله وخارجه وفيه وفي كل مكان. لن تسأل لماذا… هو حال الكون هكذا… ليس بإمكان الحكيم إعطائك بُرهاناً ودليلاً وليس بإمكان أحد إبطال وإثبات عكس ما يقول. هكذا حقيقة تتعدّى إمكانية الإثبات والنّفي. إنها حَدسِيّة.
يجب فَهم معنى كلمة حَدس.
معنى التحليل المنطقي العلمي هو أنّ عليك أن تتعلّم كيف تفكر منطقياً وتُحَلِّل، أي أن تكتسب القدرة على التحليل الصحيح الدقيق.
أما الحدس فهو ما لم تتعلَّمه وليس باستطاعة أحد أن يُعَلِّمك إياه. إنه ذاك الذي يتدفق منك طبيعياً فطرياً عفوياً. ليس بإمكان أي مدرسة أو جامعة أو كلية أن تمنَحَك حَدساً. بإمكانها فقط تدريب عقلك. إلا أن هناك درباً لمعرفة حقيقة ما يكون. هي برحيلك عن عقلك، بتحليقك فوقه خارجه، وأن تنظُر للكون مباشرةً عندها، وجهاً لوجه دون جدارٍ عازِلٍ بينكما إسمه العقل. أن تكون المرآة التي تعكس ما هو موجود كما هو.
الوَصي هو هذه المرآة. الله ليس بعالِمٍ لأنه يُفَكِّر. الله يعلَم لأنه ببساطة المرآة صافية نقيّة. وكل إنسان بإمكانه أن يصبح المرآة. إنه درب التدين الحقيقي. أن تكون المرآة، وعياً يقِظاً لا عقل فيه… وعياً ساطِعاً لا محتوى فيه.

وهو المؤمن… إيمانه هو الإخلاص. الله هو الإخلاص والوفاء دائماً وأبداً. حتى حينما نعبَث بإخلاصنا له ونتنَكَّر له فهو لا يخون أبداً. هو لا يخون الإنسان رغم أن هذا الإنسان يخونه آلاف المرات. هو لا يُدير وجهَه عن الإنسان أبداً رغم أن وجه الإنسان يلتفِتُ دائماً في اتجاهٍ عكس مكان الله فلا يلتفت إليه ولا يتذكّره أو يبحث عنه أبداً. الله دائماً معنا وحولنا رغم أن الإنسان ليس دائماً مع الله. محَبَّتُه لك لا حدود ولا شروط لها ولا تطلُب منك أي شيءٍ بالمقابل. هو لا يتوقف عن توحيد كيانه بكيانك لتُصبِحا كُلّاً واحِداً.
بسبب الله أنت تتنفَّس، وبسببه أنت تحيا وتُحِب… بسببه أنت موجود أصلاً. هو مصدرك وجوهرك وحقيقة كيانك. هو مُخلِصٌ دائماً وأبداً وإخلاصه ليس منوطاً بالإنسان وحده… بل بالأشجار والعصافير والحيوانات والصخور. الله مخلِصٌ للوجود لأن وجوده هو الوجود.
وإنها للَحظة عظيمة حين تصبح أنت مُخلصاً له. إخلاصك هو توجيه وجهَك له، نحوه باحِثاً عنه. عندها يحدث اللقاء والوَصل والوِصال. كُن مُخلِصاً أي مؤمِناً.
وتذكّر بأن إيمان المؤمن ليس اعتقاداً. الناس تظُنّ الإعتقاد إيماناً. ليس الإعتقاد والمُعتَقَد سوى إيماناً مزيفاً. الإيمان هو الثقة الحيّة من قلب التجربة. الإعتقاد يرتدي قناع الإيمان. هو بديلٌ فكريّ لحدثٍ لا يحدث سوى في لبّ القلب. لحدثٍ لا يمكنه زيارة الرأس أبداً. لكن الرأس ماكِر مُخادِع، يدور ويدور بحْثاً عن البدائل. والألعاب كثيرة ومتوفرة في كل مكان.
الإيمان مصدره القلب أما الإعتقاد والمُعتَقَد فمصدره الرأس. حينما تشتاق للإيمان يُسارِع الرأس مانِحاً إياك مُعتَقَداً. والمعتقَد يبدو مثل الإيمان في شكله الخارجي لكنه ليس هو أبداً. لكن الإنسان يُخدَع بالمعتقَد. ملايين قد خُدِعوا. إعتقادك بالمسيحية والإسلام والهندوسية ليس إيماناً. هذه جميعها معتقدات. لكن أن تصبح مسيحاً ومحمَّداً وبوذا آخر، فهذا هو الإيمان. أن تكون مُسلماً ومسيحياً وهندوسياً فهذا مجرد اعتقاد.
سُئِل سيِّداً مستنيراً ذات يوم: “ما هو العائق الأكبر الذي يمنع نشر رسالة المسيح في العالم؟”، فأجاب بأنها المسيحية نفسها.
أن تكون المؤمن يعني أن تكون إيماناً خالصاً ناصعاً بدأ حياته بعقلٍ لا قوْلَبَة ولا تشفير فيه. يعني أن تكون الثقة. أن تهجر الرأس وترحَل عنه مسافِراً إلى أراضي القلب وواحاته الخضراء. والهِجرة من الرأس إلى القلب هي أطوَل الرحلات. أن يصل الإنسان إلى القمر والنجوم هو عملٌ أسهل من وصوله إلى قلبه الخالي من كلّ محتوى. إنها الرحلة الأصعب لأن كِلا الرأس والقلب لا يتواجَدا في ذات البُعد الكوني. أساليب وجودهما مختلفة تماماً.

هو الوَدود، والوَدود كلمة تمنح الحُب صفة القداسة فيغدو الحُب رقيقاً لطيفاً… ودوداً. الله هو المُحِب حُبّاً قُدسياً. لا يمكن لمحبّته أن تكون سوى مقدسة لا تتغيّر أبداً. وهذه هي صفة الحب الوحيدة في العالم.


صفة الحب هي القداسة. الحب مقدّس بجميع أنواعه. حتى حينما يختلط الحب بالجسد الذي يتغيّر حاله والعواطف المُتَقَلِّبة التي تأتي ثم ترحل، فهو مقدس. الحب دائماً مقدس. الحب هو طريقة الله التي يُجَسِّد نفسه عِبرها في هذا العالَم. ووحدهم مَن يبحثون عنه بعِشق، بحُب، هم الذين يصِلون. الحب جسرك للودود.

هو الحكيم القوي… العظمة وحدها له والقوة والقُدرة وحدها له. هو القادِر على كلّ شيء. قوّته وقدرته مقدسة. قد خُلِق الإنسان ضعيفاً بنفسه ومع نفسه… أما قوّته وقدرته فمِن الله يستمدّها. وما الإنسان سوى الممَرّ الذي تمُرّ من داخله هذه القوة والقُدرة فتحكي عن نفسها. لحظة اعتقاد الإنسان بأن القوة التي بين يديه هي قوّته وقدرته والفَضلُ فيها يعود له، فقد وقع في أسفل سافلين. إنها الأنا والأنا هي الخطيئة الأصلية لأنها عن الله تفصِلَك وتُبعِدك. ليست الأنا سوى الإدعاء الباطِل بأنك قوي وقادر… بأنّ قوّتك وقدرتك مصدرها أنت وأنت وحدك. إنها محاولات الأنا لثُبِتُ أمراً واحداً بطرُق مختلفة… أمرٌ واحدٌ هو أنها الأقوى ولا شيء يقفُ في وجهها. تحاول إثبات أمر قوّتها تارةً من خلال المال أو المظهَر والمكانة الإجتماعية أو الإحترام أو الفضيلة أو المعرفة… جميعها طُرق الأنا لكن الهدف واحد. الأنا تهوى إخبار الآخر، غريمك ومنافسك أو حتى صديقك: بأنني أقوى منك.
وبإمكانها ارتداء أقنعة دينية، بأنك أقدس من غيرك وأسمى وأتقى، وأنّ الفضيلة تسكن دارك بينما الرذيلة تلاحقُ جارك. إلا أن الرحلة هي نفسها… إنها رحلة السُّلطة. لا تعني الأنا سوى رحلة اتجاه السُّلطة والتسلُّط.
لكن القوة ليست قوّتك والقدرة ليست قدرتك، ولن تكون أبداً. ليس بإمكانها أن تكون لك أبداً، فقد كانت موجودة هنا قبل مجيئك إلى الأرض ولسوف تبقى هنا حينما تغادر أنت الأرض. حياتك ليست سوى لحظات في عُمر الوجود فأي قوة تلك التي تتحدث عنها. أنت تأتي الأرض زائراً… وقد أتيْتَ من مصدرٍ غيّبي مجهول، ولسوف تعود لذات المصدر المجهول.
ذلك المصدر المجهول يملك القوة وحده. الحياة بأكمَلها تتدفق منه. الوجود بأكمله تمَدَّد منه… ليس هذا الكون فقط، بل جميع الأكوان. وجميع الأكوان لا تساوي شيئاً مقارنةً بذلك المصدر. فالمصدر أكثر من كوْنه مجرّد مجموع جميع الأكوان مع بعضها. المصدر هو الله. التديُّن يعني تذكُّرك للمصدر وتجاوزك أناك فتتلاشى للأبد. لذا فلتتذكَّر دائماً: أنت لست موجود، وحده الله موجود.

وهو العَدل… العَدل عيْن المساواة. جميعُكُم في عين الله واحد. الجميع سواسِية عند الله. كلّ موجود له القيمة الوجودية ذاتها: الصخور والحيوانات والأشجار والرجل والمرأة والنجوم. لا وجود لطبقات عند الله ولا لمستويات ولا لمقامات وتدرُّجات هرمية تسلسُلية. لا وجود لأدنى وأعلى عند الله. كل شيء يساوي كل شيء. في عين الله جميعنا متساوين، ليس فقط مع بشر آخرين، إنما مع الحيوانات والطيور والصخور والأشجار أيضاً. الكيان واحد لذا فالجميع واحد.

هو الوَلي. والوَلي هو الصَّديق. أشعُر بالله صديقاً لك لأنك ليس بمختلِفٍ عنه وهو ليس بمختلفٍ عنك. لا تظنّ الله بعيداً جداً عنك تفصل بينك وبينه المسافات والسماوات فهذا ما يخلِق لك الصِّعاب. أشعُر به صديقاً يمشي إلى جانبك ويَلحَقُ بك مثل ظِلّك. يهتمُّ بك ويُحِبّك ويريدك أن تكون معه مثلما هو معك. كلاكما تُكمّلان بعضكما. هذا معنى الصداقة.
حينما يبدأ الإنسان بالنّظَر لله على أنه الصديق، تغييرٌ كبير سوف يُصيب العالم، في الفكر والدين والفلسفة. تفكيرك بالله على أنه الأب ليس بالأمر الجيد لأن عقول البشر لا تحوي فكرة جيدة عن الأب في أعماق لاوعيها. لا يوجد إبن أو بنت يحوي عقله/عقلها اللاواعي في أعماقه فكرة جيدة عن الأب. هناك نوعٌ من الخوف يدور حول مفهوم الأب. كل صبي يخاف والده لأنه يعاقبه. عليه أن ينفّد ما يقوله فالوالِد قوي وبيده سُلطة وبإمكانه أن يسيطر على إبنه أو ابنته ويتحكم فيهما. صعبٌ جداً أن تسامح والدك. وأن تدعو الله بالأب هو أمرٌ يساعد على تحطيم علاقتك به.
حين تعي الله وتتعامل معه على أنه الصديق، عندها ستفتح له قلبك وتشاركه جميع ما يُخالِج نفْسك ويَخْتَلِج في صدرك دون أيّ حدود أو قيود… لا وجود لأيّ خوف من ناحيتك. وأنت تعرف بأن الصديق الحقيقي سوف يسامحك ويدعمك ويُساندك. لن تخفي عن صديقك شيء لأنه سوف يفهمَك.

وهو الوَكيل. هو الثقة المطلقة دائماً وأبداً. الله أمنُنا وأماننا وضماننا وحمايتنا ولا أحد أو شيء غيره بإمكانه أن يكون. الأمان بالله. إنسانٌ لا يحيا والله معه في كل لحظة هو إنسان حُرِم طَعم الأمان. إنسانٌ يحيا في خوفٍ مُقيم. إنسانٌ يحيا دون رِفقة الله وصُحبته هو إنسانٌ يلاحقه القلق والشكّ على مدار لحظات حياته لأنه فاقِدٌ للثقة. كيف ستثِق والله ليس معك؟ سيبدو الجميع أعداء لك. ستحيا في قلق وشك وهَمّ وغَمّ. سيغلي بداخلك بركان.
حينما تُدير لله وجهك، حينما ترتمي بين يديْه وتسلِّم وتوكِل أمرك إليه، تولَد الثقة بداخلك شيئاً فشيئاً. يختفي العدوّ من أمامك حينها. حتى الموت لن يكون عدوّك بعدها. والله معك لا وجود للموت. الموت سوف يوَدِّعُك. عندها يرحل خوفك عنك، خوفك من كلِّ أو أيِّ شيءٍ للأبد.
وقتَها أنت تحيا أماناً ما بعده أمان وضماناً ما بعده ضمان. إنّ الضمان والأمان لا ينبَعا بسبب المال أو السُّلطة أو مكانتك في المجتمع. أمانك وضمانك لا يعتمدُ على حسابك في البنك. بل يعتمدُ على اتزان الميزان داخل كيانك. أمانك وضمانك يعتمد على مدى وَصْلَك بالله، على مدى توَكُّلك على الله. هذا معنى الوَكيل: الثقة المُطلقة التي ما بعدها ثقة.

هو المُعيد يُعيد توحيد الموجود بالوجود… فالحُبّ يُوَحِّد دون كلَل أو ملَل… يُعيد صَهرَك ومَزجَك وتوحيدكَ بنوره الحيّ حتى تعي مَن تكون… يُعيد إحياء كلّ موجود بنور الوجود. والإنسان جبان يحيا دون روح ودون ذات. يحيا على هامش الحياة لا يعلم أين مركز وجوده، أين المكان الذي بُعِثَ منه وتكوَّن نوره. هذا هو بؤسُه وهذا هو جنونه. أصواتٌ وأصوات داخل معبد الذات تنادي وتهتِف بأننا أنت وكلُّ صوتٍ يُغنّي على ليْلاه. وجوهٌ ووجوه يلبِسها ويستمر في تغييرها. وجوهٌ ووجوهٌ في ذهابٍ وإياب. تارة تعتَلي نفْسُه الغاضبة عرش الكيان،


فيغضب ويثور كالبركان، وتارةً تعتليه غيرها من النفوس فيتغيّر ويتبدّل الحال. على هذا المنوال يحيا الإنسان، نفسٌ فيه تُقَرِّر أمراً من الأمور ثم تأتي أخرى لتُلغي الأمر وتُغَيِّر مجرى الأمور. إنها حرب الإنسان.
ما لم تنمو المحبة ناصعة صافية شفافة، يبقى مركزك داخلك مُظلِماً فلا ترى مِن أين جئتَ ومَن الذي بعَثَك. هذه الأسرار تسكُن في لُبِّك. إنها مركزك. مع المحبة ينهَض بداخلك وعيٌ متَجَرِّدٌ عن جميع الأطراف المتنازعة داخلك. لهذا تغدو المحبة فنائك، لأنها مفصولة عن جميع ما يدور داخل محرابك.
والمُعيد يُعيدك إلى نفسك إلى مركزك مرّة بعدها مرّة… وسوف يُعيدك ويُعيدك إلى نفسك مراراً وتكراراً إلى أن تعي مَن أنت ومَن تكون.

وهو الشَّكور… وعليك أن تتعلَّم فنّ الشُّكر والحَمد والإمتنان. كُن شكوراً مُمتَنّاً لجميع ما أوجَدَهُ الله، لجميع ما فعله من خلالك. لا تُبارِح شعور الإمتنان ولا تُفارِقْهُ ولو للحظة من عمرك. وأولى أفكارك وأحوالك حينما تستيقظ صباحاً وحينما تخلُد إلى النوم مساءً، وما بينهما يجب أن تكون شُكراً وامتنان. أشعُر بامتنانٍ لله إن رأيتَ شجرةً جميلة أو غيمةً بديعة.
جميع هذه العطايا الخلابة التي لا تنتهي هي هبة الله وهديته لنا، الشروق والغروب، الأزهار والطيور، حياتنا الغالية وقدرتنا على أن نُحِب ونُحَب. بين أيدينا جميع ما نحتاجه ونحن حتى لم نطلبه. قد منحَنا الله إياه دون قيدٍ ولا شروط.
النفْس المُمتَنّة في كل لحظاتها هي نفْسٌ تسيرُ نحو الصمت والسكون، نحو الفناء.

هو الأوَّل والآخِر. هو الأوَّل قبل الساعات والأيام والسنون والقرون. هو الأول قبل الزمان. هو الأول قبل الأزل. وهو الآخِر أيضاً بعد الإنتهاء والأبَد. الله هو الأول والآخر، هو المصدر والهدف، هو الجِذْر والزهرة. الله هو الكلّ وكلُّ شيءٍ هو الله. هو البداية والنهاية. هو اللابداية واللانهاية.
الله أساس بنيانك. هذا معنى الأوَّل… هو الإبتداء وهو بداية الحكاية. هو بُنيانك ومصدرك. منه بُعِثْت وإليه تعود فهو آخِرك، لذا أنت مقدس… أنت نفحة إلهية مُحالٌ أن تفقِد قداستها. فالقداسة الإلهية هي كل ما هو موجود في الوجود ولا شيء سواها. حتى وإن حاوَلْت فُقدانها، لن تستطيع. إنها طبيعتك. وحالما تتّضِح هذه الرؤية لك ويتشرّبها قلبك سيجتاحك تحوُّلاً كبيراً يُنير حياتك.

ماريا
03-08-2021, 01:46
ماشاء الله بارك الله فيك شيخنا