أبو شاهين
11-03-2021, 21:53
سورة آل عمران
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))
(الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) مرّ تأويله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : رقّاك رتبة فرتبة ، ودرجة فدرجة ، بتنزيل الكتاب عليك منجما إلى العلم التوحيدي الذي هو الحق باعتبار الجمع المسمّى بالعقل القرآني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوحيد الأزليّ السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) هكذا ثمّ (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : التوحيد التفصيليّ الذي هو الحق باعتبار الفرق المسمّى بالعقل الفرقانيّ ، وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان التي هي آيات التوحيد في الحقيقة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في البعد والحرمان (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : قاهر (ذُو انْتِقامٍ) لا يقدر وصفه ولا يبلغ كنهه ولا يقدر على مثله ، منتقم (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) في العالمين ، فيعلم مواقع الانتقام (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحدا (هُنَّ أُمُ) أي : أصل (الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) تحتمل معنيين فصاعدا ويشتبه فيها الحق والباطل ، وذلك أنّ الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا يحتمل التكثر والتعدّد ، وله وجوه متكثرة إضافية متعدّدة بحسب مرائي المظاهر. وهي ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد ، يلتبس فيها الحق بالباطل ، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل بما يناسبه ، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأمّا العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه الباقي في أية صورة وأي شكل كان ، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها المتشابهات فيردونها إلى المحكمات وأمّا المحجوبون (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ) لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم ، ويتبعونه المتشابه ، فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلب الضلال والإضلال الذي هم بسبيله (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بما يناسب حالهم وطريقتهم.
فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه ، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من المعاني ، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) العالمون ، يعلمون بعلمه ، أي : إنما يعلمه الله جميعا وتفصيلا (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) يصدّقون علم الله به ، فهم يعلمون بالنور الإيماني (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لأن الكلّ عندهم معنى واحد غير مختلف (وَما يَذَّكَّرُ) بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجرّدت عن قشر الهوى والعادة.
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))
(رَبَّنا لا تُزِغْ) عن التوجه إلى جنابك ، والسعي في طلب لقائك ، والوقوف ببابك ، بالافتتان بحبّ الدنيا وغلبة الهوى ، والميل إلى النفس وصفاتها ، والوقوف مع حظوظها ولذاتها (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنورك إلى صراطك المستقيم ، والدين القويم ، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) رحيمية تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي : يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين ، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بل هي سبب حجابهم وبعدهم من الله وتعذيبهم بعذابه لشدّة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ) القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى) هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحقّ. ترى الفئة الأولى ، مع قلّة عددهم ، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأيد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره ، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين للقائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي : اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلميّ من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) لأن الإنسان مركب من العالم العلويّ والسفليّ ، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية ، والماء الأجاج من اللذّات الحسيّة ، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية ، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به ، مبلوّا بأنواع النصب والتعب ، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل ، وداع ينادينه من الهوى والشيطان ، فتبعه فصادف منزلا نزها ، وروضة أنيقة ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا
والداعي قد هيئ له القرى ، فذلك حبّ الشهوات ، أي : المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفليّ ، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها ، بحسب ما فيه من العالم العلويّ ، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذّ وأصفى مع ذلك وأبقى ، وهو معنى قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فإن أدركه التوفيق الإلهيّ والتنبيه السريّ ، وقارنه الإنباء النبوي كما قال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلويّ إلى مركزه ، واشتعلت ناره التي قد خمدت ، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات القدسية ، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ ، ورقّت الحجب التي منعت فطرته عن طلب المقرّ والمأوى ، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدّر ما هو عليه ، واستظلم ما كان قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحانيّ على الجسماني ، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين ، فعلم أنه كان أكمن في سرب من الأرض ، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا ، فخرج فإذا هو ببريّة فيها ماء زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها ، فظنها رياحين وثمارا ، فحبس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه ، فعزم على رحيل الأوبة وغشيته وحشة الغربة ، فانتقى ما استطاب واستحلى. ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور صبح عين اليقين ، وحان وقت طلوع شمس الوحدة ، رأى جنة تحيّر فيها بصره ودهش في وصفها عقله ، وكان ما كان مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس ، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له مثوى ومآبا ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس ، بدار القرار في جوار الملك الغفّار ، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم ، وحلّ بقلبه روح الرضا العميم ، وذلك معنى قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، فالجنّات جنّات الأفعال ، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس ، والرضوان جنّات الصفات.
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : نار الهجران ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على غصص المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه وفيه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم ونفوسهم وذواتهم (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار ، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى بالأفق الأعلى ، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم ، فلم يبق مغربا بقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) طلع الوجه الباقي ، فشهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته ، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره ، وصور كثرتها الذي هو ظلّ الوحدة في غير الجمع بإعطاء كلّ ذي حقّ بحسب استعداده واستحقاقه حقّه من جوده وكماله وتجليه فيه على قدر سعة وعائه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في المشهدين (الْعَزِيزُ) القاهر الذي يقهر كل شيء باعتبار الجمع فلا يصل إليه أحد (الْحَكِيمُ) الذي يدبر بحكمته كل شيء ، فيعطيه ما يليق به باعتبار التفصيل.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ) هو هذا التوحيد الذي قرّره بنفسه. فإنّ دينه دين إسلام الوجوه كما قال إبراهيم صلىاللهعليهوسلم : «أسلمت وجهي لله» أي : نفسي وجملتي ، وانخلعت عن أنينتي ، ففنيت فيه. وأمر الله تعالى حبيبه عليه الصلاة والسلام فيما بعد بقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١))
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : المحجوبين عن الدين (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) لكونهم محجوبين بدينهم لا يقبلون إلا ما هم عليه من التقيد والتقليد ، والأنبياء دعوهم إلى التوحيد ومنعوهم عن التقيد فقتلوهم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) من أتباعهم ، إذ العدل ظلّ التوحيد ، فمن لم يكمل له لا يمكنه العدل ، وهم قد حجبوا بتقييدهم بدينهم ، فقد حجبوا بظلمهم عن العدل فخالفوهم وقتلوهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها على دين نبيهم ، لأنهم كانوا بتقليد نبيهم ناجين بالمتابعة ، وأنبياؤهم كانوا شفعاءهم بتوسطهم بينهم وبين الله في وصول الفيض إليهم ، فإذا أنكروا النبيين وأتباعهم العادلين فقد خالفوا نبيّهم لأن الأنبياء كلهم على ملّة واحدة في الحقيقة هي ملّة التوحيد ، لا نفرّق بين أحد منهم في كونهم على الحقّ فمن خالف واحدا فقد خالف الكلّ ، وكذا من خالف أهل العدل من أتباع النبيين فقد ظلم ، ومن ظلم فقد خرج بظلمه عن المتابعة وأيضا فمنكر الاتباع منكر المتبوعين ، ومنكر الظلّ منكر الذات خارج عن نورها. وإذا خالفوا نبيّهم لم يبق بينهم وبينه من الوصلة والمناسبة ما تمكن به الاستفاضة من نوره ، فحجبوا عن نوره وكانت أعمالهم منوّرة بنوره لأجل المتابعة ، لا نور ذاتيّ لها ، إذ لم تكن صادرة عن يقين ، فإذا زال نورها العارضي باحتجابهم عن نبيهم فقد أظلمت وصارت كسائر السيئات من صفات النفس الأمّارة ، وفيه ما سمعت غير مرّة من قتل كفار قوى النفس الأمّارة أنبياء القلوب والآمرين بالقسط من القوى الروحانية.
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) تملك ملك عالم الأجسام مطلقا ، تتصرّف فيه لا مالك ولا متصرّف ولا مؤثر فيه غيرك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تجعله متصرّفا في بعضه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) بجعل التصرّف في يد غيره ولا غير ثمة بل تقلّبه من يد إلى يد ، فأنت المتصرّف فيه على كل حال بحسب اختلاف المظاهر (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإلقاء نور من أنوار عزّتك عليه فإنّ العزّة لله جميعا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب لباس عزّتك عنه فيبقى ذليلا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله ، وأنت القادر مطلقا ، تعطي على حسب مشيئتك ، تتجلى تارة على بعض المظاهر بصفة العز والكبرياء ، فتكسوه لباس العز والبهاء ، وتارة بصفة القهر والإذلال فتكسوه لباس الهوان والصغار ، وتارة بصفة المعز فتكون مذلا ، وتارة بصفة المذلّ فتكون معزا ، وتارة بصفة الغني فتعطي المال ، وتارة بصفة المغني فتفقره ، أي : تجعله مستغنيا عن المال ، فقيرا لا يحتاج إلى شيء.
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم ، وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير بخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما (وَتُخْرِجُ الْحَيَ) أي : حيّ القلب (مِنَ الْمَيِّتِ) أي : من ميت النفس ، وميت النفس من حيّ القلب ، بل تخرج حيّ العلم والمعرفة من ميت الجهل ، وتخرج ميت الجهل من حيّ العلم تحجبه عن النور ، كحال بلعم بن باعوره (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من النعمة الظاهرة والباطنة جميعا ، أو من إحداهما (بِغَيْرِ حِسابٍ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إذ لا مناسبة بينهم في الحقيقة ، والولاية لا تكون إلّا بالجنسية والمناسبة ، فحينئذ لا يمكن أن تكون المحبة بينهم ذاتيّة ، بل مجعولة مصنوعة بالتصنع والرياء والنفاق وهي خصال مبعدة عن الحق إذ كلها حجب ظلمانية ولو لم يكن فيهم ظلمة تناسب حال الكفرة ما قدروا على مخالطتهم ومصاحبتهم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي : من ولاية الله في شيء ، معتدّ به ، إذ ليس فيهم نورية صافية يناسبون بها الحضرة الإلهية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي : إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب أن يتقى ، فتوالوهم ظاهرا ليس في قلوبكم شيء من محبّتهم ، وذلك أيضا لا يكون إلا لضعف اليقين. إذ لو باشر قلوبهم اليقين لما خافوا إلا الله تعالى وشاهدوا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) فما خافوا غيره ولم يرجوا غيره ، ولذلك عقبه بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي : يدعوكم إلى التوحيد العياني كي لا يكون حذركم من غيره بل من نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تحذروا إلا إيّاه فإنه المطلع على أسراركم وعلانياتكم ، القادر على مجازاتكم إن توالوا أعداءه أو تخافوهم سرّا أو جهرا.
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) الآية ، كل ما يعمله الإنسان أو يقوله يحصل منه أثر في نفسه وتنتقش نفسه به وإذا تكرر صار النقش ملكة راسخة ، وكذا ينتقش في صحائف النفوس السماوية ، لكنه مشغول عن هيئات نفسه ونقوشها بالشواغل الحسيّة والإدراكات الوهمية والخيالية ، لا يفرغ إليها ، فإذا فارقت نفسه جسدها ولم يبق ما يشغلها عن هيئاتها ونقوشها وجدت ما عملت من خير أو شرّ محضرا ، فإن كان شرّا تتمنى بعد ما بينها وبين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذيبها به ، فتصير تلك الهيئات والنقوش صورتها إن كانت راسخة وإلا وجدت جزاءها بحسبها وتكرّر (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فلذا يحذرهم عن السيئات تحذير الوالد المشفق ولده عمّا يوبقه.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) لما كان عليه الصلاة والسلام حبيبه فكل من يدّعي المحبة لزمه اتباعه لأن محبوب المحبوب محبوب ، فتجب محبة النبيّ ، ومحبته إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة وعقيدة ، ولا تمشي دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهره وطريقته طلسم المحبة ، فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب ، وإذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسرّه وقلبه ونفسه باطن النبيّ صلىاللهعليهوسلم وسرّه وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة. فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا المتابع قسط من محبّة الله تعالى بقدر نصيبه من المتابعة ، فيلقي الله تعالى محبته عليه ويسري من باطن روح النبي صلىاللهعليهوسلم نور تلك المحبة إليه ، فيكون محبوبا لله ، محبّا له ، ولو لم يتابعه لخالف باطنه باطن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فبعد عن وصف المحبوبية وزالت المحبية عن قلبه أسرع ما يكون ، إذ لو لم يحبّه الله تعالى لم يكن محبّا له (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) كما غفر لحبيبه. قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وذنبه المتقدّم ذاته ، والمتأخر صفاته ، فكذا ذنوب المتابعين كما قال تعالى : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ ...» إلى آخر الحديث. (وَاللهُ غَفُورٌ) يمحو ذنوب صفاتكم وذواتكم (رَحِيمٌ) يهب لكم وجودا وصفات حقانيّة خيرا منها. ثم نزل عن هذا المقام لأنه أعزّ من الكبريت الأحمر.
ودعاهم إلى ما هو أعمّ من مقام المحبة ، وهو مقام الإرادة فقال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي : إن لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبي فلا أقل من أن تكونوا مريدين ، مطيعين لما أمرتم به ، فإن المريد يلزمه متابعة الأمر وامتثال المأمور به (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي : إن أعرضوا عن ذلك أيضا ، فهم كفّار منكرون محجوبون ، والله لا يحب من كان كافرا. فبترك الطاعة يلزم الكفر ، وبترك المتابعة لا يلزم ، لأنّ تارك المتابعة يمكن أن يكون مطيعا بمتابعة الأمر. ومعنى أطيعوا الله والرسول : أطيعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الاصطفاء أعمّ من المحبة والخلة ، فيشمل الأنبياء كلهم لأنهم خيرة الله وصفوته ، وتتفاضل فيه مراتبهم ، كما قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) ، فأخص المراتب هو المحبة ، وأشار إليه بقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (٢) فلذلك كان أفضلهم حبيب الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ثم الخلّة التي هي صفة إبراهيم عليهالسلام ، وأعمها الاصطفاء ، أي : صفة آدم عليهالسلام (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في الدين والحقيقة ، إذ الولاية قسمان : صورية ومعنوية ، وكل نبيّ يتبع نبيّا آخر في التوحيد والمعرفة ، وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ في زماننا هذا. وكما قيل : الآباء ثلاثة : أب ولدك ، وأب رباك ، وأب علمك. فكما أن وجود البدن في الولادة الصورية يتولد في رحم أمّه من نطفة أبيه ، فكذلك وجود القلب في الولادة الحقيقية يظهر في رحم استعداد النفس من نفحة الشيخ والمعلم. وإلى هذه الولادة أشار عيسى عليهالسلام بقوله : «لن يلجّ ملكوت السموات من لم يولد مرتين».
واعلم أنّ الولادة المعنوية أكثرها يتبع الصورية في التناسل ، ولذلك كان الأنبياء في الظاهر أيضا نسلا ، ثم ثمر شجرة واحدة ، فإن عمران بن يصهر أبا موسى وهارون كان من أسباط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وعمران بن ماثان أبا مريم أم عيسى عليهالسلام كان من أسباط يهود ابن يعقوب ، وكون محمد عليه الصلاة والسلام من أسباط إسماعيل بن إبراهيم مشهور وكذا كون إبراهيم من نوح عليهالسلام. وسببه أنّ الروح في الصفاء والكدورة يناسب المزاج في الاعتدال وعدمه وقت التكوّن ، فلكلّ روح مزاج يناسبه ويخصّه ، إذ الفيض يصل بحسب المناسبة وتفاوت الأرواح في الأزل بحسب صنوفها ومراتبها في القرب والبعد ، فتتفاوت الأمزجة بحسبها في الأبد لتتصل بها. والأبدان المتناسلة الأرواح من بعض متشابهة في الأمزجة على الأكثر ، اللهمّ إلا لأمور عارضة اتفاقية ، فكذلك الأرواح المتصلة بها متقاربة في الرتبة ، متناسبة في الصفة. وهذا مما يقوي أن المهديّ عليهالسلام من نسل محمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَاللهُ سَمِيعٌ) حين قالت امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) إلى قولها : (الْعَلِيمُ) بنيتها كما شهدت بقولها (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). واعلم أن النيّات وهيئات النفس مؤثرة في نفس الولد ، كما أن الأغذية مؤثرة في بدنه. فمن كان غذاؤه حلالا طيبا وهيئات نفسه نورية ونيّاته صادقة حقانيّة ، جاء ولده مؤمنا صديقا أو وليّا أو نبيّا. ومن كان غذاؤه حراما وهيئات نفسه ظلمانية خبيثة ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقا أو كافرا خبيثا. إذ النطفة التي يتكوّن الولد منها متولدة من ذلك الغذاء ، مربّاة بتلك النفس ، فتناسبها. ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليه وسلم : «الولد سرّ أبيه» ، فكان صدق مريم ونبوّة عيسى عليهماالسلام بركة صدق أبيها (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يجوز أن يراد به الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله ، إذ الاختصاص بالعندية يدلّ على كونها من الأرزاق اللدنيّة (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) كان زكريا شيخا هرما ، وكان مقدّما للناس ، إماما ، طلب من ربّه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم كما أشار إليه في سورة (كهيعص) فوهب له يحيى من صلبه بالقدرة ، بعد ما أمر باعتكاف ثلاثة أيام ولك التأويل بالتطبيق على أحوالك وتفاصيل وجودك كما علمت ، وهو أنّ الطبيعة الجسمانية ، أي : القوة البدنية. امرأة عمران الروح نذرت ما في قوّتها من النفس المطمئنة لله تعالى بانقيادها لأمر الحق ومطاوعتها له ، فوضعت أنثى النفس فكفلها الله ، زكريا الفكر ، بعد ما تقبلها لكونها زكيّة ، قدسيّة ، فكلما دخل عليها زكريا الفكر محراب الدماغ وجد عندها رزقا من المعاني الحدسيّة التي انكشفت عليها بصفائها من غير امتياز الفكر إيّاها. فهنالك دعا زكريا الفكر ، تركيب تلك المعاني واستوهب من الله ولدا طيبا مقدّسا عن لوث الطبيعية ، فسمع الله دعاءه ، أي : أجاب ، فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم بأمره في تركيب المعلومات ، يناجي ربّه باستنزال الأنوار ، ويتقرّب إليه بالتوجه إلى عالم القدس في محراب الدماغ.
(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) العقل بالفعل (مُصَدِّقاً) بعيسى القلب ، مؤمنا به ، وهو كلمة من الله لتقدّسه عن عالم الإجرام والتولّد عن الموادّ (وَسَيِّداً) لجميع أصناف القوى (وَحَصُوراً) مانعا نفسه عن مباشرة الطبيعة الجسمانية وملابسة طبائع القوى البدنية (وَنَبِيًّا) بالإخبار عن المعارف والحقائق الكلية ، وتعليم الأخلاق الجميلة ، والتدابير السديدة بأمر الحق (مِنَ الصَّالِحِينَ) من جملة المفارقات والمجرّدات التي تصلح بأفعالها أن تكون من مقرّبي حضرة الله تعالى بعد أن بلغ الفكر كبر منتهى طوره ولم يكن منتهيا إلى إدراك الحقائق القدسية ، والمعارف الكلية. وكانت امرأته التي هي طبيعة الروح النفسانية لأنها محل تصرّف الفكر عاقرا بالنور المجرّد.
وعلامة ذلك ، أي : علامة حصول النور المجرّد وظهوره من النفس الزكيّة ، إمساكه عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول لذّاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام ، كلّ يوم عقد تامّ من أطوار عمره عشر سنين ، إلا أن يرمز إليهم بإشارة خفيّة ، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن يدنو منهم في مقاصدهم ، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من ابتداء سنّ التمييز ، الذي هو العشر الأول ، بذكر ربّه في محراب الدماغ والتسبيح المخصوص به دائما. وكذا قالت ملائكة القوى الروحانية لمريم لنفس الزكية الطاهرة.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لتنزّهك عن الشهوات (وَطَهَّرَكِ) عن رذائل الأخلاق والصفات المذمومة (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ) نفوس الشهوانية الملونة بالأفعال الذميمة والملكات الرديئة (يا مَرْيَمُ) أطيعي لربك بوظائف الطاعات والعبادات (وَاسْجُدِي) في مقام الانكسار والذلّ والافتقار والعجز والاستغفار (وَارْكَعِي) في مقام الخضوع والخشوع مع الخاضعين.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : أحوال غيب وجودك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا نبيّ الروح (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى القوى الروحانية والنفسانية ، أي : في رتبتهم ومقامهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يتسابقون في سهامهم ويتبادرون في حظوظهم أيهم يدبر مريم النفس ويكفلها بحسب رأيه ومقتضى طبعه يترأس عليها ويأمرها بما يراه من مصلحة أمره (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) في مقام الصدور الذي هو محل نزاع القوى الروحانية والنفسانية ومحل نزاعهم الذي هو الصدر (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون ويتجاذبون في طلب الرياسة عند ظهوره قبل الرياضة وفي حالها ، إذ غلبت ملائكة القوى الروحانية بتوفيق الحق بعد الرياضة. وقالت لمريم النفس : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) القلب موهوبا (مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) لأنه يمسحك بالنور (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) لإدراكه الجزئيات وتدبير مصالح المعاش أجود وأصفى وأصوب ما يكون ، فيطيعه ويذعن له ، ويحتشمه ويعظمه ، أنس القوى الظاهرة وجنّ القوى الباطنة (وَ) في (الْآخِرَةِ) لإدراكه المعاني الكليّة والمعارف القدسيّة وقيامه بتدبير المعاد والهداية إلى الحق ، فنعطيه ملكوت سماء الروح ، ونكرمه. ومن جملة مقربي حضرة الحق قابلا لتجلياته ومكاشفاته (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) في مهد البدن (وَكَهْلاً) بالغا إلى قرب طور شيخ الروح ، غالبا عليه بياض نوره (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) لمقام المعرفة.
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب النفس من حملها وولادتها من غير أن يمسها بشر ، أي من غير تربية شيخ وتعليم معلم بشري ، وهو معنى بكارتها (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : يصطفي من شاء بالجذب والكشف ويهب له مقام القلب من غير تربية وتعليم كما هو حال المحبوبين وبعض المحبين.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))
(وَيُعَلِّمُهُ) بالتعليم الربانيّ ، كتاب العلوم المعقولة ، وحكم الشرائع ، ومعارف الكتب الإلهية من التوراة والإنجيل ، أي معارف الظاهر والباطن (وَرَسُولاً) إلى المستعدّين الروحانيين من أسباط يعقوب الروح (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تدلّ على أني آتيكم من عنده (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) بالتربية والتزكية والحكمة العملية من طين نفوس المستعدّين الناقصين (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الطائر إلى جناب القدس من شدّة الشوق (فَأَنْفُخُ فِيهِ) من نفث العلم الإلهيّ ونفس الحياة الحقيقية بتأثير الصحبة والتربية (فَيَكُونُ طَيْراً) أي : نفسا حيّة طائرة بجناح الشوق والهمة إلى جناب الحقّ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) المحجوب عن نور الحق الذي لم تنفتح عين بصيرته قط ولم تبصر شمس وجه الحق ولا نوره ولا يعرف أهله بكحل نور الهداية (وَالْأَبْرَصَ) المعيوب نفسه بمرض الرذائل والعقائد الفاسدة ومحبّة الدنيا ولوث الشهوات بطب النفوس (وَأُحْيِ) موتى الجهل بحياة العلم (بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) تتناولون من مباشرة الشهوات واللذّات (وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي : في بيوت غيوبكم من الدواعي والنيّات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي : من توراة علم الظاهر (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) من أنوار الباطن (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) بدليل (مِنْ رَبِّكُمْ) هو التوحيد الذي لم يخالفني فيه نبيّ قط (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفتي ، فإني على الحق (وَأَطِيعُونِ) في دعوتكم إلى التوحيد.
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣))
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) القلب من القوى النفسانية (الْكُفْرَ) الاحتجاب والإنكار والمخالفة (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : اقتضى من القوّة الروحانية نصرته عليهم في التوجه إلى الله (قالَ الْحَوارِيُّونَ) أي : صفوته وخالصته من الروحانيات المذكورة (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ) بالاستدلال وبالتنوّر بنور الروح (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) مذعنون منقادون (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من علم التوحيد وفيض النور (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين لك ، المراقبين لأمرك ، أو من الشاهدين على وحدانيتك.
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))
(وَمَكَرُوا) أي : الأوهام والخيالات في اغتيال القلب وإهلاكه بأنواع التسويلات (وَمَكَرَ اللهُ) بتغليب الحجج العقلية ، والبراهين القاطعة عن تخيلاتها وتشكيكاتها ورفع عيسى القلب إلى سماء الروح ، وألقى شبهه على النفس ليقع اغتيالهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ غلب مكره. وقال لعيسى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي : قابضك إليّ من بينهم (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي : إلى سماء الروح في جواري (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ) رجز جوار (الَّذِينَ كَفَرُوا) من القوى الخبيثة ومكرهم وخبث صحبتهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) من الروحانيين (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من النفسانيات إلى يوم القيامة الكبرى والوصول إلى مقام الوحدة (ثُمَ) يومئذ (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) بالحق (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) قبل الوحدة من التجاذب والتنازع الواقع من القوى. فأقرّ كلا في مقرّه هناك وأعطيه ما يليق به من عندي فيرتفع التخالف والتنازع.
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بالحرمان عن مقام القلب ، والاحتجاب بهيئات أعمالهم (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) من الروحانيات (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من أنواع التزكية والتحلية والتصفية في إعانة القلب على النفس ومتابعته في التوجه إلى الحق (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من الأنوار القدسية والإشراقات الروحية عليهم (وَاللهُ لا يُحِبُ) الذين ينقصون الأجور من الحقوق.
وأما التأويل بغير التطبيق ، فهو أنهم مكروا ببعث من يغتال عيسى عليهالسلام ، فشبّه لهم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله عليهالسلام بصورة حقيقة عيسى ، فظنوها عيسى فقتلوها وصلبوها ، والله رفع عيسى عليهالسلام إلى السماء الرابعة لكون روحه عليهالسلام فائضا من روحانية الشمس ، ولم يعلموا لجهالتهم أنّ روح الله لا يمكن قتله. ولما تيقن حاله قبل الرفع قال لأصحابه : «إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماويّ» ، أي : أتطهر من عالم الرجس ، وأتصل بروح القدس الواهب الصور ، المفيض للأرواح والكمالات ، المربي للناس بالنفث في الروح ، فأمدّكم من فيضه. وكان إذ ذاك لا تقبل دعوته ولا يتبع مثله ، فأمر الحواريين بالتفرّق بعده في البلاد والدعوة إلى الحق ، فقالوا : كيف ذاك إذا لم تكن معنا؟ والآن أنت بين أظهرنا ولا تجاب دعوتنا؟ قال : «علامة إمدادي إيّاكم قبول الخلق دعوتكم بعدي». فلما رفع لم يدع أصحابه أحدا إلا أجابهم ، وظهر لهم القبول في الخلق ، وعلت كلمتهم ، وانتشر دينهم في أقطار الأرض. ولما لم يصل إلى السماء السابعة التي عرّج بمحمد صلىاللهعليهوسلم إليها ، المعبر عنها ب «سدرة المنتهى» أعني : مقام النهاية في الكمال ، ولم ينل درجة المحبة ، لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسمانية ، يتبع الملّة المحمدية لنيل درجتها ، والله أعلم بحقائق الأمور.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) أي : إنّ صفته عند الله في إنشائه بالقدرة من غير أب (كَمَثَلِ آدَمَ) في إنشائه من غير أبوين. واعلم أنّ عجائب القدرة لا تنقضي ولا قياس ثمة على أن لتكوّن الإنسان من غير الأبوين نظيرا من عالم الحكمة ، فإن كثيرا من الحيوانات الناقصة الغريبة الخلقة تتولد خلقا في ساعة ، ثم تتناسل وتتوالد ، فكذا الإنسان ، يمكن حدوثه بالتولد في دور من الأدوار ، ثم بالتولد ، وكذا التكوّن من غير أب ، فإنّ منيّ الرجل أحرّ كثيرا من منيّ المرأة ، وفيه القوة العاقدة أقوى كما في الإنفحة بالنسبة إلى الجبن ، والمنعقدة في منيّ المرأة أقوى ، كما في اللبن فإذا اجتمعا تمّ العقد وانعقد ، ويتكوّن الجنين. فيمكن وجود مزاج إناثيّ قوي يناسب المزاج الذكوري كما يشاهد في كثير من النسوان ، فيكون المتولد في كليتها اليمنى بمثابة منيّ الذكر لفرط حرارته بمجاورة الكبد لمن مزاج كبدها صحيح قويّ الحرارة ، والمتولد في كليتها اليسرى بمثابة منيّ الأنثى فإذا احتملت المرأة لاستيلاء صورة ذكورية على خيالها في النوم واليقظة بسبب اتصال روحها بروح القدس وبملك آخر ، ومحاكاة الخيال ، ذلك كما قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١) سبق المنيّان من الجانبين إلى الرحم فتكون في المنصب من الجانب الأيمن قوّة العقد أقوى ، وفي المنصب من الجانب الأيسر قوّة الانعقاد ، فيتكوّن الجنين ويتعلق به الروح. وقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى نفخ الروح وكونه من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة ، كخلق الجسد ، فيتناسب آدم وعيسى بما ذكر في اشتراكهما في خرق العادة وبكون جسديهما مخلوقين من تراب العناصر ، مسبوقين بمادة ومدة وكون روحهما مبدعا من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة.
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١))
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي : في عيسى ، الآية. إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك من تحرّك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا. فإذا اتصل نفس قدسيّ به أو ببعض أرواح أجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليهالسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي : ليس عيسى من الإلهية في شيء ، فلا يستحق العبادة بمجرد تجرّد ذاته ، فإن عالم الملكوت والجبروت كله كذلك.
(سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي : لم يختلف في كلمة التوحيد نبي ولا كتاب قط (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) الآية. الاستنباء لا يكون إلا بعد مرتبة الولاية والفناء في التوحيد. ما ينبغي لبشر محا الله بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقّانيا قابلا للكتاب والحكمة الإلهية ، ثم يدعو الخلق إلى نفسه ، إذ الداعي إلى نفسه يكون محجوبا بالنفس كفرعون وأضرابه من الذين علموا التوحيد وما وجدوه حالا وذوقا ، ولم يصلوا إلى العيان ونفوسهم باقية ما ذاقت طعم الفناء ، فاحتجبوا بها ، فدعوا الخلق إلى نفوسهم وهم ممن قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ».
(وَلكِنْ) يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) منسوبين إلى الربّ لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله ، أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بتعبد معين والتقيد بصورة ، فإنه حجاب وكفر ولا يأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالاحتجاب بعد إسلامكم الوجود لله. (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) إلى آخره ، إن بين النبيين تعارفا أزليّا بسبب كونهم أهل الصف الأول ، عرفاء بالله ، وكل عارف يعرف مقام سائر العرفاء ومتعهدهم من الله بعهد التوحيد عامّ لبني آدم ، كما ذكر ، وعهد النبيين خاص بهم وبمن يعرفهم بحق المتابعة ، فقد أخذ الله من النبيين عهدين أحدهما ما ذكر في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (١) إلى آخره. وثانيهما ما ذكر في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)) (٢) وهو عهد التعارف بينهم ، وإقامة الدين ، وعدم التفرّق به بتصديق بعضهم بعضا ودعوة الحق إلى التوحيد ، وتخصيص العبادة بالله تعالى ، وطاعة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتعريف بعضهم بعضا إلى أممهم وخصوصة بسبب أن معرفة الله تعالى في صورة التفاصيل ، وحجب الصفات ، وتكثر المظاهر أدق وأخفى من معرفته في عين الجمع وهم من رزق حق المتابعة عارفون بذلك وبأحكام تجلّيات الصفات التي هي الشرائع خاصة دون من عداهم.
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما علم عهد الله مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد الله إليهم (فَأُولئِكَ هُمُ) الخارجون عن دين الله ولا دين غيره معتد به في الحقيقة إلا توهما (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) وكلّ من في السموات والأرض يدين بدينه (طَوْعاً) كما عدا الإنسان والشيطان (وَكَرْهاً) كالإنسان والشيطان إذ الكفر لا يسع موجودا سواهما ، فكلهم ممتثلون لما أمرهم الله ، طائعون. والإنسان لاحتجابه بإرادته ونسيانه عهد الله وقبوله لدعوة الشيطان لمناسبته إياه بالظلمة النفسانية لا يؤمن ولا ينقاد إلا كرها ، اللهمّ إلا من عصمه الله واجتباه ، والشيطان لاحتجابه بعجبه وأنيته في قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (٣) وإبائه ، واستكباره كفر ، وهو مع ذلك يعلم عصيانه ويؤمن كرها ، ويتحقق أن كفره بإرادته تعالى وذلك عين الإيمان ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)) (٤) ، وقال تعالى :
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)) ، وفي موضع آخر : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (٢) ، فهذه الآيات دالة على إيمانه ولكن حين لا ينفعه (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في العاقبة ، فلا يبقى دين غير دين الله بل الكلّ عند الرجوع يدين بدينه.
كلّ يدين بدين الحق لو فطنوا
وليس دين لغير الحق مشروع
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً)
المراد من الإسلام هاهنا : التوحيد الذي هو دين الله في قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) وهو المذكور في الآية التي قبلها ، وما وصف شموله لجميع الأديان ويلزمه الانقياد التام الطوعي المذكور في فاصلة الآية بقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٣) ، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لعدم وصول دينه إلى الحق تعالى لمكان الحجاب (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا باشترائهم أنفسهم وما حجبوا به بالحق.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) إلى آخره ، أنكر هدايته تعالى لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقيّة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأيقنوا بحيث لم يبق لهم شك ، وانضمّ إليه الاستدلال العقليّ بالبينات ثم ظهرت نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق لشؤم ظلمهم وقوّة استيلاء نفوسهم الأمّارة عليهم الذي هو غاية الظلم ، فقال : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق ، وقبول النور وهم قسمان : قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمّارة على قلوبهم فيهم وتمكنت وتناهوا في الغيّ والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول ، وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ولم يصر على قلوبهم رينا ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق ، فيندموا ويستحيوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى آخره.
وإلى الثاني بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بالمواظبة على الأعمال والرياضات ما أفسدوا (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) إذ لا تقبل هناك إلا الأمور النورانية الباقية لأن الآخرة هي عالم النور والبقاء ، فلا وقع ولا خطر للأمور الظلمانية فيها الفانية. وهل كان سبب كفرهم واحتجابهم إلا محبّة هذه الفواسق الفانية؟ ، فكيف تكون سبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وندبتهم وهي بعينها سبب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم وحرمانهم.
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) كلّ فعل يقرّب صاحبه من الله فهو برّ ، ولا يمكن التقرّب إليه إلا بالتبرّي عما سواه ، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به وأشرك شركا خفيّا لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (١) وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه وهي : محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق. فإن آثر الله به على نفسه وتصدّق به وأخرجه من يده ، فقد زال البعد وحصل القرب ، وإلا بقي محجوبا وإن أنفق من غيره أضعافه فما نال برّا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : العقلاء بحكم الأصل ، إذ العقل يحكم بأن الأشياء خلقت لمنافع العباد مطلقا فما يكون من جملة المطعومات خلقت لتناولها (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) الروح (عَلى نَفْسِهِ) بالنظر العقليّ عند التجربة والقياس ومعرفة مضارها ومنافعها على التفصيل بعد الحكم الإجمالي بحلها ، فإن العقل يحكم بحرمة ما يضرّ أو يهلك.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : من قبل نزول الحكم الشرعي بالتوراة وسائر الكتب الإلهية وذلك أن الناس اختلفوا بعد ما كانوا أمّة واحدة على دين الحق ، كما ذكر ، فبعث الله النبيين لهدايتهم وإصلاح أحوال معاشهم ومعادهم ، وردّهم إلى الحق والاتفاق ، فما اقتضت الحكمة الإلهية بحسب أحوالهم المختلفة وطباع قلوبهم المخرّفة ونفوسهم المريضة ، حرمته من المألوفات والأشياء الصارفة عن الحق الحاجبة بينهم وبين الله ، والمهيجة للهوى والشهوات وسائر المفاسد والفتن المانعة إياهم عن كمالهم واهتدائهم حرّم عليهم.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢))
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قيل : هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ، فدحيت الأرض تحته. فالبيت إشارة إلى القلب الحقيقيّ ، وظهوره على وجه الماء تعلقه بالنطفة عند سماء الروح الحيوانيّ ، وأرض البدن وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه ، وحدوث البدن وتعيينه بألفي عام إشارة إلى تقدّمه على البدن بطورين : طور النفس ، وطور القلب. تقدّما بالرتبة ، إذ الألف رتبة تامة كما سبقت الإشارة إليه ، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكوّن البدن من تأثير ، وكون أشكاله وتخطيطاته وصور أعضائه تابعة لهيئاته فهذا تأويل الحكاية.
واعلم أن محل تعلق الروح بالبدن ، واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصوري ، وهو أول ما يتكوّن من الأعضاء ، وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون أول بيت وضع للناس (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) الصدر صورة أو أوّل متعبد ومسجد وضع للناس للقلب الحقيقي الذي ببكة الصدر المعنويّ ، وذلك الصدر أشرف مقام من النفس وموضع ازدحامات القوى المتوجهة إليه (مُبارَكاً) ذا بركة إلهية من الفيض المتصل منه بجميع الوجود والقوّة والحياة ، فإنّ جميع القوى التي في الأعضاء تسري منه أولا إليها (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) سبب هداية ونور يهتدى به إلى الله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) من العلوم والمعارف والحكم والحقائق (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي : العقل الذي هو موضع قدم إبراهيم الروح ، يعني محلّ اتصال نوره من القلب (وَمَنْ دَخَلَهُ) من السالكين والمتحيرين في بيداء الجهالات (كانَ آمِناً) من أغواء سعالى المتحيلة ، وعفاريت أحاديث النفس ، واختطاف شياطين الوهم ، وجنّ الخيالات ، واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها.
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ) هذا (الْبَيْتِ) والطواف به (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) من السالكين ، المستعدّين الصادقين في الإرادة ، القادرين على زاد التقوى ، وراحلة قوّة العزم دون من عداهم من الضعاف في الاستعداد ، القاعدين من الضعف والمرض وسائر الموانع الخلقية أو العارضة النفسانية أو البدنية (وَمَنْ كَفَرَ) أي : حجب استعداده مع القدرة وأعرض عنه بهوى النفس (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه و (عَنِ الْعالَمِينَ) كلهم ، أي : لا يلتفت إليه لبعده وكونه غير قابل لرحمته في ذلّ الحجاب ، وهو أن الحرمان مخذولا مردودا (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) بالانقطاع عما سواه ، والتمسك بالتوحيد الحقيقيّ (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم هو طريق الحق تعالى ، كما قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ، فمن انقطع إليه بالفناء في الوحدة كان صراطه صراط الله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) في بقايا وجودكم ، فإن حقّ اتقائه هو أن يتقى كما يجب ، ويحق وهو الفناء فيه ، أي : اجعلوه وقاية لكم في الحذر عن بقايا ذواتكم وصفاتكم ، فإن في الله خلفا عن كلّ ما فات (وَلا تَمُوتُنَ) إلا على حال إسلام الوجوه له ، أي : ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي : بعهده في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) مجتمعين على التوحيد (وَلا تَفَرَّقُوا) باختلاف الأهواء ، فإن التفرّق عن الحق إنما يكون باختلاف الطبائع واتباع الهوى وتجاذب القوى ، والموحد عنها بمعزل ، إذ تنوّر قلبه بنور الحق واستنارت نفسه من فيض القلب فتسالمت القوى وتصادقت.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية ، بعداء عن النور والمقاصد الكلية التي تقبل الشركة وتزال بالاتفاق في مهوى الظلمة (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالتحابّ في الله لتتنوّر بنوره (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) في الدين ، أصدقاء في الله (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) هي مهوى الطبيعة الفاسقة ومحل الحرمان والتعذيب (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالتواصل الحقيقيّ بينكم إلى سدرة مقام الروح ، وروح جنة الذات (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) بتجليات الصفات اللطيفة والإشراقات النورية (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى جماله وتجلي ذاته.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥))
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي : ليكن من جملتكم جماعة عالمون ، عاملون ، عارفون ، أولو استقامة في الدين كشيوخ الطريقة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) فإن من لم يعرف الله لم يعرف الخير ، إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يمكن للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق تعالى ، والوصول إليه ، والإضافي ما يتوصل به إلى المطلق أو الكمال المخصوص بكلّ أحد على حسب اقتضاء استعداده الخاص. فالخير المدعوّ إليه ، أما الحق تعالى ، وأما طريق الوصول.
والمعروف كل أمر واجب أو مندوب في الدين ، يتقرّب به إلى الله تعالى ، والمنكر كلّ محرّم أو مكروه يبعد عن الله تعالى ويجعل فاعله عاصيا أو مقصرا مذموما. فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة ، لم يكن له مقام الدعوة ولا مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن غير الموحد ربما يدعو إلى طاعة غير الله وغير المستقيم في الدين وإن كان موحدا ربما أمر بما هو معروف عنده ، منكر في نفس الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده ، معروف في نفس الأمر ، كمن بلغ مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق ، فكثير إما يستحلّ محرّما كبعض المسكرات والتصرّف في أموال الناس ، ويحرّم حلالا بل مندوبا كتواضع الخلق ومكافأة الإحسان وأمثال ذلك (وَأُولئِكَ هُمُ) الأخصاء بالفلاح ، الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في أرضه.
(وَلا تَكُونُوا) ناشئين بمقتضى طباعكم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعكم على طريقة واحدة (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) واتبعوا الأهواء والبدع (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ) الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة. فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة وأهواء متفرّقة ، وعادات وسيرا متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرّقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام : «لا بدّ للناس من إمام برّ أو فاجر». ولم يرسل نبي الله صلىاللهعليه وسلم رجلين فصاعدا لشأن إلا وأمر أحدهما على الآخر وأمر الآخر بطاعته ومتابعته ليتحد الأمر وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختلّ نظام المعاش والمعاد.
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنّة». وقال صلىاللهعليهوسلم : «الله مع الجماعة». ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت إلى الفساد والتفرّق الموجب لخسارة الدنيا والآخرة ، ولما نزل قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١). خطّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطّا فقال : «هذا سبيل الرشد» ، ثم خطّ عن يمينه وشماله خطوطا فقال : «هذه سبل على كلّ سبيل شيطان يدعوه إليه».
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ابيضاض الوجه عبارة عن تنوّر وجه القلب بنور الحق للتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ، وذاك لا يكون إلا بالتوحيد والاستقامة فيه بتنوّر النفس أيضا بنور القلب. فتكون الجملة متنوّرة بنور الله واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة حظوظها والإعراض عن الجهة النوريّة الحقيّة لمصادقة النفس ومتابعة الهوى في تحصيل لذاتها ، وذلك إنما يكون باتباع السبل المتفرّقة الشيطانية. (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي : احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية ، وسكنتم في ظلماتها بعد هدايتكم وتنوّركم بنور الاستعداد ، وصفاء الفطرة وهداية العقل (فَذُوقُوا) عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) التي هي روح الوصال ونور القدس وشهود الجمال (هُمْ فِيها خالِدُونَ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) لكونكم موحدين ، قائمين بالعدل الذي هو ظله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إذ لا يقدر على ذلك إلا الموحد العادل لعلمه بالمعروف والمنكر ، كما مرّ في تأويل قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١). قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «نحن النمرقة الوسطى ، بنا يلحق التأويل ، وإلينا يرجع الغالي». فيأمرون المقصر بالمعروف الذي يوصله إلى مقام التوحيد ، وينهون الغالي المحجوب بالجمع عن التفصيل وبالوحدة عن الكثرة. (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : تثبتون في مقام التوحيد الذي هو الوسط ، وكذا في كلّ تفريط وإفراط واعتدال في باب الأخلاق (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) لكانوا مثلكم.
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١))
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) لكونهم منقطعين عن أصل القوى والقدر ، كائنين في الأشياء بالنفس التي هي محل العجز والشرّ ، وأنتم معتصمون بالله ، معتضدون به ، كائنون في الأشياء بالحق الذي هو منبع القهر. فقدرتهم لا تبلغ إلا حدّ الطعن باللسان والخبث والإيذاء الذي هو حدّ قدرة النفس ونهايتها ، وقدرتكم تفوق كلّ قدرة بالقهر والاستئصال لاتصافكم بصفات الله تعالى ، فلا جرم ينهزمون منكم عند المقاتلة ولا ينصرون.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) لأنّ العزّة لله جميعا ، فلا نصيب فيها لأحد إلا لمن تخلّق بصفاته بمحو صفات البشرية ، كالرسول والمؤمنين الذين هم مظاهر عزّته ، كما قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، فمن خالفهم فهو مضادّ لصفة العزّة ، مباين للأعزاء ، فتلزمه الذلّة وتشمله على أي حال يكون ، إلا برابطة ما بينه وبين أهل العزّة كقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي : ذمّة وعهد ، وذلك يكون أمرا عارضيا لا أصل له مرتبطا برابطة مجعولة فلا تقابل صفتهم الذاتية اللازمة لهم التي هي الذلّة الناشئة من أصل نفوسهم. واستحقوا غضبا شديدا من عند الله لبعدهم وإعراضهم عن الحق ، ولزمتهم المسكنة لانقطاعهم عن الله إلى نفوسهم فوكلهم إلى أنفسهم.
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦))
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي : بالله ، ثم وصفهم بأحوال أهل الاستقامة ، أي منهم أهل التوحيد والاستقامة (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي : كل ما يصدر منكم مما يقربكم عند الله يتصل به جزاؤه ومنه لن تحرموا شيئا منه. قال الله تعالى : «من تقرب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا ، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة» ... الحديث. وقال تعالى : «أنا جليس من ذكرني ، وأنيس من شكرني ، ومطيع من أطاعني» أي : كما أطعتموه بتصفية الاستعداد والتوجه نحوه ، أطاعكم بإفاضة الفيض على حسبه والإقبال إليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالذين اتّقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية ولذاتها السريعة الزوال ، طلبا للشهوات أو رياء وسمعة في المفاخر ، وطلب محمدة الناس ، لا يطلبون به وجه الله ، وما تهلكه وتفنيه بالكليّة من ريح هوى النفس التي فيها برّ دنياتكم الفاسدة وأغراضكم الباطلة كالرياء ونحوه (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة من الله لظلمهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاك حرثهم (وَلكِنْ) كانوا أنفسهم يظلمون لأنه مسبب عن ظلمهم ، كما قيل : مهلا فيداك وكتا وفوك نفخ.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨))
(لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع عليه أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لا لغرض كما قيل في الأصدقاء نفس واحدة في أبدان متفرّقة ، فإذا كان من غير أهل الإيمان فبأن يكون كاشحا أحرى. ثم بيّن نفاقه واستبطانه العداوة بقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) إلى آخره ، إذ المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين ، لكونها ظلّ الوحدة فلا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضادّ والظلمة. فأين الصفاء والوفاق في عالمهم؟ بل ربما تتآلفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها ، فإذا لم تتحصل أغراضهم من النفع واللّذة تهارشوا وتباغضوا وبطلت الألفة التي كانت بينهم ، لكونها مسببة عن أمر قد تغير إذ النفس منشأ التغير والمنافع الدنيوية لا تبقى بحالها ، واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها بخلاف المحبة الأولى ، فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا ، هذا إذا كانت فيما بينهم ، فكيف إذا كانت بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف؟ وأنّى يتجانس النور والظلمة؟ ومن أين يتوافق العلو والسفل؟ فبينهما عداوة حقيقية وتخالف ذاتي لا تخفى آثاره كما بيّن الله تعالى بقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لامتناع اختفاء الوصف الذاتيّ. قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه». (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنه نار وهذا شرار ، ذاك أصل ، وهذا فرعه (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) دلائل المحبة والعداوة وأسبابهما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : تفهمون من فحوى الكلام.
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩))
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) بمقتضى التوحيد ، إذ الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ، ويراهم متصلين بنفسه اتصال الأحماء والأقرباء بل اتصال الأجزاء ، فينظر إليهم بنظر الرحمة الإلهية والرأفة الربانية ، ويعطف عليهم مترحما إذ يراهم أهل الرحمة شغلوا بالباطل ، وابتلوا بالقدر ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والبقاء في ظلمة النفس وتضادّ الطبع.
(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) أي بجنس الكتاب (كُلِّهِ) لشمول علمكم التوحيدي ، ولا يؤمنون للتقيد بدينهم والاحتجاب بما هم عليه (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) لنفاقهم المستجلب لأغراضهم العاجلة (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) لحقدهم الذاتي وبغضهم الكامن والباقي ظاهر.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤))
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب ، وتثبتوا على مقتضى التوحيد والطاعة (وَتَتَّقُوا) الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى ولايتهم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن المتوكل على الله ، الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره ، ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه ، والمستعين بغيره مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه.
(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من المكايد (مُحِيطٌ) فيبطلها ويهلكها ، وقد قيل : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. فالصبر والتقوى من أجمل الفضائل إن لزمتموهما تظفروا على عدوّكم.
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦))
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) الآية ... الصبر على مضض الجهاد وبذل النفس في طاعة الله ، وتحمل المكروه طلبا لرضا الله لا يكون إلا عند التقوى بتأييد الحق وتنوّره بنور اليقين ، وثباته بنزول السكينة والطمأنينة عليه ، والتقوى في مخالفة أمر الحق والميل إلى النفع والغنيمة ، وخوف تلف النفس لا تكون إلا عند انكسار النفس تحت قهر سلطان القلب والروح ، إذ الثبات والوقار صفة الروح والطيش ، والاضطراب صفة النفس ، فإذا استولى سلطان الروح على القلب وأخذ مملكته عصمه من استيلاء صفات النفس وجنودها عليه ، فيعشقه القلب ويسكن إليه لنورانيته المحبوبة لذاتها ويتقوّى به على النفس وقواها فيهزمها ويكسرها ويدفع غلبتها وظلمتها عن نفسه ، ويجعلها ذلولا مطيعة مطمئنة إليه فيزول عنها الاضطراب وتتنوّر بنوره وعند ذلك تنزل الرحمة ، ويناسب القلب ملكوت السماء في نورانيتها وقهرها لما تحتها ، ومحبتها وشوقها لما فوقها. وبذلك المناسب يصل بها ويستنزل قواها وأوصافها في أفعاله خصوصا عند اهتياجه وانقلاعه عن الجهة السفلية ، وانقطاعه بقوة اليقين والتوكل إلى الجهة العلوية. ويستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه فذلك نزول الملائكة ، وإذا جزع وهلع وتغير وخاف أو مال إلى الدنيا غلبته النفس وقهرته واستولت عليه وحجبته بظلمة صفاتها عن النور ، فلم تبق تلك المناسبة ، فانقطع المدد ولم تنزل الملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم في التوجه إلى الحق والتجريد للسلوك (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فتتحقق الفيض بقدر التصفية والخلف بقدر الترك.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة ، ولا بالخلق عن الحق ، فإنها مظاهر لا حقيقة لها ولا تأثير ، (الْعَزِيزِ) القوي الغالب بقهره (الْحَكِيمِ) الذي ستر قهره ونصرته بصور الملائكة بحكمته.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقتل بعضهم تقوية للمؤمنين (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم ويذلهم بالهزيمة إعزازا للمؤمنين (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بالإسلام تكثيرا لسواد المؤمنين (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بسبب ظلمهم وإصرارهم على الكفر تفريحا للمؤمنين. وأوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ولا يزول ، وتتغير شهوده في الأقسام كلها ، أي : ليس لك من أمرهم شيء كيفما كان ، ما أنت إلّا بشر مأمور بالإنذار ، إن عليك إلّا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) أي : توكلوا على الله في طلب الرزق فلا تكسبوه بالربا ، فإنه واجب عليكم كما يجب عليكم التوكل عليه في طلب الفتح وجهاد العدوّ لئلا تجبنوا بكلاءة الله وحفظه. واعلموا أن جزاء المرابي هو جزاء الكافر ، فاحذروه لكونه محجوبا عن أفعاله تعالى كما أن الكافر محجوب عن صفاته وذاته ، والمحجوب غير قابل للرحمة وإن اتسعت ، فارفعوا الحجاب بالطاعة وترك المخالفة كي تدرككم رحمة الله.
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))
(وَسارِعُوا إِلى) ستر أفعالكم التي هي حجابكم عن مشاهدة أفعال الحق بأفعاله تعالى ، فإنما حرمتم عن التوكل وجنة عالم الملك التي هي تجلي الأفعال برؤية أفعالكم ، أي : إلى ما يوجب ستر أفعالكم بأفعاله ، وجنّة الأفعال من الطاعات بعد كما ورد : «أعوذ بعفوك من عقابك». ولأن المراد بالجنّة هنا جنة الأفعال ، وصف عرضها بمساواة عرض السموات والأرض ، إذ توحيد الأفعال هو توحيد عالم الملك وإنما قدّر طولها لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية ، وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي يتقدّره الناس. وإما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدّرها ، إذ الفعل مظهر الوصف ، والوصف
١٢٢
مظهر الذات ، فلا نهاية له ولا حدّ. فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا عرض هذه الجنّة ، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا ولا عرضا (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون حجب أفعالهم وشرك نسبة الأفعال إلى غير الحق.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) لا تمنعهم الأحوال المضادّة عن الإنفاق لصحة توكلهم على الله برؤية جميع الأفعال منه (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) لذلك أيضا ، إذ يرون الجناية عليهم فعل الله فلا يعترضون ، ولو لم يغيظوا كانوا في مقام الرضا وجنة الصفات (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) لما ذكرنا ، ولتعوذهم بعفوه تعالى عن عقابه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يشاهدون تجليات أفعاله تعالى.
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) كبيرة من الكبائر ، برؤية أفعالهم صادرة عن قدرتهم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) نقضوا حقوقها بارتكاب الصغائر وظهور أنفسهم فيها (ذَكَرُوا اللهَ) في صدور أفعالهم برؤيتها واقعة بقدرة الله وتبرأ عنها إليه لرؤيتهم ابتلاءه إياهم بها (فَاسْتَغْفَرُوا) طلبوا ستر أفعالهم التي هي ذنوبهم بأفعاله بالتبرّي عن الحول والقوّة إليه (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أي وجودات الأفعال (إِلَّا اللهُ) أي علموا أن لا غافر إلا هو (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) في غفلتهم وحالة ظهور أنفسهم ، بل تابوا ورجعوا إليه في أفعالهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن لا فعل إلا لله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بمقتضى توحيد الأفعال.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢))
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) بطشات ووقائع مما سنّه الله في أفعاله بالذين كذبوا بالأنبياء في توحيد الأفعال (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا) في آثارها فتعلموا كيف كان عاقبتهم (هذا) الذي ذكر (بَيانٌ لِلنَّاسِ) من علم توحيد الأفعال وتفصيل المتقين الذين هم أهل التمكين في ذلك ، والتائبين الذين هم أهل التلوين ، والمصرين المحجوبين عنه المكذبين به ، وزيادة هدى وكشف عيان وتثبت واتعاظ للذين اتّقوا رؤية أفعالهم أو هدى لهم إلى توحيد الصفات والذات. (وَلا تَهِنُوا) في الجهاد عند استيلاء الكفار (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الفتح وما جرح واستشهد من إخوانكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الرتبة لقربكم من الله وعلو درجتكم بكونكم أهل الله (إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، لأنّ الموحد يرى ما يجرى عليه من البلاء من الله فأقلّ درجاته الصبر إن لم يكن رضا يتقوّى به فلا يحزن ولا يهن (الْأَيَّامُ) الوقائع وكل ما يحدث من الأمور العظيمة يسمى يوما وأياما ، كما قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) ، وقد مرّ تفسير (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) من ظهور العلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الذين يشهدون للحق فيذهلون عن أنفسهم ، أي : نداول الوقائع بين الناس لأمور شتى وحكم كثيرة ، غير مذكورة ، من خروج ما في استعدادهم إلى الفعل من الصبر والجلد وقوّة اليقين ، وقلّة المبالاة بالنفس ، واستيلاء القلب عليها ، وقمعها وغير ذلك. ولهذين العلتين المذكورتين ولتخليص المؤمنين من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله بالعقوبة والبليّة إذا كانت عليهم ، ومحق الكافرين وقهرهم وتدميرهم إذا كانت لهم. وقد اعترض بين العلل قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ليعلم أنّ من ليس على صفة الإيمان والشهادة وتمحيص الذنوب وقوّة الثبات لكمال اليقين ، بل حضر القتال لطلب الغنيمة أو لغرض آخر فهو ظالم والله لا يحبه.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الآية ، كل موقن إذا لم يكن يقينه ملكة بل كان خطرات ، فهو في بعض أحواله يتمنى أمورا ويدعي أحوالا بحسب نفسه دائما ، وكذلك حال غير اليقين وعند إقبال القلب هو صادق ما دام موصوفا بحاله. أما في غير تلك الحالة ، وعند الإدبار ، فلا يبقى من ذلك أثر وكذا كل من لم يشاهد حالا ولم يمارسه ، ربما يتمناه لتصوّره في نفسه وعدم تضرّره به حال التصور. أما في حال وقوعه وابتلائه فلا يطيق تحمل شدائده.
فلا يلتفت بحال إلا إذا صار مقاما ، ولا يعتبر مقاما إلا إذا امتحن في مواطنه ، فإذا خلص من الامتحان فقد صح وهذا أحد فوائد مداولة الأيام بينهم ليتمرّنوا بالموت ويتقوّى يقينهم ويتوفر صبرهم ويتحقق مقامهم بالمشاهدة كما قال : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) من قتل إخوانكم بين أيديكم (وَأَنْتُمْ) تشاهدون ذلك. وفيه توبيخ لهم على أنّ يقينهم كان حالا لا مقاما ، ففشلوا في الموطن.
(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي : إنه رسول بشر ، سيموت أو يقتل كحال الأنبياء قبله ، فمن كان على يقين من دينه فبصيرة من ربّه لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربّه لا للرسول كأصحاب الأنبياء السالفين. وكما قال أنس عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تقاول بعضهم : ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقول المنافقين : لو كان نبيّا ما قتل! ، يا قوم ، إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت! ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قتل.
(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) إنما ضرّ نفسه بنفاقه وضعف يقينه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لنعمة الإسلام ، كأنس بن النضر وأضرابه من الموقنين (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) فمن كان موقنا شاهد هذا المعنى ، فكان من أشجع الناس كما حكى حاتم ابن الأصمّ عن نفسه أنه شهد مع الشقيق البلخي رحمهماالله ، بعض غزوات خراسان. قال : فلقيني شقيق وقد حمى الحرب ، فقال : كيف تجد قلبك يا حاتم؟ قلت : كما كان ليلة الزفاف ، بين الحالين. فوضع سلاحه وقال : أما أنا فهكذا. ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمعت غطيطه. وهذا غاية في سكون القلب إلى الله ووثوقه به لقوة اليقين (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الآية ، جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم ، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس من وقوع ظل الوحدة عليها عند تنوّرها بنور القلب المنوّر بنور الوحدة ، فلا تكون تامة حقيقة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القوة والقدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم لإمكانه الخفيّ الوجود ، الضعيف ، الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ولا وجود ولا ذات في الحقيقة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة لوجوده أصلا لتحقق عدمه بحسب ذاته ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل ، إذ لا يكون أقوى من معبوده وإن اتفقت له دولة أو صولة أو شوكة فشيء لا أصل له ولا ثبات ولا بقاء كنار العرفج مثلما كانت دولة المشركين.
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي : وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا ، فما دمتم على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا والإعراض عن الحق ، مجاهدين لله لا للدنيا ، كان الله معكم بالنصر ، وإنجاز الوعد ، وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم بدخول الضعف في يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة (وَتَنازَعْتُمْ) في أمر الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن حظ الدنيا ، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من ملازمة المركز ، وملتم إلى زخرف الدنيا (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الفتح والغنيمة وحان زمان شكركم لله ، وشدّة إقبالكم عليه ، فذهلتم عنه ، فكان أشرفكم يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا ، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) بما فعلتم فكان الابتلاء لطفا بكم وفضلا (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في الأحوال كلها ، إما بالنصرة وإما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدّوا له نفوسهم موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله : «مطيع من أطاعني». كما يكونون مع الله يكون الله معهم ، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات ، وليتمرّنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكا لهم ، ومقاما ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا عن الحق ، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب ، خصوصا حجاب محبة النفس ، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) (١) ، إذ الابتلاء كان سبب العفو.
(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي : صرفكم عنهم فجازاكم غما بسبب غمّ لحق رسول الله من جهتكم ، بعصيانكم إيّاه ، وفشلكم وتنازعكم ، أو غمّا بعد بغمّ أي : غمّا مضاعفا لتتمرّنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها ، وتتعوّدوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا (تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الحظوظ والمنافع (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الغموم والمضارّ. (ثُمَ) خلّى عنكم الغمّ بالأمن وإلقاء النعاس على الطائفة الصادقين دون المنافقين الذين (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لا نفس الرسول ولا الذين وافقوا علامة للعفو (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) لقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (٢).
(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي : وليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص واليقين والصبر والتوكل والتجرّد وجميع الأخلاق والمقامات ، ويخرجها من القوّة إلى الفعل (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي : وليخلص ما برز منها من مكمن الصدر إلى مخزون القلب من عثرات وساوس الشيطان ودناءة الأحوال وخواطر النفس ، فعل ذلك فإن البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه بتصفيتهم عن صفات نفوسهم وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم عنده من الخلق ومن النفس إلى الحق. ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيانا لفضله : «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ، كأنه قال : ما صفى نبيّ مثل ما صفيت.
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. (اسْتَزَلَّهُمُ) أي : طلب منهم الزلّة ودعاهم إليها ، وهي زلّة التولي (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب. فإنّ الشيطان إنما يقدر على وسوسة الناس وإنفاذ أمره إذا كان له مجال بسبب أدنى ظلمة في القلب ، حادثة من ذنب ، وحركة من النفس كما قيل : الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) بالاعتذار والندم (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : يجعل ذلك القول والاعتقاد ضيقا وضنكا وغمّا في قلوبهم لرؤيتهم القتل والموت مسببا عن فعل ، ولو كانوا موقنين موحدين لرأوا أنه من الله ، فكانوا منشرحي الصدور (وَاللهُ يُحْيِي) من يشاء في السفر والجهاد وغيره (وَيُمِيتُ) من يشاء في الحضر وغيره (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) أي : لنعيمكم الأخروي من جنّة الأفعال وجنّة الصفات خير لكم من الدنيوي لكونكم عاملين للآخرة و (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لمكان توحيدكم ، فحالكم فيما بعد الموت أحسن من حالكم قبله.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : فباتصافك برحمة رحيمية ، أي : رحمة تامّة ، كاملة ، وافرة ، هي صفة من جملة صفات الله ، تابعة لوجودك الموهوب الإلهيّ لا الوجود البشريّ (لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) موصوفا بصفات النفس التي منها الفظاظة والغلظة (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لأنّ الرحمة الإلهية الموجبة لمحبتهم إياك تجمعهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من جنايتهم لرؤيتك إياه من الله بنظر التوحيد وعلوّ مقامك من التأذي بفعل البشر ، والتغيظ من أفعالهم ، وتشفي الغيظ بالانتقام منهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يتعلق بحق الله لمكان غفلتهم وندامتهم واعتذارهم (وَشاوِرْهُمْ) في أمر الحرب وغيره مراعاة لهم واحتراما ، ولكن إذا عزمت ففوّض الأمر إلى الله بالتوكل عليه ورؤية جميع الأفعال والفتح والنصر والعلم بالأصلح والأرشد منه ، لا منك ، ولا مما تشاوره. ثم حقّق معنى التوكل والتوحيد في الأفعال بقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) إلى آخره.
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) لبعد مقام النبوّة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وامتناع صدور ذلك منهم مع كونهم منسلخين عن صفات البشرية ، معصومين عن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ، قائمين بالله متّصفين بصفاته (يَأْتِ بِما غَلَ) أي : يظهر على صورة غلوله بما غلّ بعينه.
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦))
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي : النبيّ في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات ، لاتصافه بصفات الله ، والغالّ في مقام السخط لاحتجابه بصفات نفسه (وَمَأْواهُ) أسفل حضيض النفس المظلمة ، فهل يتشابهان؟ (هُمْ دَرَجاتٌ) أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات أو هم مختلفون اختلاف الدرجات (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) لأنّ السبب الفاعلي في الجميع هو الحق تعالى ، والسبب القابليّ أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، وباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم. واستعداد الأنفس إما أصليّ وإما عارضيّ ، والأصلي من فيضه الأقدس على مقتضى مشيئته ، والعارضي من اقتضاء قدره. فهذا الجانب أيضا ينتهى إليه ، ومن وجه آخر ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله نظرا إلى التوحيد ، إذ لا غير ثمة (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي : وليتميز المؤمنون والمنافقون في العلم التفصيليّ.
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩))
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء كان قتلهم بالجهاد الأصغر ، وبذل النفس طلبا لرضا الله ، أو بالجهاد الأكبر ، وكسر النفس ، وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقية مجرّدين عن دنس الطبائع ، مقرّبين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية ، أي المعارف والحقائق واستشراق الأنوار ، ويرزقون في الجنّة الصورية كما يرزق سائر الأحياء. فإنّ للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ، ولكل من المعنوية والصورية درجات على حسب الأعمال ، فالمعنوية جنّة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها على حسب تفاضل درجات أهل الجبروت والملكوت ، والصورية جنّة الأفعال وتفاوت درجاتها على حسب تفاوت درجات عالم الملك من السموات العلى ، وجنات الدنيا وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، تدور في أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب ، معلقة في ظلّ العرش». فالطير الخضر : إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل هي الكواكب ، أي تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف والأنهار ، والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو الصورية. فإنّ كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات ، موجود في الآخرة وفي طبقات السماء ألذّ وأصفى مما في الدنيا.
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والنعمة والقرب عند الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ) حال إخوانهم (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) ولم ينالوا درجاتهم بعد من خلفهم لاستسعادهم عن قريب بمثل حالهم ولحوقهم بهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل اشتمال من الذين ، أي : يستبشرون بأنهم آمنوا ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)
أي : أمنهم بنعمة عظيمة لا يعلم كنهها ، هي جنة الصفات بحصول مقام الرضوان المدكورة بعده لهم (وَفَضْلٍ) وزيادة عليها هي جنة الذات والأمن الكليّ من بقية الوجود وذلك كمال كونهم شهداء لله ، ومع ذلك فإنّ الله لا يضيع أجر إيمانهم الذي هو جنّة الأفعال وثواب الأعمال.
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) بالفناء في الوحدة الذاتية (وَالرَّسُولِ) بالمقام بحق الاستقامة (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي : كسر النفس (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) أي : ثبتوا في مقام المشاهدة (وَاتَّقَوْا) بقاياهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) وراء الإيمان هو روح المشاهدة (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) قبل الوصول إلى المشاهدة (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي : اعتبروا لوجودكم واعتدوا بكم فاعتدوا بهم (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي : يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به ، وتوصلوا بنفي ما سوى الله إلى إثباته بقولهم (حَسْبُنَا اللهُ) فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة فقالوا : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليهالسلام حين ألقي في النار فصارت بردا وسلاما عليه (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي : رجعوا بالوجود الحقانيّ في جنة الصفات والذات كما مرّ آنفا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) البقية ورؤية الغير.
(وَ) هم (اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو جنة الصفات في حال سلوكهم حين لم يعلموا ما أخفي لهم من قرّة أعين وهي جنة الذات المشار إليها بقوله : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) فإن الفضل هو المزيد على الرضوان (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) المحجوبين بأنفسهم مثله من الناس أو يخوّفكم أولياءه (فَلا تَخافُوهُمْ) ولا تعتدوا بوجودهم (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، أي لا تخافوا غيري لعدم عينه وأثره (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية خوف أن يضروك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) إملاء الكفار وطول حياتهم سبب لشدّة عذابهم وغاية هوانهم وصغارهم لازديادهم بطول عمرهم حجابا على حجاب ، وبعدا على بعد. وكلما ازدادوا بعدا عن الحق الذي هو منيع العزّة ازدادوا هوانا.
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) من صفات النفس وشكوك الوهم وحظوظ الشيطان ، ودواعي الهوى من طيبات صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدات الروح ومناغيات السرّ ومسامراته ، وتخلص المعرفة والمحبة لله بالابتلاء ووقوع الفتن والمصائب بينكم.
(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى) غيب وجودكم من الحقائق والأحوال الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول لبعد ما بينكم وبينه وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على أسراره وحقائقه بالكشف ليهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية النفسانية التي بينه وبينكم ، الموجبة لإمكان اهتدائكم به (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالتصديق القلبيّ والإرادة والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي والقبول منهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعد ذلك الإيمان بالتحقيق والسلوك إلى اليقين والمتابعة في الطريقة (وَتَتَّقُوا) الحجب النفسانية وموانع السلوك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) من كشف الحقيقة (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المال والعلم والقدرة والنفس ولا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين والمستعدّين والأنبياء والصدّيقين في الذبّ عنهم أو الفناء في الله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يجعل غلّ أعناقهم وسبب تقيدهم وحرمانهم عن روح الله ورحمته وموجب هوانهم وحجابهم عن نور جماله لمحبتهم له وتعلقهم به (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من النفوس وصفاتها كالقوى والقدر والعلوم والأموال وكل ما ينطبق عليه اسم الوجود فما لهم يبخلون بماله عنه.
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روي أنّ أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله فتأتي نار من السماء تأكله. وتأويله : أن يأتوا بنفوسهم يتقرّبون بها إلى الله ويدعون الله بالزهد والعبادة ، فتأتي نار العشق من سماء الروح تأكله وتفنيه في الوحدة ، فبعد ذلك صحت نبوّتهم وظهرت فسمع به عوام بني إسرائيل فاعتقدوا ظاهره ، وإن كان ممكنا من عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية كما توهموا من إقراض الله الذي هو بذل المال في سبيل الله بالإنفاق لاستيفاء الثواب وبذل الأفعال والصفات بالمحو في السلوك لاستبدال صفات الحق وأفعاله وتحصيل مقام الإبدال ، فقر الحق وغناهم ، أو كابروا الأنبياء في الموضعين بعد ما فهموا.
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : يعجبوا بما فعلوا من طاعة وإيثار ، وكلّ حسنة من الحسنات ، ويحجبون برؤيته (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي : يحمدهم الناس ، فهم محجوبون بعرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين في نفس الأمر عند الله (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) بل فعله الله على أيديهم إذ لا فعل إلا لله ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (١) فائزين من عذاب الحرمان (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لمكان استعدادهم واحتجابهم عما فيه ، وكان من حقهم أن ينسبوا الفضيلة والفعل الجميل إلى الله ويتبرّءوا عن حولهم وقوّتهم إليه ولا يحتجبوا برؤية الفعل من أنفسهم ، ولا يتوقعوا به المدح والثناء.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس لأحد فيها شيء حتى يعطي غيره فيعجب بعطائه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يقدر غيره على فعل مّا ، حتى يعجب برؤيته ، فيفرح به فرح إعجاب.
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في جميع الأحوال وعلى جميع الهيئات (قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محلّ القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : تقلباتهم في مكان النفس بالمجاهدة (وَيَتَفَكَّرُونَ) بألبابهم أي : عقولهم الخالصة عن شوب الوهم (فِي خَلْقِ) عالم الأرواح والأجساد. يقولون عند الشهود (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الخلق (باطِلاً) أي : شيئا غيرك ، فإنّ غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك (سُبْحانَكَ) ننزهك أن يوجد غيرك ، أي : يقارن شيء فردانيتك أو يثني وحدانيتك (فَقِنا عَذابَ) نار الاحتجاب بالأكوان عن أفعالك ، وبالأفعال عن صفاتك ، وبالصفات عن ذاتك وقاية مطلقة تامة كافية (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) بالحرمان (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) بوجود البقية التي كلها ذلّ وعار وشنار (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين أشركوا برؤية الغير مطلقا أو البقية (مِنْ أَنْصارٍرَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) بأسماع قلوبنا (مُنادِياً) من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن (يُنادِي) إلى الإيمان العيانيّ (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي : شاهدوا ربكم ، فشاهدنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا) ذنوب صفاتنا بصفاتك (وَكَفِّرْ عَنَّا) سيئات أفعالنا برؤية أفعالك (وَتَوَفَّنا) عن ذواتنا في صحبة الأبرار من الأبدال الذين تتوفاهم بذاتك عن ذواتهم ، لا الأبرار الباقين على حالهم في مقام محو الصفات غير المتوفين بالكلية (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) اتباع (رُسُلِكَ) أو محمولا على رسلك من البقاء بعد الفناء ، والاستقامة بالوجود الموهوب بعد التوحيد (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى ووقت بروز الخلق لله الواحد القهار بالاحتجاب بالوحدة عن الكثرة ، وبالجمع عن التفصيل (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) فتبقى مقاما وراءنا لم نصل إليه.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ) القلب من الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والكشف (أَوْ أُنْثى) النفس من الأعمال القالبية ، كالطاعات والمجاهدات والرياضات (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يجمعكم أصل واحد وحقيقة واحدة هي الروح الإنسانية ، أي : بعضكم منشأ من بعض ، فلا أثيب بعضكم وأحرم بعضا (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن أوطان مألوفات النفس (وَأُخْرِجُوا مِنْ) ديار صفاتها أو هاجروا من أحوالهم التي التذّوا بها ، وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : ابتلوا في سبيل سلوك أفعالي بالبلايا والمحن والشدائد والفتن ليتمرّنوا بالصبر ، ويفوزوا بالتوكل في سبيل سلوك صفاتي بسطوات تجلّيات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى الرضا (وَقاتَلُوا) البقية بالجهاد فيّ (وَقُتِلُوا) وأفنوا في بالكلية (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلها من الصغائر والكبائر ، أي : سيئات بقاياهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) الجنات الثلاثة المذكورة (ثَواباً) أي : عوضا لما أخذت منهم من الوجودات الثلاثة (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : لا يكون عند غيره الثواب المطلق الذي لا يبقى منه شيء ، ولهذا قال : والله ، لأنه الاسم الجامع لجميع الصفات ، فلم يحسن أن يقول : والرحمن ، في هذا الموضع أو اسم آخر غير اسم الذات (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن التوحيد الذي هو دين الحق في المقامات والأحوال.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : هو يعني الاحتجاب بالمقامات والتقلّب فيها تمتع قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) الحرمان (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) من المؤمنين ، أي : تجرّدوا عن الوجودات الثلاثة ، لهم الجنات الثلاث ، (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) معدّا (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : المحجوبين عن التوحيد ، والمذكورين بصفة التقلّب في الأحوال والمقامات (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : يتحقق بالتوحيد الذاتي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من علم التوحيد والاستقامة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد (خاشِعِينَ لِلَّهِ) قابلين لتجلي الذات (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي هي تجليات صفاته ثمن البقية الموصوف بالقلّة (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الجنان المذكورة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسبهم ويجازيهم فيعاقب على بقايا من بقي منهم شيء ، أو يثيب بنفي البقايا على حسب درجاتهم في المواطن الثلاثة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) لله (وَصابِرُوا) مع الله (وَرابِطُوا) بالله ، أي : اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة ، وصابروا في مقام القلب مع سطوات تجليات صفات الجلال بالمكاشفة ، ورابطوا في مقام الروح ذواتكم بالمشاهدة حتى لا يغلبكم فترة أو غفلة أو غيبة بالتلوينات (وَاتَّقُوا اللهَ) في مقام الصبر عن المخالفة والرياء ، وفي المصابرة عن الاعتراض والامتلاء وفي المرابطة عن البقية والجفاء لكي تفلحوا الفلاح الحقيقي السرمديّ الذي لا فلاح وراءه ، إن شاء الله.
(بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ)
(الم (١) اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٣) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَاللهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (٤) إِنَّ اللهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي السَّماءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (٧))
(الم* اللهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ) مرّ تأويله (نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ) أي : رقّاك رتبة فرتبة ، ودرجة فدرجة ، بتنزيل الكتاب عليك منجما إلى العلم التوحيدي الذي هو الحق باعتبار الجمع المسمّى بالعقل القرآني (مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ) من التوحيد الأزليّ السابق المعلوم في العهد الأول المخزون في غيب الاستعداد (وَأَنْزَلَ التَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ) هكذا ثمّ (أَنْزَلَ الْفُرْقانَ) أي : التوحيد التفصيليّ الذي هو الحق باعتبار الفرق المسمّى بالعقل الفرقانيّ ، وهو منشأ الاستقامة ومبدأ الدعوة (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : احتجبوا عن هذين التوحيدين بالمظاهر والأكوان التي هي آيات التوحيد في الحقيقة (لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) في البعد والحرمان (وَاللهُ عَزِيزٌ) أي : قاهر (ذُو انْتِقامٍ) لا يقدر وصفه ولا يبلغ كنهه ولا يقدر على مثله ، منتقم (لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْءٌ) في العالمين ، فيعلم مواقع الانتقام (مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ) سمت من أن يتطرق إليها الاحتمال والاشتباه لا يحتمل إلا معنى واحدا (هُنَّ أُمُ) أي : أصل (الْكِتابِ وَأُخَرُ مُتَشابِهاتٌ) تحتمل معنيين فصاعدا ويشتبه فيها الحق والباطل ، وذلك أنّ الحق تعالى له وجه هو الوجه المطلق الباقي بعد فناء الخلق لا يحتمل التكثر والتعدّد ، وله وجوه متكثرة إضافية متعدّدة بحسب مرائي المظاهر. وهي ما يظهر بحسب استعداد كل مظهر فيه من ذلك الوجه الواحد ، يلتبس فيها الحق بالباطل ، فورد التنزيل كذلك لتنصرف المتشابهات إلى وجوه الاستعدادات فيتعلق كل بما يناسبه ، ويظهر الابتلاء والامتحان. فأمّا العارفون المحققون الذين يعرفون الوجه الباقي في أية صورة وأي شكل كان ، فيعرفون الوجه الحق من الوجوه التي تحتملها المتشابهات فيردونها إلى المحكمات وأمّا المحجوبون (الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) عن الحق (فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ) لاحتجابهم بالكثرة عن الوحدة. كما أن المحققين يتبعون المحكم ، ويتبعونه المتشابه ، فيختارون من الوجوه المحتملة ما يناسب دينهم ومذهبهم (ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ) أي : طلب الضلال والإضلال الذي هم بسبيله (وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ) بما يناسب حالهم وطريقتهم.
فهم كما لا يعرفون الوجه الباقي في الوجوه ، لزم أن لا يعرفوا المعنى الحق من المعاني ، فيزداد حجابهم ويغلظ ليستحقوا به العذاب (وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ) العالمون ، يعلمون بعلمه ، أي : إنما يعلمه الله جميعا وتفصيلا (يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ) يصدّقون علم الله به ، فهم يعلمون بالنور الإيماني (كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا) لأن الكلّ عندهم معنى واحد غير مختلف (وَما يَذَّكَّرُ) بذلك العلم الواحد المفصل في التفاصيل المتشابهة المتكثرة إلا الذين صفت عقولهم بنور الهداية وجرّدت عن قشر الهوى والعادة.
(رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (١١) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٢))
(رَبَّنا لا تُزِغْ) عن التوجه إلى جنابك ، والسعي في طلب لقائك ، والوقوف ببابك ، بالافتتان بحبّ الدنيا وغلبة الهوى ، والميل إلى النفس وصفاتها ، والوقوف مع حظوظها ولذاتها (بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا) بنورك إلى صراطك المستقيم ، والدين القويم ، وبسبحات وجهك إلى جمالك الكريم (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً) رحيمية تمحو صفاتنا بصفاتك وظلماتنا بأنوارك (إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ) أي : يجمعهم ليوم الجمع الذي هو الوصول إلى مقام الوحدة الجامعة للخلائق أجمعين الأولين والآخرين ، فلا يبقى لهم شك في مشهدهم ذلك (لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً) بل هي سبب حجابهم وبعدهم من الله وتعذيبهم بعذابه لشدّة تعلقهم بهم ومحبتهم إياهم.
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (١٣))
(قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ) يا معشر السالكين دالة على كمالكم وبلوغكم إلى التوحيد (فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ) القوى الروحانية الذين هم أهل الله وجنوده (تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَأُخْرى) هي جنود النفس وأعوان الشياطين محجوبة عن الحقّ. ترى الفئة الأولى ، مع قلّة عددهم ، مثليهم عند التقائهما في معركة البدن لتأيد الفئة الأولى بنور الله وتوفيقه وخذلان الفئة الثانية وذلهم وعجزهم وضعفهم وانقطاعهم عن عالم الأيد والقدرة. فغلبت الأولى الثانية وقهروهم بتأييد الله ونصره ، وصرفوا أموالهم التي هي مدركاتهم ومعلوماتهم في سبيل معرفة الله وتوحيده (وَاللهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ) من أهل عنايته المستعدّين للقائه (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي : اعتبارا أو أمرا يعتبر به في الوصول إلى الحقيقة للمستبصرين الذين انفتحت أعين بصائرهم واكتحلت بنور الإيقان العلميّ من أهل الطريقة يعتبرون به أحوالهم في النهاية.
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعامِ وَالْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَأَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوانٌ مِنَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (١٥))
(زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ) لأن الإنسان مركب من العالم العلويّ والسفليّ ، ومن نشأته وولادته تحجبت فطرته وخمدت نار غريزته وانطفأ نور بصيرته بالغشاوات الطبيعية والغواشي البدنية ، والماء الأجاج من اللذّات الحسيّة ، والرياح العواصف من الشهوات الحيوانية ، فبقي مهجورا من الحق في أوطان الغربة وديار الظلمة يسار به ، مبلوّا بأنواع النصب والتعب ، فإذا هو بشعشعة نور من التميز ولمعان برق من عالم العقل ، وداع ينادينه من الهوى والشيطان ، فتبعه فصادف منزلا نزها ، وروضة أنيقة ، فيها ما تشتهي الأنفس وتلذّ الأعين ، فاستوطنه وشكر سعيه ورضيه مسكنا
والداعي قد هيئ له القرى ، فذلك حبّ الشهوات ، أي : المشتهيات المذكورة وتزيينها له وهو تمتيع له بحسب ما فيه من العالم السفليّ ، وكمال لحياته حجب به من تمتيع الحياة الأخرى وكمالها ، بحسب ما فيه من العالم العلويّ ، ولم يتنبه على أنها أبهى وألذّ وأصفى مع ذلك وأبقى ، وهو معنى قوله : (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ) فإن أدركه التوفيق الإلهيّ والتنبيه السريّ ، وقارنه الإنباء النبوي كما قال : (قُلْ أَأُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ) انبعث من باطنه شوق وعشق لحركة العلويّ إلى مركزه ، واشتعلت ناره التي قد خمدت ، وتتتابع عليه لوامع الأنوار الإلهية وطوالع الإشراقات القدسية ، فاستنار نور بصيرته الذي قد انطفأ ، ورقّت الحجب التي منعت فطرته عن طلب المقرّ والمأوى ، وتنغص عيشه الذي هو فيه فتكدّر ما هو عليه ، واستظلم ما كان قد استصفاه من الحياة الدنيا وسكنت في نفسه سورة الهوى بغلبة الجزء الروحانيّ على الجسماني ، وذاق طعم ماء فرات الحياة الحقيقية فلم يصبر على الملح الأجاج وباشر قلبه خطرات اليقين بجريعات شربها من الماء المعين ، فعلم أنه كان أكمن في سرب من الأرض ، فاستلمع ضوء الكواكب ليلا وظنه نهارا ، فخرج فإذا هو ببريّة فيها ماء زعاق وأنواع من الحشائش كالخمخم والجرجير ونحوها ، فظنها رياحين وثمارا ، فحبس بما وجد عن ضياء الشمس وألوان الطيب والفواكه ، فعزم على رحيل الأوبة وغشيته وحشة الغربة ، فانتقى ما استطاب واستحلى. ثم سار وخلى حتى إذا أضاء نور صبح عين اليقين ، وحان وقت طلوع شمس الوحدة ، رأى جنة تحيّر فيها بصره ودهش في وصفها عقله ، وكان ما كان مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر. فإذا أفاق وقد طلعت الشمس ، وجد فيها ألافا وأحبابا وعرف أنه كان له مثوى ومآبا ، ورجع إليه الأنس ، ونزل محلة القدس ، بدار القرار في جوار الملك الغفّار ، وأشرقت عليه سبحات وجهه الكريم ، وحلّ بقلبه روح الرضا العميم ، وذلك معنى قوله : (لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ) إلى قوله : (وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ) ، فالجنّات جنّات الأفعال ، والأزواج أصناف روحانيات عالم القدس ، والرضوان جنّات الصفات.
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (١٧) شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨))
(الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا) بأنوار أفعالك وصفاتك (فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا) أي : ذنوب وجوداتنا بذاتك (وَقِنا عَذابَ النَّارِ) أي : نار الهجران ووجود البقية (الصَّابِرِينَ) على غصص المجاهدة والرياضة (وَالصَّادِقِينَ) في المحبة والإرادة (وَالْقانِتِينَ) في السلوك إليه وفيه (وَالْمُنْفِقِينَ) ما عداه من أموالهم وأفعالهم وصفاتهم ونفوسهم وذواتهم (وَالْمُسْتَغْفِرِينَ) عن ذنوب تلويناتهم وبقياتهم في أسحار أيام التجليات النورية عند طلوع طوالع الأنوار ، وظهور تباشير صبح يوم القيامة الكبرى بالأفق الأعلى ، فأجابهم وقت طلوع شمس الذات من مغرب وجودهم ، فلم يبق مغربا بقوله (شَهِدَ اللهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) طلع الوجه الباقي ، فشهد بذاته في مقام الجمع على وحدانيته ، إذ لم يبق شاهد ولا مشهود غيره. ثم رجع إلى مقام التفصيل فشهد بنفسه مع غيره على وحدانيته في ذلك المشهد فقال : (وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ) أي : مقيما للعدل في تفاصيل مظاهره ، وصور كثرتها الذي هو ظلّ الوحدة في غير الجمع بإعطاء كلّ ذي حقّ بحسب استعداده واستحقاقه حقّه من جوده وكماله وتجليه فيه على قدر سعة وعائه (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) في المشهدين (الْعَزِيزُ) القاهر الذي يقهر كل شيء باعتبار الجمع فلا يصل إليه أحد (الْحَكِيمُ) الذي يدبر بحكمته كل شيء ، فيعطيه ما يليق به باعتبار التفصيل.
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (٢٠))
(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ) هو هذا التوحيد الذي قرّره بنفسه. فإنّ دينه دين إسلام الوجوه كما قال إبراهيم صلىاللهعليهوسلم : «أسلمت وجهي لله» أي : نفسي وجملتي ، وانخلعت عن أنينتي ، ففنيت فيه. وأمر الله تعالى حبيبه عليه الصلاة والسلام فيما بعد بقوله : (فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ).
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢١))
(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) أي : المحجوبين عن الدين (وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ) لكونهم محجوبين بدينهم لا يقبلون إلا ما هم عليه من التقيد والتقليد ، والأنبياء دعوهم إلى التوحيد ومنعوهم عن التقيد فقتلوهم (وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ) من أتباعهم ، إذ العدل ظلّ التوحيد ، فمن لم يكمل له لا يمكنه العدل ، وهم قد حجبوا بتقييدهم بدينهم ، فقد حجبوا بظلمهم عن العدل فخالفوهم وقتلوهم.
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (٢٣) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (٢٥))
(أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ) التي عملوها على دين نبيهم ، لأنهم كانوا بتقليد نبيهم ناجين بالمتابعة ، وأنبياؤهم كانوا شفعاءهم بتوسطهم بينهم وبين الله في وصول الفيض إليهم ، فإذا أنكروا النبيين وأتباعهم العادلين فقد خالفوا نبيّهم لأن الأنبياء كلهم على ملّة واحدة في الحقيقة هي ملّة التوحيد ، لا نفرّق بين أحد منهم في كونهم على الحقّ فمن خالف واحدا فقد خالف الكلّ ، وكذا من خالف أهل العدل من أتباع النبيين فقد ظلم ، ومن ظلم فقد خرج بظلمه عن المتابعة وأيضا فمنكر الاتباع منكر المتبوعين ، ومنكر الظلّ منكر الذات خارج عن نورها. وإذا خالفوا نبيّهم لم يبق بينهم وبينه من الوصلة والمناسبة ما تمكن به الاستفاضة من نوره ، فحجبوا عن نوره وكانت أعمالهم منوّرة بنوره لأجل المتابعة ، لا نور ذاتيّ لها ، إذ لم تكن صادرة عن يقين ، فإذا زال نورها العارضي باحتجابهم عن نبيهم فقد أظلمت وصارت كسائر السيئات من صفات النفس الأمّارة ، وفيه ما سمعت غير مرّة من قتل كفار قوى النفس الأمّارة أنبياء القلوب والآمرين بالقسط من القوى الروحانية.
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦))
(قُلِ اللهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ) تملك ملك عالم الأجسام مطلقا ، تتصرّف فيه لا مالك ولا متصرّف ولا مؤثر فيه غيرك (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) تجعله متصرّفا في بعضه (وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ) بجعل التصرّف في يد غيره ولا غير ثمة بل تقلّبه من يد إلى يد ، فأنت المتصرّف فيه على كل حال بحسب اختلاف المظاهر (وَتُعِزُّ مَنْ تَشاءُ) بإلقاء نور من أنوار عزّتك عليه فإنّ العزّة لله جميعا (وَتُذِلُّ مَنْ تَشاءُ) بسلب لباس عزّتك عنه فيبقى ذليلا (بِيَدِكَ الْخَيْرُ) كله ، وأنت القادر مطلقا ، تعطي على حسب مشيئتك ، تتجلى تارة على بعض المظاهر بصفة العز والكبرياء ، فتكسوه لباس العز والبهاء ، وتارة بصفة القهر والإذلال فتكسوه لباس الهوان والصغار ، وتارة بصفة المعز فتكون مذلا ، وتارة بصفة المذلّ فتكون معزا ، وتارة بصفة الغني فتعطي المال ، وتارة بصفة المغني فتفقره ، أي : تجعله مستغنيا عن المال ، فقيرا لا يحتاج إلى شيء.
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٢٧) لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللهُ وَيَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩))
(تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَتُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ) تدخل ظلمة النفس في نور القلب فيظلم ، وتدخل نور القلب في ظلمة النفس فتستنير بخلطهما معا مع بعد المناسبة بينهما (وَتُخْرِجُ الْحَيَ) أي : حيّ القلب (مِنَ الْمَيِّتِ) أي : من ميت النفس ، وميت النفس من حيّ القلب ، بل تخرج حيّ العلم والمعرفة من ميت الجهل ، وتخرج ميت الجهل من حيّ العلم تحجبه عن النور ، كحال بلعم بن باعوره (وَتَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ) من النعمة الظاهرة والباطنة جميعا ، أو من إحداهما (بِغَيْرِ حِسابٍ لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إذ لا مناسبة بينهم في الحقيقة ، والولاية لا تكون إلّا بالجنسية والمناسبة ، فحينئذ لا يمكن أن تكون المحبة بينهم ذاتيّة ، بل مجعولة مصنوعة بالتصنع والرياء والنفاق وهي خصال مبعدة عن الحق إذ كلها حجب ظلمانية ولو لم يكن فيهم ظلمة تناسب حال الكفرة ما قدروا على مخالطتهم ومصاحبتهم (وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللهِ فِي شَيْءٍ) أي : من ولاية الله في شيء ، معتدّ به ، إذ ليس فيهم نورية صافية يناسبون بها الحضرة الإلهية (إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً) أي : إلا أن تخافوا من جهتهم أمرا يجب أن يتقى ، فتوالوهم ظاهرا ليس في قلوبكم شيء من محبّتهم ، وذلك أيضا لا يكون إلا لضعف اليقين. إذ لو باشر قلوبهم اليقين لما خافوا إلا الله تعالى وشاهدوا معنى قوله تعالى : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ) فما خافوا غيره ولم يرجوا غيره ، ولذلك عقبه بقوله : (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) أي : يدعوكم إلى التوحيد العياني كي لا يكون حذركم من غيره بل من نفسه (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فلا تحذروا إلا إيّاه فإنه المطلع على أسراركم وعلانياتكم ، القادر على مجازاتكم إن توالوا أعداءه أو تخافوهم سرّا أو جهرا.
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (٣٠))
(يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ) الآية ، كل ما يعمله الإنسان أو يقوله يحصل منه أثر في نفسه وتنتقش نفسه به وإذا تكرر صار النقش ملكة راسخة ، وكذا ينتقش في صحائف النفوس السماوية ، لكنه مشغول عن هيئات نفسه ونقوشها بالشواغل الحسيّة والإدراكات الوهمية والخيالية ، لا يفرغ إليها ، فإذا فارقت نفسه جسدها ولم يبق ما يشغلها عن هيئاتها ونقوشها وجدت ما عملت من خير أو شرّ محضرا ، فإن كان شرّا تتمنى بعد ما بينها وبين ذلك اليوم أو ذلك العمل لتعذيبها به ، فتصير تلك الهيئات والنقوش صورتها إن كانت راسخة وإلا وجدت جزاءها بحسبها وتكرّر (وَيُحَذِّرُكُمُ اللهُ نَفْسَهُ) تأكيدا لئلا يعملوا ما يستحقون به عقابه (وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) فلذا يحذرهم عن السيئات تحذير الوالد المشفق ولده عمّا يوبقه.
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٣٢))
(قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ) لما كان عليه الصلاة والسلام حبيبه فكل من يدّعي المحبة لزمه اتباعه لأن محبوب المحبوب محبوب ، فتجب محبة النبيّ ، ومحبته إنما تكون بمتابعته وسلوك سبيله قولا وعملا وخلقا وحالا وسيرة وعقيدة ، ولا تمشي دعوى المحبة إلا بهذا فإنه قطب المحبة ومظهره وطريقته طلسم المحبة ، فمن لم يكن له من طريقته نصيب لم يكن له من المحبة نصيب ، وإذا تابعه حق المتابعة ناسب باطنه وسرّه وقلبه ونفسه باطن النبيّ صلىاللهعليهوسلم وسرّه وقلبه ونفسه وهو مظهر المحبة. فلزم بهذه المناسبة أن يكون لهذا المتابع قسط من محبّة الله تعالى بقدر نصيبه من المتابعة ، فيلقي الله تعالى محبته عليه ويسري من باطن روح النبي صلىاللهعليهوسلم نور تلك المحبة إليه ، فيكون محبوبا لله ، محبّا له ، ولو لم يتابعه لخالف باطنه باطن النبيّ صلىاللهعليهوسلم ، فبعد عن وصف المحبوبية وزالت المحبية عن قلبه أسرع ما يكون ، إذ لو لم يحبّه الله تعالى لم يكن محبّا له (وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) كما غفر لحبيبه. قال تعالى : (لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ) وذنبه المتقدّم ذاته ، والمتأخر صفاته ، فكذا ذنوب المتابعين كما قال تعالى : «لا يزال العبد يتقرّب إليّ ...» إلى آخر الحديث. (وَاللهُ غَفُورٌ) يمحو ذنوب صفاتكم وذواتكم (رَحِيمٌ) يهب لكم وجودا وصفات حقانيّة خيرا منها. ثم نزل عن هذا المقام لأنه أعزّ من الكبريت الأحمر.
ودعاهم إلى ما هو أعمّ من مقام المحبة ، وهو مقام الإرادة فقال : (قُلْ أَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ) أي : إن لم تكونوا محبين ولم تستطيعوا متابعة حبيبي فلا أقل من أن تكونوا مريدين ، مطيعين لما أمرتم به ، فإن المريد يلزمه متابعة الأمر وامتثال المأمور به (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) أي : إن أعرضوا عن ذلك أيضا ، فهم كفّار منكرون محجوبون ، والله لا يحب من كان كافرا. فبترك الطاعة يلزم الكفر ، وبترك المتابعة لا يلزم ، لأنّ تارك المتابعة يمكن أن يكون مطيعا بمتابعة الأمر. ومعنى أطيعوا الله والرسول : أطيعوا رسول الله صلىاللهعليهوسلم لقوله تعالى : (مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللهَ) (٢).
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَاللهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَإِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَكَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (٣٧) هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (٣٨) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَهُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللهِ وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (٤٠) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكارِ (٤١) وَإِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (٤٢) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣))
(إِنَّ اللهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً) الاصطفاء أعمّ من المحبة والخلة ، فيشمل الأنبياء كلهم لأنهم خيرة الله وصفوته ، وتتفاضل فيه مراتبهم ، كما قال تعالى : (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ) (١) ، فأخص المراتب هو المحبة ، وأشار إليه بقوله تعالى : (وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ) (٢) فلذلك كان أفضلهم حبيب الله محمدا صلىاللهعليهوسلم ثم الخلّة التي هي صفة إبراهيم عليهالسلام ، وأعمها الاصطفاء ، أي : صفة آدم عليهالسلام (ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ) في الدين والحقيقة ، إذ الولاية قسمان : صورية ومعنوية ، وكل نبيّ يتبع نبيّا آخر في التوحيد والمعرفة ، وما يتعلق بالباطن من أصول الدين فهو ولده كأولاد المشايخ في زماننا هذا. وكما قيل : الآباء ثلاثة : أب ولدك ، وأب رباك ، وأب علمك. فكما أن وجود البدن في الولادة الصورية يتولد في رحم أمّه من نطفة أبيه ، فكذلك وجود القلب في الولادة الحقيقية يظهر في رحم استعداد النفس من نفحة الشيخ والمعلم. وإلى هذه الولادة أشار عيسى عليهالسلام بقوله : «لن يلجّ ملكوت السموات من لم يولد مرتين».
واعلم أنّ الولادة المعنوية أكثرها يتبع الصورية في التناسل ، ولذلك كان الأنبياء في الظاهر أيضا نسلا ، ثم ثمر شجرة واحدة ، فإن عمران بن يصهر أبا موسى وهارون كان من أسباط لاوي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، وعمران بن ماثان أبا مريم أم عيسى عليهالسلام كان من أسباط يهود ابن يعقوب ، وكون محمد عليه الصلاة والسلام من أسباط إسماعيل بن إبراهيم مشهور وكذا كون إبراهيم من نوح عليهالسلام. وسببه أنّ الروح في الصفاء والكدورة يناسب المزاج في الاعتدال وعدمه وقت التكوّن ، فلكلّ روح مزاج يناسبه ويخصّه ، إذ الفيض يصل بحسب المناسبة وتفاوت الأرواح في الأزل بحسب صنوفها ومراتبها في القرب والبعد ، فتتفاوت الأمزجة بحسبها في الأبد لتتصل بها. والأبدان المتناسلة الأرواح من بعض متشابهة في الأمزجة على الأكثر ، اللهمّ إلا لأمور عارضة اتفاقية ، فكذلك الأرواح المتصلة بها متقاربة في الرتبة ، متناسبة في الصفة. وهذا مما يقوي أن المهديّ عليهالسلام من نسل محمد صلىاللهعليهوسلم.
(وَاللهُ سَمِيعٌ) حين قالت امرأة عمران : (رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ) إلى قولها : (الْعَلِيمُ) بنيتها كما شهدت بقولها (إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ). واعلم أن النيّات وهيئات النفس مؤثرة في نفس الولد ، كما أن الأغذية مؤثرة في بدنه. فمن كان غذاؤه حلالا طيبا وهيئات نفسه نورية ونيّاته صادقة حقانيّة ، جاء ولده مؤمنا صديقا أو وليّا أو نبيّا. ومن كان غذاؤه حراما وهيئات نفسه ظلمانية خبيثة ونياته فاسدة رديئة جاء ولده فاسقا أو كافرا خبيثا. إذ النطفة التي يتكوّن الولد منها متولدة من ذلك الغذاء ، مربّاة بتلك النفس ، فتناسبها. ولهذا قال رسول الله صلىاللهعليه وسلم : «الولد سرّ أبيه» ، فكان صدق مريم ونبوّة عيسى عليهماالسلام بركة صدق أبيها (وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً) يجوز أن يراد به الرزق الروحاني من المعارف والحقائق والعلوم والحكم الفائضة عليها من عند الله ، إذ الاختصاص بالعندية يدلّ على كونها من الأرزاق اللدنيّة (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ) كان زكريا شيخا هرما ، وكان مقدّما للناس ، إماما ، طلب من ربّه ولدا حقيقيا يقوم مقامه في تربية الناس وهدايتهم كما أشار إليه في سورة (كهيعص) فوهب له يحيى من صلبه بالقدرة ، بعد ما أمر باعتكاف ثلاثة أيام ولك التأويل بالتطبيق على أحوالك وتفاصيل وجودك كما علمت ، وهو أنّ الطبيعة الجسمانية ، أي : القوة البدنية. امرأة عمران الروح نذرت ما في قوّتها من النفس المطمئنة لله تعالى بانقيادها لأمر الحق ومطاوعتها له ، فوضعت أنثى النفس فكفلها الله ، زكريا الفكر ، بعد ما تقبلها لكونها زكيّة ، قدسيّة ، فكلما دخل عليها زكريا الفكر محراب الدماغ وجد عندها رزقا من المعاني الحدسيّة التي انكشفت عليها بصفائها من غير امتياز الفكر إيّاها. فهنالك دعا زكريا الفكر ، تركيب تلك المعاني واستوهب من الله ولدا طيبا مقدّسا عن لوث الطبيعية ، فسمع الله دعاءه ، أي : أجاب ، فنادته ملائكة القوى الروحانية وهو قائم بأمره في تركيب المعلومات ، يناجي ربّه باستنزال الأنوار ، ويتقرّب إليه بالتوجه إلى عالم القدس في محراب الدماغ.
(أَنَّ اللهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى) العقل بالفعل (مُصَدِّقاً) بعيسى القلب ، مؤمنا به ، وهو كلمة من الله لتقدّسه عن عالم الإجرام والتولّد عن الموادّ (وَسَيِّداً) لجميع أصناف القوى (وَحَصُوراً) مانعا نفسه عن مباشرة الطبيعة الجسمانية وملابسة طبائع القوى البدنية (وَنَبِيًّا) بالإخبار عن المعارف والحقائق الكلية ، وتعليم الأخلاق الجميلة ، والتدابير السديدة بأمر الحق (مِنَ الصَّالِحِينَ) من جملة المفارقات والمجرّدات التي تصلح بأفعالها أن تكون من مقرّبي حضرة الله تعالى بعد أن بلغ الفكر كبر منتهى طوره ولم يكن منتهيا إلى إدراك الحقائق القدسية ، والمعارف الكلية. وكانت امرأته التي هي طبيعة الروح النفسانية لأنها محل تصرّف الفكر عاقرا بالنور المجرّد.
وعلامة ذلك ، أي : علامة حصول النور المجرّد وظهوره من النفس الزكيّة ، إمساكه عن مكالمة القوى البدنية في تحصيل مطالبهم ومآربهم ومخالطتهم في فضول لذّاتهم وشهواتهم ثلاثة أيام ، كلّ يوم عقد تامّ من أطوار عمره عشر سنين ، إلا أن يرمز إليهم بإشارة خفيّة ، ويأمرهم بتسبيحهم المخصوص بكل واحد منهم من غير أن يدنو منهم في مقاصدهم ، وأن يشتغل في الأيام الثلاثة التي مداها ثلاثون سنة من ابتداء سنّ التمييز ، الذي هو العشر الأول ، بذكر ربّه في محراب الدماغ والتسبيح المخصوص به دائما. وكذا قالت ملائكة القوى الروحانية لمريم لنفس الزكية الطاهرة.
(إِنَّ اللهَ اصْطَفاكِ) لتنزّهك عن الشهوات (وَطَهَّرَكِ) عن رذائل الأخلاق والصفات المذمومة (وَاصْطَفاكِ عَلى نِساءِ) نفوس الشهوانية الملونة بالأفعال الذميمة والملكات الرديئة (يا مَرْيَمُ) أطيعي لربك بوظائف الطاعات والعبادات (وَاسْجُدِي) في مقام الانكسار والذلّ والافتقار والعجز والاستغفار (وَارْكَعِي) في مقام الخضوع والخشوع مع الخاضعين.
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦))
(ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ) أي : أحوال غيب وجودك (نُوحِيهِ إِلَيْكَ) يا نبيّ الروح (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) لدى القوى الروحانية والنفسانية ، أي : في رتبتهم ومقامهم (إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) أي : يتسابقون في سهامهم ويتبادرون في حظوظهم أيهم يدبر مريم النفس ويكفلها بحسب رأيه ومقتضى طبعه يترأس عليها ويأمرها بما يراه من مصلحة أمره (وَما كُنْتَ لَدَيْهِمْ) في مقام الصدور الذي هو محل نزاع القوى الروحانية والنفسانية ومحل نزاعهم الذي هو الصدر (إِذْ يَخْتَصِمُونَ) يتنازعون ويتجاذبون في طلب الرياسة عند ظهوره قبل الرياضة وفي حالها ، إذ غلبت ملائكة القوى الروحانية بتوفيق الحق بعد الرياضة. وقالت لمريم النفس : (إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ) القلب موهوبا (مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ) لأنه يمسحك بالنور (وَجِيهاً فِي الدُّنْيا) لإدراكه الجزئيات وتدبير مصالح المعاش أجود وأصفى وأصوب ما يكون ، فيطيعه ويذعن له ، ويحتشمه ويعظمه ، أنس القوى الظاهرة وجنّ القوى الباطنة (وَ) في (الْآخِرَةِ) لإدراكه المعاني الكليّة والمعارف القدسيّة وقيامه بتدبير المعاد والهداية إلى الحق ، فنعطيه ملكوت سماء الروح ، ونكرمه. ومن جملة مقربي حضرة الحق قابلا لتجلياته ومكاشفاته (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ) في مهد البدن (وَكَهْلاً) بالغا إلى قرب طور شيخ الروح ، غالبا عليه بياض نوره (وَمِنَ الصَّالِحِينَ) لمقام المعرفة.
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٤٧))
(قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ) تعجب النفس من حملها وولادتها من غير أن يمسها بشر ، أي من غير تربية شيخ وتعليم معلم بشري ، وهو معنى بكارتها (قالَ كَذلِكِ اللهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ) أي : يصطفي من شاء بالجذب والكشف ويهب له مقام القلب من غير تربية وتعليم كما هو حال المحبوبين وبعض المحبين.
(وَيُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْراةَ وَالْإِنْجِيلَ (٤٨) وَرَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (٥١))
(وَيُعَلِّمُهُ) بالتعليم الربانيّ ، كتاب العلوم المعقولة ، وحكم الشرائع ، ومعارف الكتب الإلهية من التوراة والإنجيل ، أي معارف الظاهر والباطن (وَرَسُولاً) إلى المستعدّين الروحانيين من أسباط يعقوب الروح (أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ) تدلّ على أني آتيكم من عنده (أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ) بالتربية والتزكية والحكمة العملية من طين نفوس المستعدّين الناقصين (كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ) الطائر إلى جناب القدس من شدّة الشوق (فَأَنْفُخُ فِيهِ) من نفث العلم الإلهيّ ونفس الحياة الحقيقية بتأثير الصحبة والتربية (فَيَكُونُ طَيْراً) أي : نفسا حيّة طائرة بجناح الشوق والهمة إلى جناب الحقّ (وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ) المحجوب عن نور الحق الذي لم تنفتح عين بصيرته قط ولم تبصر شمس وجه الحق ولا نوره ولا يعرف أهله بكحل نور الهداية (وَالْأَبْرَصَ) المعيوب نفسه بمرض الرذائل والعقائد الفاسدة ومحبّة الدنيا ولوث الشهوات بطب النفوس (وَأُحْيِ) موتى الجهل بحياة العلم (بِإِذْنِ اللهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ) تتناولون من مباشرة الشهوات واللذّات (وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ) أي : في بيوت غيوبكم من الدواعي والنيّات (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ) أي : من توراة علم الظاهر (وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ) من أنوار الباطن (وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ) بدليل (مِنْ رَبِّكُمْ) هو التوحيد الذي لم يخالفني فيه نبيّ قط (فَاتَّقُوا اللهَ) في مخالفتي ، فإني على الحق (وَأَطِيعُونِ) في دعوتكم إلى التوحيد.
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣))
(فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى) القلب من القوى النفسانية (الْكُفْرَ) الاحتجاب والإنكار والمخالفة (قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللهِ) أي : اقتضى من القوّة الروحانية نصرته عليهم في التوجه إلى الله (قالَ الْحَوارِيُّونَ) أي : صفوته وخالصته من الروحانيات المذكورة (نَحْنُ أَنْصارُ اللهِ آمَنَّا بِاللهِ) بالاستدلال وبالتنوّر بنور الروح (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) مذعنون منقادون (رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ) من علم التوحيد وفيض النور (وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ) الحاضرين لك ، المراقبين لأمرك ، أو من الشاهدين على وحدانيتك.
(وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (٥٤) إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥))
(وَمَكَرُوا) أي : الأوهام والخيالات في اغتيال القلب وإهلاكه بأنواع التسويلات (وَمَكَرَ اللهُ) بتغليب الحجج العقلية ، والبراهين القاطعة عن تخيلاتها وتشكيكاتها ورفع عيسى القلب إلى سماء الروح ، وألقى شبهه على النفس ليقع اغتيالهم (وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) إذ غلب مكره. وقال لعيسى : (إِنِّي مُتَوَفِّيكَ) أي : قابضك إليّ من بينهم (وَرافِعُكَ إِلَيَ) أي : إلى سماء الروح في جواري (وَمُطَهِّرُكَ مِنَ) رجز جوار (الَّذِينَ كَفَرُوا) من القوى الخبيثة ومكرهم وخبث صحبتهم (وَجاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ) من الروحانيين (فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا) من النفسانيات إلى يوم القيامة الكبرى والوصول إلى مقام الوحدة (ثُمَ) يومئذ (إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ) بالحق (فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) قبل الوحدة من التجاذب والتنازع الواقع من القوى. فأقرّ كلا في مقرّه هناك وأعطيه ما يليق به من عندي فيرتفع التخالف والتنازع.
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨))
(فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً) بالحرمان عن مقام القلب ، والاحتجاب بهيئات أعمالهم (وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا) من الروحانيات (وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) من أنواع التزكية والتحلية والتصفية في إعانة القلب على النفس ومتابعته في التوجه إلى الحق (فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ) من الأنوار القدسية والإشراقات الروحية عليهم (وَاللهُ لا يُحِبُ) الذين ينقصون الأجور من الحقوق.
وأما التأويل بغير التطبيق ، فهو أنهم مكروا ببعث من يغتال عيسى عليهالسلام ، فشبّه لهم صورة جسدانية هي مظهر عيسى روح الله عليهالسلام بصورة حقيقة عيسى ، فظنوها عيسى فقتلوها وصلبوها ، والله رفع عيسى عليهالسلام إلى السماء الرابعة لكون روحه عليهالسلام فائضا من روحانية الشمس ، ولم يعلموا لجهالتهم أنّ روح الله لا يمكن قتله. ولما تيقن حاله قبل الرفع قال لأصحابه : «إني ذاهب إلى أبي وأبيكم السماويّ» ، أي : أتطهر من عالم الرجس ، وأتصل بروح القدس الواهب الصور ، المفيض للأرواح والكمالات ، المربي للناس بالنفث في الروح ، فأمدّكم من فيضه. وكان إذ ذاك لا تقبل دعوته ولا يتبع مثله ، فأمر الحواريين بالتفرّق بعده في البلاد والدعوة إلى الحق ، فقالوا : كيف ذاك إذا لم تكن معنا؟ والآن أنت بين أظهرنا ولا تجاب دعوتنا؟ قال : «علامة إمدادي إيّاكم قبول الخلق دعوتكم بعدي». فلما رفع لم يدع أصحابه أحدا إلا أجابهم ، وظهر لهم القبول في الخلق ، وعلت كلمتهم ، وانتشر دينهم في أقطار الأرض. ولما لم يصل إلى السماء السابعة التي عرّج بمحمد صلىاللهعليهوسلم إليها ، المعبر عنها ب «سدرة المنتهى» أعني : مقام النهاية في الكمال ، ولم ينل درجة المحبة ، لم يكن له بد من النزول مرة أخرى في صورة جسمانية ، يتبع الملّة المحمدية لنيل درجتها ، والله أعلم بحقائق الأمور.
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (٦٠))
(إِنَّ مَثَلَ عِيسى) أي : إنّ صفته عند الله في إنشائه بالقدرة من غير أب (كَمَثَلِ آدَمَ) في إنشائه من غير أبوين. واعلم أنّ عجائب القدرة لا تنقضي ولا قياس ثمة على أن لتكوّن الإنسان من غير الأبوين نظيرا من عالم الحكمة ، فإن كثيرا من الحيوانات الناقصة الغريبة الخلقة تتولد خلقا في ساعة ، ثم تتناسل وتتوالد ، فكذا الإنسان ، يمكن حدوثه بالتولد في دور من الأدوار ، ثم بالتولد ، وكذا التكوّن من غير أب ، فإنّ منيّ الرجل أحرّ كثيرا من منيّ المرأة ، وفيه القوة العاقدة أقوى كما في الإنفحة بالنسبة إلى الجبن ، والمنعقدة في منيّ المرأة أقوى ، كما في اللبن فإذا اجتمعا تمّ العقد وانعقد ، ويتكوّن الجنين. فيمكن وجود مزاج إناثيّ قوي يناسب المزاج الذكوري كما يشاهد في كثير من النسوان ، فيكون المتولد في كليتها اليمنى بمثابة منيّ الذكر لفرط حرارته بمجاورة الكبد لمن مزاج كبدها صحيح قويّ الحرارة ، والمتولد في كليتها اليسرى بمثابة منيّ الأنثى فإذا احتملت المرأة لاستيلاء صورة ذكورية على خيالها في النوم واليقظة بسبب اتصال روحها بروح القدس وبملك آخر ، ومحاكاة الخيال ، ذلك كما قال تعالى : (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١) سبق المنيّان من الجانبين إلى الرحم فتكون في المنصب من الجانب الأيمن قوّة العقد أقوى ، وفي المنصب من الجانب الأيسر قوّة الانعقاد ، فيتكوّن الجنين ويتعلق به الروح. وقوله : (كُنْ فَيَكُونُ) إشارة إلى نفخ الروح وكونه من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة ، كخلق الجسد ، فيتناسب آدم وعيسى بما ذكر في اشتراكهما في خرق العادة وبكون جسديهما مخلوقين من تراب العناصر ، مسبوقين بمادة ومدة وكون روحهما مبدعا من عالم الأمر ليس مسبوقا بمادة ومدة.
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللهُ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٥) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٦٦) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَما يَشْعُرُونَ (٦٩) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقى فَإِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللهِ وَلكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَبِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْباباً أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٨١))
(فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ) أي : في عيسى ، الآية. إن لمباهلة الأنبياء تأثيرا عظيما سببه اتصال نفوسهم بروح القدس وتأييد الله إياهم به ، وهو المؤثر بإذن الله في العالم العنصري فيكون انفعال العالم العنصري منه كانفعال بدننا من روحنا بالهيئات الواردة عليه كالغضب والحزن والفكر في أحوال المعشوق وغير ذلك من تحرّك الأعضاء عند حدوث الإرادات والعزائم وانفعال النفوس البشرية منه كانفعال حواسنا وسائر قوانا من هيئات أرواحنا. فإذا اتصل نفس قدسيّ به أو ببعض أرواح أجرام السماوية والنفوس الملكوتية كان تأثيرها في العالم عند التوجه الاتصالي تأثير ما يتصل به فتنفعل أجرام العناصر والنفوس الناقصة الإنسانية منه بما أراد. ألم تر كيف انفعلت نفوس النصارى من نفسه عليهالسلام بالخوف وأحجمت عن المباهلة وطلبت الموادعة بقبول الجزية. (وَما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللهُ) أي : ليس عيسى من الإلهية في شيء ، فلا يستحق العبادة بمجرد تجرّد ذاته ، فإن عالم الملكوت والجبروت كله كذلك.
(سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ) أي : لم يختلف في كلمة التوحيد نبي ولا كتاب قط (ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللهُ) الآية. الاستنباء لا يكون إلا بعد مرتبة الولاية والفناء في التوحيد. ما ينبغي لبشر محا الله بشريته بإفنائه عن نفسه وأثابه وجودا نورانيا حقّانيا قابلا للكتاب والحكمة الإلهية ، ثم يدعو الخلق إلى نفسه ، إذ الداعي إلى نفسه يكون محجوبا بالنفس كفرعون وأضرابه من الذين علموا التوحيد وما وجدوه حالا وذوقا ، ولم يصلوا إلى العيان ونفوسهم باقية ما ذاقت طعم الفناء ، فاحتجبوا بها ، فدعوا الخلق إلى نفوسهم وهم ممن قال فيهم رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «شرّ الناس من قامت القيامة عليه وهو حيّ».
(وَلكِنْ) يقول (كُونُوا رَبَّانِيِّينَ) منسوبين إلى الربّ لاستيلاء الربوبية عليهم وطمس البشرية بسبب كونهم عالمين عاملين معلمين تالين لكتب الله ، أي : كونوا عابدين مرتاضين بالعلم والعمل والمواظبة على الطاعات حتى تصيروا ربانيين بغلبة النور على الظلمة (وَلا يَأْمُرَكُمْ) بتعبد معين والتقيد بصورة ، فإنه حجاب وكفر ولا يأمر النبيّ صلىاللهعليهوسلم بالاحتجاب بعد إسلامكم الوجود لله. (وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ) إلى آخره ، إن بين النبيين تعارفا أزليّا بسبب كونهم أهل الصف الأول ، عرفاء بالله ، وكل عارف يعرف مقام سائر العرفاء ومتعهدهم من الله بعهد التوحيد عامّ لبني آدم ، كما ذكر ، وعهد النبيين خاص بهم وبمن يعرفهم بحق المتابعة ، فقد أخذ الله من النبيين عهدين أحدهما ما ذكر في قوله : (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ) (١) إلى آخره. وثانيهما ما ذكر في قوله تعالى : (وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (٧)) (٢) وهو عهد التعارف بينهم ، وإقامة الدين ، وعدم التفرّق به بتصديق بعضهم بعضا ودعوة الحق إلى التوحيد ، وتخصيص العبادة بالله تعالى ، وطاعة النبي صلىاللهعليهوسلم ، وتعريف بعضهم بعضا إلى أممهم وخصوصة بسبب أن معرفة الله تعالى في صورة التفاصيل ، وحجب الصفات ، وتكثر المظاهر أدق وأخفى من معرفته في عين الجمع وهم من رزق حق المتابعة عارفون بذلك وبأحكام تجلّيات الصفات التي هي الشرائع خاصة دون من عداهم.
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللهِ وَما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَما أُوتِيَ مُوسى وَعِيسى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤))
(فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ) أي : بعد ما علم عهد الله مع النبيين وتبليغ الأنبياء إليه ما عهد الله إليهم (فَأُولئِكَ هُمُ) الخارجون عن دين الله ولا دين غيره معتد به في الحقيقة إلا توهما (أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ) وكلّ من في السموات والأرض يدين بدينه (طَوْعاً) كما عدا الإنسان والشيطان (وَكَرْهاً) كالإنسان والشيطان إذ الكفر لا يسع موجودا سواهما ، فكلهم ممتثلون لما أمرهم الله ، طائعون. والإنسان لاحتجابه بإرادته ونسيانه عهد الله وقبوله لدعوة الشيطان لمناسبته إياه بالظلمة النفسانية لا يؤمن ولا ينقاد إلا كرها ، اللهمّ إلا من عصمه الله واجتباه ، والشيطان لاحتجابه بعجبه وأنيته في قوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ) (٣) وإبائه ، واستكباره كفر ، وهو مع ذلك يعلم عصيانه ويؤمن كرها ، ويتحقق أن كفره بإرادته تعالى وذلك عين الإيمان ، كما قال تعالى : (كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (١٦)) (٤) ، وقال تعالى :
(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨)) ، وفي موضع آخر : (وَقالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ) (٢) ، فهذه الآيات دالة على إيمانه ولكن حين لا ينفعه (وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ) في العاقبة ، فلا يبقى دين غير دين الله بل الكلّ عند الرجوع يدين بدينه.
كلّ يدين بدين الحق لو فطنوا
وليس دين لغير الحق مشروع
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (٨٥))
(وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً)
المراد من الإسلام هاهنا : التوحيد الذي هو دين الله في قوله : (أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ) وهو المذكور في الآية التي قبلها ، وما وصف شموله لجميع الأديان ويلزمه الانقياد التام الطوعي المذكور في فاصلة الآية بقوله : (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) (٣) ، (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) لعدم وصول دينه إلى الحق تعالى لمكان الحجاب (وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ) الذين خسروا باشترائهم أنفسهم وما حجبوا به بالحق.
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (٩٠)) (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٩١))
(كَيْفَ يَهْدِي اللهُ قَوْماً) إلى آخره ، أنكر هدايته تعالى لقوم قد هداهم أولا بالنور الاستعدادي إلى الإيمان ، ثم بالنور الإيماني إلى أن عاينوا حقيّة الرسول صلىاللهعليهوسلم وأيقنوا بحيث لم يبق لهم شك ، وانضمّ إليه الاستدلال العقليّ بالبينات ثم ظهرت نفوسهم بعد هذه الشواهد كلها بالعناد واللجاج وحجبت أنوار قلوبهم وعقولهم وأرواحهم الشاهدة ثلاثتها بالحق للحق لشؤم ظلمهم وقوّة استيلاء نفوسهم الأمّارة عليهم الذي هو غاية الظلم ، فقال : (وَاللهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ)
لغلظ حجابهم وتعمقهم في البعد عن الحق ، وقبول النور وهم قسمان : قسم رسخت هيئة استيلاء النفوس الأمّارة على قلوبهم فيهم وتمكنت وتناهوا في الغيّ والاستشراء ، وتمادوا في البعد والعناد ، حتى صار ذلك ملكة لا تزول ، وقسم لم يرسخ ذلك فيهم بعد ولم يصر على قلوبهم رينا ، ويبقى من وراء حجاب النفس مسكة من نور استعدادهم عسى أن تتداركهم رحمة من الله وتوفيق ، فيندموا ويستحيوا بحكم غريزة العقول. فأشار إلى القسم الأول بقوله : (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ) إلى آخره.
وإلى الثاني بقوله : (إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا) بالمواظبة على الأعمال والرياضات ما أفسدوا (فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَباً) إذ لا تقبل هناك إلا الأمور النورانية الباقية لأن الآخرة هي عالم النور والبقاء ، فلا وقع ولا خطر للأمور الظلمانية فيها الفانية. وهل كان سبب كفرهم واحتجابهم إلا محبّة هذه الفواسق الفانية؟ ، فكيف تكون سبب نجاتهم وقربهم وقبولهم وندبتهم وهي بعينها سبب هلاكهم وبعدهم وخسرانهم وحرمانهم.
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢))
(لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ) كلّ فعل يقرّب صاحبه من الله فهو برّ ، ولا يمكن التقرّب إليه إلا بالتبرّي عما سواه ، فمن أحب شيئا فقد حجب عن الله تعالى به وأشرك شركا خفيّا لتعلق محبته بغير الله ، كما قال تعالى : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) (١) وآثر نفسه به على الله ، فقد بعد من الله بثلاثة أوجه وهي : محبة غير الحق ، والشرك ، وإيثار النفس على الحق. فإن آثر الله به على نفسه وتصدّق به وأخرجه من يده ، فقد زال البعد وحصل القرب ، وإلا بقي محجوبا وإن أنفق من غيره أضعافه فما نال برّا لعلمه تعالى بما ينفق وباحتجابه بغيره.
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥))
(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ) أي : العقلاء بحكم الأصل ، إذ العقل يحكم بأن الأشياء خلقت لمنافع العباد مطلقا فما يكون من جملة المطعومات خلقت لتناولها (إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ) الروح (عَلى نَفْسِهِ) بالنظر العقليّ عند التجربة والقياس ومعرفة مضارها ومنافعها على التفصيل بعد الحكم الإجمالي بحلها ، فإن العقل يحكم بحرمة ما يضرّ أو يهلك.
(مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي : من قبل نزول الحكم الشرعي بالتوراة وسائر الكتب الإلهية وذلك أن الناس اختلفوا بعد ما كانوا أمّة واحدة على دين الحق ، كما ذكر ، فبعث الله النبيين لهدايتهم وإصلاح أحوال معاشهم ومعادهم ، وردّهم إلى الحق والاتفاق ، فما اقتضت الحكمة الإلهية بحسب أحوالهم المختلفة وطباع قلوبهم المخرّفة ونفوسهم المريضة ، حرمته من المألوفات والأشياء الصارفة عن الحق الحاجبة بينهم وبين الله ، والمهيجة للهوى والشهوات وسائر المفاسد والفتن المانعة إياهم عن كمالهم واهتدائهم حرّم عليهم.
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢))
(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ) قيل : هو أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق السماء والأرض ، خلقه قبل الأرض بألفي عام ، وكان زبدة بيضاء على وجه الماء ، فدحيت الأرض تحته. فالبيت إشارة إلى القلب الحقيقيّ ، وظهوره على وجه الماء تعلقه بالنطفة عند سماء الروح الحيوانيّ ، وأرض البدن وخلقه قبل الأرض إشارة إلى قدمه ، وحدوث البدن وتعيينه بألفي عام إشارة إلى تقدّمه على البدن بطورين : طور النفس ، وطور القلب. تقدّما بالرتبة ، إذ الألف رتبة تامة كما سبقت الإشارة إليه ، وكونه زبدة بيضاء إشارة إلى صفاء جوهره ، ودحو الأرض تحته إشارة إلى تكوّن البدن من تأثير ، وكون أشكاله وتخطيطاته وصور أعضائه تابعة لهيئاته فهذا تأويل الحكاية.
واعلم أن محل تعلق الروح بالبدن ، واتصال القلب الحقيقي به أولا هو القلب الصوري ، وهو أول ما يتكوّن من الأعضاء ، وأول عضو يتحرك وآخر عضو يسكن فيكون أول بيت وضع للناس (لَلَّذِي بِبَكَّةَ) الصدر صورة أو أوّل متعبد ومسجد وضع للناس للقلب الحقيقي الذي ببكة الصدر المعنويّ ، وذلك الصدر أشرف مقام من النفس وموضع ازدحامات القوى المتوجهة إليه (مُبارَكاً) ذا بركة إلهية من الفيض المتصل منه بجميع الوجود والقوّة والحياة ، فإنّ جميع القوى التي في الأعضاء تسري منه أولا إليها (وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) سبب هداية ونور يهتدى به إلى الله (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ) من العلوم والمعارف والحكم والحقائق (مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي : العقل الذي هو موضع قدم إبراهيم الروح ، يعني محلّ اتصال نوره من القلب (وَمَنْ دَخَلَهُ) من السالكين والمتحيرين في بيداء الجهالات (كانَ آمِناً) من أغواء سعالى المتحيلة ، وعفاريت أحاديث النفس ، واختطاف شياطين الوهم ، وجنّ الخيالات ، واغتيال سباع القوى النفسانية وصفاتها.
(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُ) هذا (الْبَيْتِ) والطواف به (مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) من السالكين ، المستعدّين الصادقين في الإرادة ، القادرين على زاد التقوى ، وراحلة قوّة العزم دون من عداهم من الضعاف في الاستعداد ، القاعدين من الضعف والمرض وسائر الموانع الخلقية أو العارضة النفسانية أو البدنية (وَمَنْ كَفَرَ) أي : حجب استعداده مع القدرة وأعرض عنه بهوى النفس (فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌ) عنه و (عَنِ الْعالَمِينَ) كلهم ، أي : لا يلتفت إليه لبعده وكونه غير قابل لرحمته في ذلّ الحجاب ، وهو أن الحرمان مخذولا مردودا (وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ) بالانقطاع عما سواه ، والتمسك بالتوحيد الحقيقيّ (فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) إذ الصراط المستقيم هو طريق الحق تعالى ، كما قال : (إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) (١) ، فمن انقطع إليه بالفناء في الوحدة كان صراطه صراط الله (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) في بقايا وجودكم ، فإن حقّ اتقائه هو أن يتقى كما يجب ، ويحق وهو الفناء فيه ، أي : اجعلوه وقاية لكم في الحذر عن بقايا ذواتكم وصفاتكم ، فإن في الله خلفا عن كلّ ما فات (وَلا تَمُوتُنَ) إلا على حال إسلام الوجوه له ، أي : ليكن موتكم هو الفناء في التوحيد.
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))
(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً) أي : بعهده في قوله : (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ) (٢) مجتمعين على التوحيد (وَلا تَفَرَّقُوا) باختلاف الأهواء ، فإن التفرّق عن الحق إنما يكون باختلاف الطبائع واتباع الهوى وتجاذب القوى ، والموحد عنها بمعزل ، إذ تنوّر قلبه بنور الحق واستنارت نفسه من فيض القلب فتسالمت القوى وتصادقت.
(وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) بالهداية إلى التوحيد المفيد للمحبة في القلوب (إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً) لاحتجابكم بالحجب النفسانية والغواشي الطبيعية ، بعداء عن النور والمقاصد الكلية التي تقبل الشركة وتزال بالاتفاق في مهوى الظلمة (فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ) بالتحابّ في الله لتتنوّر بنوره (فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) في الدين ، أصدقاء في الله (وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ) هي مهوى الطبيعة الفاسقة ومحل الحرمان والتعذيب (فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) بالتواصل الحقيقيّ بينكم إلى سدرة مقام الروح ، وروح جنة الذات (كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ) بتجليات الصفات اللطيفة والإشراقات النورية (لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) إلى جماله وتجلي ذاته.
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥))
(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) أي : ليكن من جملتكم جماعة عالمون ، عاملون ، عارفون ، أولو استقامة في الدين كشيوخ الطريقة (يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ) فإن من لم يعرف الله لم يعرف الخير ، إذ الخير المطلق هو الكمال المطلق الذي يمكن للإنسان بحسب النوع من معرفة الحق تعالى ، والوصول إليه ، والإضافي ما يتوصل به إلى المطلق أو الكمال المخصوص بكلّ أحد على حسب اقتضاء استعداده الخاص. فالخير المدعوّ إليه ، أما الحق تعالى ، وأما طريق الوصول.
والمعروف كل أمر واجب أو مندوب في الدين ، يتقرّب به إلى الله تعالى ، والمنكر كلّ محرّم أو مكروه يبعد عن الله تعالى ويجعل فاعله عاصيا أو مقصرا مذموما. فمن لم يكن له التوحيد والاستقامة ، لم يكن له مقام الدعوة ولا مقام الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لأن غير الموحد ربما يدعو إلى طاعة غير الله وغير المستقيم في الدين وإن كان موحدا ربما أمر بما هو معروف عنده ، منكر في نفس الأمر وربما نهى عما هو منكر عنده ، معروف في نفس الأمر ، كمن بلغ مقام الجمع واحتجب بالحق عن الخلق ، فكثير إما يستحلّ محرّما كبعض المسكرات والتصرّف في أموال الناس ، ويحرّم حلالا بل مندوبا كتواضع الخلق ومكافأة الإحسان وأمثال ذلك (وَأُولئِكَ هُمُ) الأخصاء بالفلاح ، الذين لم يبق لهم حجاب وهم خلفاء الله في أرضه.
(وَلا تَكُونُوا) ناشئين بمقتضى طباعكم غير متابعين لإمام ولا متفقين على كلمة واحدة باتباع مقدم يجمعكم على طريقة واحدة (كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا) واتبعوا الأهواء والبدع (وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ) الحجج العقلية والشرعية الموجبة لاتحاد الوجهة ، واتفاق الكلمة. فإن للناس طبائع وغرائز مختلفة وأهواء متفرّقة ، وعادات وسيرا متفاوتة ، مستفادة من أمزجتهم وأهويتهم ، ويترتب على ذلك فهوم متباينة ، وأخلاق متعادية ، فإن لم يكن لهم مقتدى وإمام تتحد عقائدهم وسيرهم وآراؤهم بمتابعته ، وتتفق كلماتهم وعاداتهم وأهواؤهم بمحبته وطاعته كانوا مهملين متفرّقين فرائس للشيطان كشريدة الغنم تكون للذئب ، ولهذا قال أمير المؤمنين عليّ عليهالسلام : «لا بدّ للناس من إمام برّ أو فاجر». ولم يرسل نبي الله صلىاللهعليه وسلم رجلين فصاعدا لشأن إلا وأمر أحدهما على الآخر وأمر الآخر بطاعته ومتابعته ليتحد الأمر وينتظم ، وإلا وقع الهرج والمرج ، واضطرب أمر الدين والدنيا ، واختلّ نظام المعاش والمعاد.
قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «من فارق الجماعة قيد شبر لم ير بحبوحة الجنّة». وقال صلىاللهعليهوسلم : «الله مع الجماعة». ألا ترى أن الجمعية الإنسانية إذا لم تنضبط برياسة القلب وطاعة العقل كيف اختل نظامها وآلت إلى الفساد والتفرّق الموجب لخسارة الدنيا والآخرة ، ولما نزل قوله تعالى : (وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ) (١). خطّ رسول الله صلىاللهعليهوسلم خطّا فقال : «هذا سبيل الرشد» ، ثم خطّ عن يمينه وشماله خطوطا فقال : «هذه سبل على كلّ سبيل شيطان يدعوه إليه».
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آياتُ اللهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (١٠٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (١٠٩) كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (١١٠))
(يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ) ابيضاض الوجه عبارة عن تنوّر وجه القلب بنور الحق للتوجه إليه والإعراض عن الجهة السفلية النفسانية المظلمة ، وذاك لا يكون إلا بالتوحيد والاستقامة فيه بتنوّر النفس أيضا بنور القلب. فتكون الجملة متنوّرة بنور الله واسوداده ظلمة وجه القلب بالإقبال على النفس الطالبة حظوظها والإعراض عن الجهة النوريّة الحقيّة لمصادقة النفس ومتابعة الهوى في تحصيل لذاتها ، وذلك إنما يكون باتباع السبل المتفرّقة الشيطانية. (فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ) فيقال لهم : (أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ) أي : احتجبتم عن نور الحق بصفات النفس الظلمانية ، وسكنتم في ظلماتها بعد هدايتكم وتنوّركم بنور الاستعداد ، وصفاء الفطرة وهداية العقل (فَذُوقُوا) عذاب الحرمان باحتجابكم عن الحق (وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللهِ) التي هي روح الوصال ونور القدس وشهود الجمال (هُمْ فِيها خالِدُونَ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ) لكونكم موحدين ، قائمين بالعدل الذي هو ظله (تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) إذ لا يقدر على ذلك إلا الموحد العادل لعلمه بالمعروف والمنكر ، كما مرّ في تأويل قوله : (وَكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) (١). قال أمير المؤمنين عليهالسلام : «نحن النمرقة الوسطى ، بنا يلحق التأويل ، وإلينا يرجع الغالي». فيأمرون المقصر بالمعروف الذي يوصله إلى مقام التوحيد ، وينهون الغالي المحجوب بالجمع عن التفصيل وبالوحدة عن الكثرة. (وَتُؤْمِنُونَ بِاللهِ) أي : تثبتون في مقام التوحيد الذي هو الوسط ، وكذا في كلّ تفريط وإفراط واعتدال في باب الأخلاق (وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ) لكانوا مثلكم.
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَإِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (١١١))
(لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً) لكونهم منقطعين عن أصل القوى والقدر ، كائنين في الأشياء بالنفس التي هي محل العجز والشرّ ، وأنتم معتصمون بالله ، معتضدون به ، كائنون في الأشياء بالحق الذي هو منبع القهر. فقدرتهم لا تبلغ إلا حدّ الطعن باللسان والخبث والإيذاء الذي هو حدّ قدرة النفس ونهايتها ، وقدرتكم تفوق كلّ قدرة بالقهر والاستئصال لاتصافكم بصفات الله تعالى ، فلا جرم ينهزمون منكم عند المقاتلة ولا ينصرون.
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَباؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَكانُوا يَعْتَدُونَ (١١٢))
(ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ) لأنّ العزّة لله جميعا ، فلا نصيب فيها لأحد إلا لمن تخلّق بصفاته بمحو صفات البشرية ، كالرسول والمؤمنين الذين هم مظاهر عزّته ، كما قال الله تعالى : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٢) ، فمن خالفهم فهو مضادّ لصفة العزّة ، مباين للأعزاء ، فتلزمه الذلّة وتشمله على أي حال يكون ، إلا برابطة ما بينه وبين أهل العزّة كقوله : (إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ) أي : ذمّة وعهد ، وذلك يكون أمرا عارضيا لا أصل له مرتبطا برابطة مجعولة فلا تقابل صفتهم الذاتية اللازمة لهم التي هي الذلّة الناشئة من أصل نفوسهم. واستحقوا غضبا شديدا من عند الله لبعدهم وإعراضهم عن الحق ، ولزمتهم المسكنة لانقطاعهم عن الله إلى نفوسهم فوكلهم إلى أنفسهم.
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللهِ آناءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَأُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللهِ شَيْئاً وَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (١١٦))
(لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ) أي : بالله ، ثم وصفهم بأحوال أهل الاستقامة ، أي منهم أهل التوحيد والاستقامة (وَما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ) أي : كل ما يصدر منكم مما يقربكم عند الله يتصل به جزاؤه ومنه لن تحرموا شيئا منه. قال الله تعالى : «من تقرب إليّ شبرا تقرّبت إليه ذراعا ، ومن تقرّب إليّ ذراعا تقرّبت إليه باعا ، ومن أتاني مشيا أتيته هرولة» ... الحديث. وقال تعالى : «أنا جليس من ذكرني ، وأنيس من شكرني ، ومطيع من أطاعني» أي : كما أطعتموه بتصفية الاستعداد والتوجه نحوه ، أطاعكم بإفاضة الفيض على حسبه والإقبال إليكم (وَاللهُ عَلِيمٌ) بالذين اتّقوا ما يحجبهم عنه فيتجلى لهم بقدر زوال الحجاب.
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ وَلكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧))
(مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا) الفانية ولذاتها السريعة الزوال ، طلبا للشهوات أو رياء وسمعة في المفاخر ، وطلب محمدة الناس ، لا يطلبون به وجه الله ، وما تهلكه وتفنيه بالكليّة من ريح هوى النفس التي فيها برّ دنياتكم الفاسدة وأغراضكم الباطلة كالرياء ونحوه (كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) بالشرك والكفر (فَأَهْلَكَتْهُ) عقوبة من الله لظلمهم (وَما ظَلَمَهُمُ اللهُ) بإهلاك حرثهم (وَلكِنْ) كانوا أنفسهم يظلمون لأنه مسبب عن ظلمهم ، كما قيل : مهلا فيداك وكتا وفوك نفخ.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨))
(لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ) بطانة الرجل صفيه وخليصه الذي يبطنه ويطلع عليه أسراره ، ولا يمكن وجود مثل هذا الصديق إلا إذا اتحدا في المقصد واتفقا في الدين والصفة ، متحابين في الله لا لغرض كما قيل في الأصدقاء نفس واحدة في أبدان متفرّقة ، فإذا كان من غير أهل الإيمان فبأن يكون كاشحا أحرى. ثم بيّن نفاقه واستبطانه العداوة بقوله : (لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً) إلى آخره ، إذ المحبة الحقيقية الخالصة لا تكون إلا بين الموحدين ، لكونها ظلّ الوحدة فلا تكون بين المحجوبين لكونهم في عالم التضادّ والظلمة. فأين الصفاء والوفاق في عالمهم؟ بل ربما تتآلفهم الجنسية العامة الإنسانية لاشتراكهم في النوع والمنافع والملاذ واحتياجهم إلى التعاون فيها ، فإذا لم تتحصل أغراضهم من النفع واللّذة تهارشوا وتباغضوا وبطلت الألفة التي كانت بينهم ، لكونها مسببة عن أمر قد تغير إذ النفس منشأ التغير والمنافع الدنيوية لا تبقى بحالها ، واللذات النفسانية سريعة الانقضاء فلا تدوم المحبة عليها بخلاف المحبة الأولى ، فإنها مستندة إلى أمر لا تغير فيه أصلا ، هذا إذا كانت فيما بينهم ، فكيف إذا كانت بينهم وبين من يخالفهم في الأصل والوصف؟ وأنّى يتجانس النور والظلمة؟ ومن أين يتوافق العلو والسفل؟ فبينهما عداوة حقيقية وتخالف ذاتي لا تخفى آثاره كما بيّن الله تعالى بقوله : (قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ) لامتناع اختفاء الوصف الذاتيّ. قال النبي صلىاللهعليهوسلم : «ما أضمر أحد شيئا إلا وأظهره الله في فلتات لسانه وصفحات وجهه». (وَما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ) لأنه نار وهذا شرار ، ذاك أصل ، وهذا فرعه (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ) دلائل المحبة والعداوة وأسبابهما (إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) أي : تفهمون من فحوى الكلام.
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١١٩))
(ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ) بمقتضى التوحيد ، إذ الموحد يحب الناس كلهم بالحق للحق ، ويراهم متصلين بنفسه اتصال الأحماء والأقرباء بل اتصال الأجزاء ، فينظر إليهم بنظر الرحمة الإلهية والرأفة الربانية ، ويعطف عليهم مترحما إذ يراهم أهل الرحمة شغلوا بالباطل ، وابتلوا بالقدر ولا يحبونكم بمقتضى الحجاب والبقاء في ظلمة النفس وتضادّ الطبع.
(وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ) أي بجنس الكتاب (كُلِّهِ) لشمول علمكم التوحيدي ، ولا يؤمنون للتقيد بدينهم والاحتجاب بما هم عليه (وَإِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا) لنفاقهم المستجلب لأغراضهم العاجلة (وَإِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) لحقدهم الذاتي وبغضهم الكامن والباقي ظاهر.
(إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَاللهُ وَلِيُّهُما وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (١٢٤))
(وَإِنْ تَصْبِرُوا) على ما يبتليكم الله به من الشدائد والمحن والمصائب ، وتثبتوا على مقتضى التوحيد والطاعة (وَتَتَّقُوا) الاستعانة بهم في أموركم والالتجاء إلى ولايتهم (لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً) لأن المتوكل على الله ، الصابر على بلائه ، المستعين به لا بغيره ، ظافر في طلبته ، غالب على خصمه ، محفوظ بحسن كلاءة ربه ، والمستعين بغيره مخذول موكول إلى نفسه ، محروم عن نصرة ربه.
(إِنَّ اللهَ بِما يَعْمَلُونَ) من المكايد (مُحِيطٌ) فيبطلها ويهلكها ، وقد قيل : إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلا في نفسك. فالصبر والتقوى من أجمل الفضائل إن لزمتموهما تظفروا على عدوّكم.
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦))
(بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ) الآية ... الصبر على مضض الجهاد وبذل النفس في طاعة الله ، وتحمل المكروه طلبا لرضا الله لا يكون إلا عند التقوى بتأييد الحق وتنوّره بنور اليقين ، وثباته بنزول السكينة والطمأنينة عليه ، والتقوى في مخالفة أمر الحق والميل إلى النفع والغنيمة ، وخوف تلف النفس لا تكون إلا عند انكسار النفس تحت قهر سلطان القلب والروح ، إذ الثبات والوقار صفة الروح والطيش ، والاضطراب صفة النفس ، فإذا استولى سلطان الروح على القلب وأخذ مملكته عصمه من استيلاء صفات النفس وجنودها عليه ، فيعشقه القلب ويسكن إليه لنورانيته المحبوبة لذاتها ويتقوّى به على النفس وقواها فيهزمها ويكسرها ويدفع غلبتها وظلمتها عن نفسه ، ويجعلها ذلولا مطيعة مطمئنة إليه فيزول عنها الاضطراب وتتنوّر بنوره وعند ذلك تنزل الرحمة ، ويناسب القلب ملكوت السماء في نورانيتها وقهرها لما تحتها ، ومحبتها وشوقها لما فوقها. وبذلك المناسب يصل بها ويستنزل قواها وأوصافها في أفعاله خصوصا عند اهتياجه وانقلاعه عن الجهة السفلية ، وانقطاعه بقوة اليقين والتوكل إلى الجهة العلوية. ويستمد من قوى قهرها على من يغضب عليه فذلك نزول الملائكة ، وإذا جزع وهلع وتغير وخاف أو مال إلى الدنيا غلبته النفس وقهرته واستولت عليه وحجبته بظلمة صفاتها عن النور ، فلم تبق تلك المناسبة ، فانقطع المدد ولم تنزل الملائكة (وَما جَعَلَهُ اللهُ إِلَّا بُشْرى لَكُمْ) أي : ما جعل الإمداد بالملائكة إلا لتستبشروا به فتزداد قوة قلوبكم وشجاعتكم ونجدتكم ونشاطكم في التوجه إلى الحق والتجريد للسلوك (وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ) فتتحقق الفيض بقدر التصفية والخلف بقدر الترك.
(وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللهِ) لا من الملائكة ولا من غيرهم ، فلا تحتجبوا بالكثرة عن الوحدة ، ولا بالخلق عن الحق ، فإنها مظاهر لا حقيقة لها ولا تأثير ، (الْعَزِيزِ) القوي الغالب بقهره (الْحَكِيمِ) الذي ستر قهره ونصرته بصور الملائكة بحكمته.
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (١٢٨) وَلِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (١٢٩) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُوا اللهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢))
(لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا) يقتل بعضهم تقوية للمؤمنين (أَوْ يَكْبِتَهُمْ) يخزيهم ويذلهم بالهزيمة إعزازا للمؤمنين (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) بالإسلام تكثيرا لسواد المؤمنين (أَوْ يُعَذِّبَهُمْ) بسبب ظلمهم وإصرارهم على الكفر تفريحا للمؤمنين. وأوقع بين المعطوف والمعطوف عليه في أثناء الكلام قوله : (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ) اعتراضا لئلا يغفل رسول الله صلىاللهعليهوسلم فيرى لنفسه تأثيرا في بعض هذه الأمور ، فيحتجب عن التوحيد ولا يزول ، وتتغير شهوده في الأقسام كلها ، أي : ليس لك من أمرهم شيء كيفما كان ، ما أنت إلّا بشر مأمور بالإنذار ، إن عليك إلّا البلاغ ، إنما أمرهم إلى الله.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا) أي : توكلوا على الله في طلب الرزق فلا تكسبوه بالربا ، فإنه واجب عليكم كما يجب عليكم التوكل عليه في طلب الفتح وجهاد العدوّ لئلا تجبنوا بكلاءة الله وحفظه. واعلموا أن جزاء المرابي هو جزاء الكافر ، فاحذروه لكونه محجوبا عن أفعاله تعالى كما أن الكافر محجوب عن صفاته وذاته ، والمحجوب غير قابل للرحمة وإن اتسعت ، فارفعوا الحجاب بالطاعة وترك المخالفة كي تدرككم رحمة الله.
(وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣))
(وَسارِعُوا إِلى) ستر أفعالكم التي هي حجابكم عن مشاهدة أفعال الحق بأفعاله تعالى ، فإنما حرمتم عن التوكل وجنة عالم الملك التي هي تجلي الأفعال برؤية أفعالكم ، أي : إلى ما يوجب ستر أفعالكم بأفعاله ، وجنّة الأفعال من الطاعات بعد كما ورد : «أعوذ بعفوك من عقابك». ولأن المراد بالجنّة هنا جنة الأفعال ، وصف عرضها بمساواة عرض السموات والأرض ، إذ توحيد الأفعال هو توحيد عالم الملك وإنما قدّر طولها لأن الأفعال باعتبار السلسلة العرضية ، وهي توقف كل فعل على فعل آخر تنحصر في عالم الملك الذي يتقدّره الناس. وإما باعتبار الطول فلا تنحصر فيه ولا يقدّرها ، إذ الفعل مظهر الوصف ، والوصف
١٢٢
مظهر الذات ، فلا نهاية له ولا حدّ. فالمحجوبون عن الذات والصفات لا يرون إلا عرض هذه الجنّة ، وأما البارزون لله الواحد القهار فعرض جنتهم عين طولها ولا حدّ لطولها فلا يقدر قدرها طولا ولا عرضا (أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) الذين يتقون حجب أفعالهم وشرك نسبة الأفعال إلى غير الحق.
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )
(الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ) لا تمنعهم الأحوال المضادّة عن الإنفاق لصحة توكلهم على الله برؤية جميع الأفعال منه (وَالْكاظِمِينَ الْغَيْظَ) لذلك أيضا ، إذ يرون الجناية عليهم فعل الله فلا يعترضون ، ولو لم يغيظوا كانوا في مقام الرضا وجنة الصفات (وَالْعافِينَ عَنِ النَّاسِ) لما ذكرنا ، ولتعوذهم بعفوه تعالى عن عقابه (وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) الذين يشاهدون تجليات أفعاله تعالى.
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥))
(وَالَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً) كبيرة من الكبائر ، برؤية أفعالهم صادرة عن قدرتهم (أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) نقضوا حقوقها بارتكاب الصغائر وظهور أنفسهم فيها (ذَكَرُوا اللهَ) في صدور أفعالهم برؤيتها واقعة بقدرة الله وتبرأ عنها إليه لرؤيتهم ابتلاءه إياهم بها (فَاسْتَغْفَرُوا) طلبوا ستر أفعالهم التي هي ذنوبهم بأفعاله بالتبرّي عن الحول والقوّة إليه (وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ) أي وجودات الأفعال (إِلَّا اللهُ) أي علموا أن لا غافر إلا هو (وَلَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا) في غفلتهم وحالة ظهور أنفسهم ، بل تابوا ورجعوا إليه في أفعالهم (وَهُمْ يَعْلَمُونَ) أن لا فعل إلا لله (وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) بمقتضى توحيد الأفعال.
(أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (١٣٧) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢))
(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ) بطشات ووقائع مما سنّه الله في أفعاله بالذين كذبوا بالأنبياء في توحيد الأفعال (فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا) في آثارها فتعلموا كيف كان عاقبتهم (هذا) الذي ذكر (بَيانٌ لِلنَّاسِ) من علم توحيد الأفعال وتفصيل المتقين الذين هم أهل التمكين في ذلك ، والتائبين الذين هم أهل التلوين ، والمصرين المحجوبين عنه المكذبين به ، وزيادة هدى وكشف عيان وتثبت واتعاظ للذين اتّقوا رؤية أفعالهم أو هدى لهم إلى توحيد الصفات والذات. (وَلا تَهِنُوا) في الجهاد عند استيلاء الكفار (وَلا تَحْزَنُوا) على ما فاتكم من الفتح وما جرح واستشهد من إخوانكم (وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ) في الرتبة لقربكم من الله وعلو درجتكم بكونكم أهل الله (إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، لأنّ الموحد يرى ما يجرى عليه من البلاء من الله فأقلّ درجاته الصبر إن لم يكن رضا يتقوّى به فلا يحزن ولا يهن (الْأَيَّامُ) الوقائع وكل ما يحدث من الأمور العظيمة يسمى يوما وأياما ، كما قال تعالى : (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللهِ) (١) ، وقد مرّ تفسير (وَلِيَعْلَمَ اللهُ) من ظهور العلم التفصيلي التابع لوقوع المعلوم.
(وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ) الذين يشهدون للحق فيذهلون عن أنفسهم ، أي : نداول الوقائع بين الناس لأمور شتى وحكم كثيرة ، غير مذكورة ، من خروج ما في استعدادهم إلى الفعل من الصبر والجلد وقوّة اليقين ، وقلّة المبالاة بالنفس ، واستيلاء القلب عليها ، وقمعها وغير ذلك. ولهذين العلتين المذكورتين ولتخليص المؤمنين من الذنوب والغواشي التي تبعدهم من الله بالعقوبة والبليّة إذا كانت عليهم ، ومحق الكافرين وقهرهم وتدميرهم إذا كانت لهم. وقد اعترض بين العلل قوله : (وَاللهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ليعلم أنّ من ليس على صفة الإيمان والشهادة وتمحيص الذنوب وقوّة الثبات لكمال اليقين ، بل حضر القتال لطلب الغنيمة أو لغرض آخر فهو ظالم والله لا يحبه.
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (١٤٣))
(وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ) الآية ، كل موقن إذا لم يكن يقينه ملكة بل كان خطرات ، فهو في بعض أحواله يتمنى أمورا ويدعي أحوالا بحسب نفسه دائما ، وكذلك حال غير اليقين وعند إقبال القلب هو صادق ما دام موصوفا بحاله. أما في غير تلك الحالة ، وعند الإدبار ، فلا يبقى من ذلك أثر وكذا كل من لم يشاهد حالا ولم يمارسه ، ربما يتمناه لتصوّره في نفسه وعدم تضرّره به حال التصور. أما في حال وقوعه وابتلائه فلا يطيق تحمل شدائده.
فلا يلتفت بحال إلا إذا صار مقاما ، ولا يعتبر مقاما إلا إذا امتحن في مواطنه ، فإذا خلص من الامتحان فقد صح وهذا أحد فوائد مداولة الأيام بينهم ليتمرّنوا بالموت ويتقوّى يقينهم ويتوفر صبرهم ويتحقق مقامهم بالمشاهدة كما قال : (فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ) من قتل إخوانكم بين أيديكم (وَأَنْتُمْ) تشاهدون ذلك. وفيه توبيخ لهم على أنّ يقينهم كان حالا لا مقاما ، ففشلوا في الموطن.
(وَما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَمَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَما ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكانُوا وَاللهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَمَأْواهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١))
(وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ) أي : إنه رسول بشر ، سيموت أو يقتل كحال الأنبياء قبله ، فمن كان على يقين من دينه فبصيرة من ربّه لا يرتد بموت الرسول وقتله ، ولا يفتر عما كان عليه ، لأنه يجاهد لربّه لا للرسول كأصحاب الأنبياء السالفين. وكما قال أنس عم أنس بن مالك يوم أحد حين أرجف بقتل رسول الله صلىاللهعليهوسلم وشاع الخبر ، وانهزم المسلمون ، وبلغ إليه تقاول بعضهم : ليت فلانا يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان. وقول المنافقين : لو كان نبيّا ما قتل! ، يا قوم ، إن كان محمد قد قتل فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت! ، وما تصنعون بالحياة بعد رسول الله؟ فقاتلوا على ما قاتل عليه ، وموتوا على ما مات عليه. ثم قال : اللهمّ إني أعتذر إليك مما يقول هؤلاء ، وأبرأ إليك مما جاء به هؤلاء. ثم شدّ بسيفه وقاتل حتى قتل.
(وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شَيْئاً) إنما ضرّ نفسه بنفاقه وضعف يقينه (وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ) لنعمة الإسلام ، كأنس بن النضر وأضرابه من الموقنين (وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً) فمن كان موقنا شاهد هذا المعنى ، فكان من أشجع الناس كما حكى حاتم ابن الأصمّ عن نفسه أنه شهد مع الشقيق البلخي رحمهماالله ، بعض غزوات خراسان. قال : فلقيني شقيق وقد حمى الحرب ، فقال : كيف تجد قلبك يا حاتم؟ قلت : كما كان ليلة الزفاف ، بين الحالين. فوضع سلاحه وقال : أما أنا فهكذا. ووضع رأسه على ترسه ونام بين المعركة حتى سمعت غطيطه. وهذا غاية في سكون القلب إلى الله ووثوقه به لقوة اليقين (سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ) الآية ، جعل إلقاء الرعب في قلوب الكفار مسببا عن شركهم ، لأن الشجاعة وسائر الفضائل اعتدالات في قوى النفس من وقوع ظل الوحدة عليها عند تنوّرها بنور القلب المنوّر بنور الوحدة ، فلا تكون تامة حقيقة إلا للموحد الموقن في توحيده. وأما المشرك فلأنه محجوب عن منبع القوة والقدرة بما أشرك بالله من الموجود المشوب بالعدم لإمكانه الخفيّ الوجود ، الضعيف ، الذي لم يكن له بحسب نفسه قوة ولا وجود ولا ذات في الحقيقة ، ولم ينزل الله بوجوده حجة لوجوده أصلا لتحقق عدمه بحسب ذاته ، فليس له إلا العجز والجبن وجميع الرذائل ، إذ لا يكون أقوى من معبوده وإن اتفقت له دولة أو صولة أو شوكة فشيء لا أصل له ولا ثبات ولا بقاء كنار العرفج مثلما كانت دولة المشركين.
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا ما أَصابَكُمْ وَاللهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَطائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ (١٥٨))
(وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللهُ وَعْدَهُ) أي : وعدكم النصر إن تصبروا وتتقوا ، فما دمتم على حالكم من قوة الصبر على الجهاد وتيقن النصر والثبات على اليقين واتفاق الكلمة بالتوجه إلى الحق والاتقاء عن مخالفة الرسول وميل النفوس إلى زخرف الدنيا والإعراض عن الحق ، مجاهدين لله لا للدنيا ، كان الله معكم بالنصر ، وإنجاز الوعد ، وكنتم تقطعونهم بإذنه وتهزمونهم (حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ) أي : جبنتم بدخول الضعف في يقينكم وفساد اعتقادكم في حق نفسه بتجويز غلوله في الغنيمة (وَتَنازَعْتُمْ) في أمر الحرب بعد الاتفاق وما صبرتم عن حظ الدنيا ، وعصيتم الرسول بترك ما أمركم به من ملازمة المركز ، وملتم إلى زخرف الدنيا (مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ) من الفتح والغنيمة وحان زمان شكركم لله ، وشدّة إقبالكم عليه ، فذهلتم عنه ، فكان أشرفكم يريد الآخرة والباقون يريدون الدنيا ، ولم يبق فيكم من يريد الله منعكم نصره (ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ) بما فعلتم فكان الابتلاء لطفا بكم وفضلا (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) في الأحوال كلها ، إما بالنصرة وإما بالابتلاء ، فإن الابتلاء فضل ولطف خفيّ ليعلموا أن أحوال العباد جالبة لظهور أوصاف الحق عليهم فما أعدّوا له نفوسهم موهوب لهم من عند الله كما مر في قوله : «مطيع من أطاعني». كما يكونون مع الله يكون الله معهم ، ولئلا يناموا إلى الأحوال دون المسلكات ، وليتمرّنوا بالصبر على الشدائد ، والثبات في المواطن ، ويتمكنوا في اليقين ، ويجعلوه ملكا لهم ، ومقاما ، ويتحققوا أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ، ولا يميلوا إلى الدنيا وزخرفها ، ولا يذهلوا عن الحق ، ولا يبيعوه بالدنيا والآخرة ، وليكون عقوبة عاجلة للبعض فيتمحصوا عن ذنوبهم وينالوا درجة الشهادة برفع الحجب ، خصوصا حجاب محبة النفس ، فيلقوا الله طاهرين. ولهذا قال تعالى : (وَلَقَدْ عَفا عَنْكُمْ) (١) ، إذ الابتلاء كان سبب العفو.
(فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ) أي : صرفكم عنهم فجازاكم غما بسبب غمّ لحق رسول الله من جهتكم ، بعصيانكم إيّاه ، وفشلكم وتنازعكم ، أو غمّا بعد بغمّ أي : غمّا مضاعفا لتتمرّنوا بالصبر على الشدائد والثبات فيها ، وتتعوّدوا رؤية الغلبة والظفر والغنيمة وجميع الأشياء من الله لا من أنفسكم فلا (تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ) من الحظوظ والمنافع (وَلا ما أَصابَكُمْ) من الغموم والمضارّ. (ثُمَ) خلّى عنكم الغمّ بالأمن وإلقاء النعاس على الطائفة الصادقين دون المنافقين الذين (أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ) لا نفس الرسول ولا الذين وافقوا علامة للعفو (لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ) لقوله تعالى : (ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها) (٢).
(وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ ما فِي صُدُورِكُمْ) أي : وليمتحن ما في استعدادكم من الصدق والإخلاص واليقين والصبر والتوكل والتجرّد وجميع الأخلاق والمقامات ، ويخرجها من القوّة إلى الفعل (وَلِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ) أي : وليخلص ما برز منها من مكمن الصدر إلى مخزون القلب من عثرات وساوس الشيطان ودناءة الأحوال وخواطر النفس ، فعل ذلك فإن البلاء سوط من سياط الله يسوق به عباده إليه بتصفيتهم عن صفات نفوسهم وإظهار ما فيهم من الكمالات ، وانقطاعهم عنده من الخلق ومن النفس إلى الحق. ولهذا كان متوكلا بالأنبياء ثم الأولياء ثم الأمثل. وقال رسول الله صلىاللهعليهوسلم بيانا لفضله : «ما أوذي نبيّ مثل ما أوذيت» ، كأنه قال : ما صفى نبيّ مثل ما صفيت.
إذ لا يظهر على كل منهم إلا ما في مكمن استعداده كما قيل : عند الامتحان يكرم الرجل أو يهان. (اسْتَزَلَّهُمُ) أي : طلب منهم الزلّة ودعاهم إليها ، وهي زلّة التولي (بِبَعْضِ ما كَسَبُوا) من الذنوب. فإنّ الشيطان إنما يقدر على وسوسة الناس وإنفاذ أمره إذا كان له مجال بسبب أدنى ظلمة في القلب ، حادثة من ذنب ، وحركة من النفس كما قيل : الذنب بعد الذنب عقوبة للذنب الأول. (وَلَقَدْ عَفَا اللهُ عَنْهُمْ) بالاعتذار والندم (لِيَجْعَلَ اللهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ) أي : يجعل ذلك القول والاعتقاد ضيقا وضنكا وغمّا في قلوبهم لرؤيتهم القتل والموت مسببا عن فعل ، ولو كانوا موقنين موحدين لرأوا أنه من الله ، فكانوا منشرحي الصدور (وَاللهُ يُحْيِي) من يشاء في السفر والجهاد وغيره (وَيُمِيتُ) من يشاء في الحضر وغيره (لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللهِ وَرَحْمَةٌ) أي : لنعيمكم الأخروي من جنّة الأفعال وجنّة الصفات خير لكم من الدنيوي لكونكم عاملين للآخرة و (لَإِلَى اللهِ تُحْشَرُونَ) لمكان توحيدكم ، فحالكم فيما بعد الموت أحسن من حالكم قبله.
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠))
(فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ) أي : فباتصافك برحمة رحيمية ، أي : رحمة تامّة ، كاملة ، وافرة ، هي صفة من جملة صفات الله ، تابعة لوجودك الموهوب الإلهيّ لا الوجود البشريّ (لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا) موصوفا بصفات النفس التي منها الفظاظة والغلظة (لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) لأنّ الرحمة الإلهية الموجبة لمحبتهم إياك تجمعهم (فَاعْفُ عَنْهُمْ) فيما يتعلق بك من جنايتهم لرؤيتك إياه من الله بنظر التوحيد وعلوّ مقامك من التأذي بفعل البشر ، والتغيظ من أفعالهم ، وتشفي الغيظ بالانتقام منهم (وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ) فيما يتعلق بحق الله لمكان غفلتهم وندامتهم واعتذارهم (وَشاوِرْهُمْ) في أمر الحرب وغيره مراعاة لهم واحتراما ، ولكن إذا عزمت ففوّض الأمر إلى الله بالتوكل عليه ورؤية جميع الأفعال والفتح والنصر والعلم بالأصلح والأرشد منه ، لا منك ، ولا مما تشاوره. ثم حقّق معنى التوكل والتوحيد في الأفعال بقوله : (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللهُ) إلى آخره.
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١٦١))
(وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) لبعد مقام النبوّة وعصمة الأنبياء عن جميع الرذائل ، وامتناع صدور ذلك منهم مع كونهم منسلخين عن صفات البشرية ، معصومين عن تأثير دواعي النفس والشيطان فيهم ، قائمين بالله متّصفين بصفاته (يَأْتِ بِما غَلَ) أي : يظهر على صورة غلوله بما غلّ بعينه.
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللهِ وَمَأْواهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللهِ وَاللهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦))
(وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٦٨))
(أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللهِ) أي : النبيّ في مقام الرضوان التي هي جنة الصفات ، لاتصافه بصفات الله ، والغالّ في مقام السخط لاحتجابه بصفات نفسه (وَمَأْواهُ) أسفل حضيض النفس المظلمة ، فهل يتشابهان؟ (هُمْ دَرَجاتٌ) أي : كل من أهل الرضا وأهل السخط ذوو درجات متفاوتات أو هم مختلفون اختلاف الدرجات (قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ) لا ينافي قوله تعالى : (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللهِ) (١) لأنّ السبب الفاعلي في الجميع هو الحق تعالى ، والسبب القابليّ أنفسهم ، ولا يفيض من الفاعل إلا ما يليق بالاستعداد ويقتضيه ، وباعتبار الفاعل يكون من عند الله ، وباعتبار القابل يكون من عند أنفسهم. واستعداد الأنفس إما أصليّ وإما عارضيّ ، والأصلي من فيضه الأقدس على مقتضى مشيئته ، والعارضي من اقتضاء قدره. فهذا الجانب أيضا ينتهى إليه ، ومن وجه آخر ما يكون من أنفسهم أيضا يكون من الله نظرا إلى التوحيد ، إذ لا غير ثمة (وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا) أي : وليتميز المؤمنون والمنافقون في العلم التفصيليّ.
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩))
(وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ) سواء كان قتلهم بالجهاد الأصغر ، وبذل النفس طلبا لرضا الله ، أو بالجهاد الأكبر ، وكسر النفس ، وقمع الهوى بالرياضة (أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ) بالحياة الحقيقية مجرّدين عن دنس الطبائع ، مقرّبين في حضرة القدس (يُرْزَقُونَ) من الأرزاق المعنوية ، أي المعارف والحقائق واستشراق الأنوار ، ويرزقون في الجنّة الصورية كما يرزق سائر الأحياء. فإنّ للجنان مراتب بعضها معنوية وبعضها صورية ، ولكل من المعنوية والصورية درجات على حسب الأعمال ، فالمعنوية جنّة الذات وجنة الصفات وتفاضل درجاتها على حسب تفاضل درجات أهل الجبروت والملكوت ، والصورية جنّة الأفعال وتفاوت درجاتها على حسب تفاوت درجات عالم الملك من السموات العلى ، وجنات الدنيا وعن النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لما أصيب إخوانكم بأحد ، جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ، تدور في أنهار الجنة ، وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب ، معلقة في ظلّ العرش». فالطير الخضر : إشارة إلى الأجرام السماوية ، والقناديل هي الكواكب ، أي تعلقت بالنيرات من الأجرام السماوية لنزاهتها ، وأنهار الجنة منابع العلوم ومشارعها ، وثمارها الأحوال والمعارف والأنهار ، والثمار الصورية على حسب جنتهم المعنوية أو الصورية. فإنّ كل ما وجد في الدنيا من المطاعم والمشارب والمناكح والملابس وسائر الملاذ والمشتهيات ، موجود في الآخرة وفي طبقات السماء ألذّ وأصفى مما في الدنيا.
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١))
(فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من الكرامة والنعمة والقرب عند الله (وَيَسْتَبْشِرُونَ) حال إخوانهم (بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ) ولم ينالوا درجاتهم بعد من خلفهم لاستسعادهم عن قريب بمثل حالهم ولحوقهم بهم (أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ) بدل اشتمال من الذين ، أي : يستبشرون بأنهم آمنوا ، لا خوف عليهم ولا هم يحزنون (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ)
أي : أمنهم بنعمة عظيمة لا يعلم كنهها ، هي جنة الصفات بحصول مقام الرضوان المدكورة بعده لهم (وَفَضْلٍ) وزيادة عليها هي جنة الذات والأمن الكليّ من بقية الوجود وذلك كمال كونهم شهداء لله ، ومع ذلك فإنّ الله لا يضيع أجر إيمانهم الذي هو جنّة الأفعال وثواب الأعمال.
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٢) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَقالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (١٧٣) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (١٧٤) إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٥) وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٧٦) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٧٧) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (١٧٨))
(الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ) بالفناء في الوحدة الذاتية (وَالرَّسُولِ) بالمقام بحق الاستقامة (مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ) أي : كسر النفس (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ) أي : ثبتوا في مقام المشاهدة (وَاتَّقَوْا) بقاياهم (أَجْرٌ عَظِيمٌ) وراء الإيمان هو روح المشاهدة (الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ) قبل الوصول إلى المشاهدة (إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ) أي : اعتبروا لوجودكم واعتدوا بكم فاعتدوا بهم (فَزادَهُمْ) ذلك القول (إِيماناً) أي : يقينا وتوحيدا بنفي الغير وعدم المبالاة به ، وتوصلوا بنفي ما سوى الله إلى إثباته بقولهم (حَسْبُنَا اللهُ) فشاهدوه ثم رجعوا إلى تفاصيل الصفات بالاستقامة فقالوا : (وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) وهي الكلمة التي قالها إبراهيم عليهالسلام حين ألقي في النار فصارت بردا وسلاما عليه (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ) أي : رجعوا بالوجود الحقانيّ في جنة الصفات والذات كما مرّ آنفا (لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ) البقية ورؤية الغير.
(وَ) هم (اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللهِ) الذي هو جنة الصفات في حال سلوكهم حين لم يعلموا ما أخفي لهم من قرّة أعين وهي جنة الذات المشار إليها بقوله : (وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) فإن الفضل هو المزيد على الرضوان (يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ) المحجوبين بأنفسهم مثله من الناس أو يخوّفكم أولياءه (فَلا تَخافُوهُمْ) ولا تعتدوا بوجودهم (وَخافُونِ إِنْ كُنْتُمْ) موحدين ، أي لا تخافوا غيري لعدم عينه وأثره (وَلا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) لحجابهم الأصلي وظلمتهم الذاتية خوف أن يضروك (إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللهَ شَيْئاً) إملاء الكفار وطول حياتهم سبب لشدّة عذابهم وغاية هوانهم وصغارهم لازديادهم بطول عمرهم حجابا على حجاب ، وبعدا على بعد. وكلما ازدادوا بعدا عن الحق الذي هو منيع العزّة ازدادوا هوانا.
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (١٧٩) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (١٨٠))
(ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ) من ظاهر الإسلام وتصديق اللسان (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ) من صفات النفس وشكوك الوهم وحظوظ الشيطان ، ودواعي الهوى من طيبات صفات القلب كالإخلاص واليقين والمكاشفة ومشاهدات الروح ومناغيات السرّ ومسامراته ، وتخلص المعرفة والمحبة لله بالابتلاء ووقوع الفتن والمصائب بينكم.
(وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى) غيب وجودكم من الحقائق والأحوال الكامنة فيكم بلا واسطة الرسول لبعد ما بينكم وبينه وعدم المناسبة وانتفاء استعداد التلقي منه (وَلكِنَّ اللهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ) فيطلعه على أسراره وحقائقه بالكشف ليهديكم إلى ما غاب عنكم من كنوز وجودكم وأسراره للجنسية النفسانية التي بينه وبينكم ، الموجبة لإمكان اهتدائكم به (فَآمِنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ) بالتصديق القلبيّ والإرادة والتمسك بالشريعة ليمكنكم التلقي والقبول منهم (وَإِنْ تُؤْمِنُوا) بعد ذلك الإيمان بالتحقيق والسلوك إلى اليقين والمتابعة في الطريقة (وَتَتَّقُوا) الحجب النفسانية وموانع السلوك (فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ) من كشف الحقيقة (بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) من المال والعلم والقدرة والنفس ولا ينفقونه في سبيل الله على المستحقين والمستعدّين والأنبياء والصدّيقين في الذبّ عنهم أو الفناء في الله (سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ) أي : يجعل غلّ أعناقهم وسبب تقيدهم وحرمانهم عن روح الله ورحمته وموجب هوانهم وحجابهم عن نور جماله لمحبتهم له وتعلقهم به (وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من النفوس وصفاتها كالقوى والقدر والعلوم والأموال وكل ما ينطبق عليه اسم الوجود فما لهم يبخلون بماله عنه.
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (١٨١) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (١٨٢) الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (١٨٣) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتابِ الْمُنِيرِ (١٨٤) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَمَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (١٨٥) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (١٨٦) وَإِذْ أَخَذَ اللهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (١٨٧))
(لَقَدْ سَمِعَ اللهُ) إلى قوله (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) روي أنّ أنبياء بني إسرائيل كانت معجزتهم أن يأتوا بقربان فيدعوا الله فتأتي نار من السماء تأكله. وتأويله : أن يأتوا بنفوسهم يتقرّبون بها إلى الله ويدعون الله بالزهد والعبادة ، فتأتي نار العشق من سماء الروح تأكله وتفنيه في الوحدة ، فبعد ذلك صحت نبوّتهم وظهرت فسمع به عوام بني إسرائيل فاعتقدوا ظاهره ، وإن كان ممكنا من عالم القدرة فاقترحوا على كل نبي تلك الآية كما توهموا من إقراض الله الذي هو بذل المال في سبيل الله بالإنفاق لاستيفاء الثواب وبذل الأفعال والصفات بالمحو في السلوك لاستبدال صفات الحق وأفعاله وتحصيل مقام الإبدال ، فقر الحق وغناهم ، أو كابروا الأنبياء في الموضعين بعد ما فهموا.
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨٨))
(لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا) أي : يعجبوا بما فعلوا من طاعة وإيثار ، وكلّ حسنة من الحسنات ، ويحجبون برؤيته (وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا) أي : يحمدهم الناس ، فهم محجوبون بعرض الحمد والثناء من الناس ، أو أن يكونوا محمودين في نفس الأمر عند الله (بِما لَمْ يَفْعَلُوا) بل فعله الله على أيديهم إذ لا فعل إلا لله ، (وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (٩٦)) (١) فائزين من عذاب الحرمان (وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ) لمكان استعدادهم واحتجابهم عما فيه ، وكان من حقهم أن ينسبوا الفضيلة والفعل الجميل إلى الله ويتبرّءوا عن حولهم وقوّتهم إليه ولا يحتجبوا برؤية الفعل من أنفسهم ، ولا يتوقعوا به المدح والثناء.
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٨٩) إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (١٩٠))
(وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ليس لأحد فيها شيء حتى يعطي غيره فيعجب بعطائه (وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) لا يقدر غيره على فعل مّا ، حتى يعجب برؤيته ، فيفرح به فرح إعجاب.
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ قِياماً وَقُعُوداً وَعَلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (١٩٢) رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَتَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (١٩٣) رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (١٩٤))
(الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللهَ) في جميع الأحوال وعلى جميع الهيئات (قِياماً) في مقام الروح بالمشاهدة (وَقُعُوداً) في محلّ القلب بالمكاشفة (وَعَلى جُنُوبِهِمْ) أي : تقلباتهم في مكان النفس بالمجاهدة (وَيَتَفَكَّرُونَ) بألبابهم أي : عقولهم الخالصة عن شوب الوهم (فِي خَلْقِ) عالم الأرواح والأجساد. يقولون عند الشهود (رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا) الخلق (باطِلاً) أي : شيئا غيرك ، فإنّ غير الحق هو الباطل ، بل جعلته أسماءك ومظاهر صفاتك (سُبْحانَكَ) ننزهك أن يوجد غيرك ، أي : يقارن شيء فردانيتك أو يثني وحدانيتك (فَقِنا عَذابَ) نار الاحتجاب بالأكوان عن أفعالك ، وبالأفعال عن صفاتك ، وبالصفات عن ذاتك وقاية مطلقة تامة كافية (رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ) بالحرمان (فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ) بوجود البقية التي كلها ذلّ وعار وشنار (وَما لِلظَّالِمِينَ) الذين أشركوا برؤية الغير مطلقا أو البقية (مِنْ أَنْصارٍرَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا) بأسماع قلوبنا (مُنادِياً) من أسرارنا التي هي شاطئ وادي الروح الأيمن (يُنادِي) إلى الإيمان العيانيّ (أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ) أي : شاهدوا ربكم ، فشاهدنا (رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا) ذنوب صفاتنا بصفاتك (وَكَفِّرْ عَنَّا) سيئات أفعالنا برؤية أفعالك (وَتَوَفَّنا) عن ذواتنا في صحبة الأبرار من الأبدال الذين تتوفاهم بذاتك عن ذواتهم ، لا الأبرار الباقين على حالهم في مقام محو الصفات غير المتوفين بالكلية (رَبَّنا وَآتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى) اتباع (رُسُلِكَ) أو محمولا على رسلك من البقاء بعد الفناء ، والاستقامة بالوجود الموهوب بعد التوحيد (وَلا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ) الكبرى ووقت بروز الخلق لله الواحد القهار بالاحتجاب بالوحدة عن الكثرة ، وبالجمع عن التفصيل (إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ) فتبقى مقاما وراءنا لم نصل إليه.
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (١٩٥) لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (١٩٦) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ (١٩٧) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (١٩٩))
(فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ) القلب من الأعمال القلبية كالإخلاص واليقين والكشف (أَوْ أُنْثى) النفس من الأعمال القالبية ، كالطاعات والمجاهدات والرياضات (بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ) يجمعكم أصل واحد وحقيقة واحدة هي الروح الإنسانية ، أي : بعضكم منشأ من بعض ، فلا أثيب بعضكم وأحرم بعضا (فَالَّذِينَ هاجَرُوا) عن أوطان مألوفات النفس (وَأُخْرِجُوا مِنْ) ديار صفاتها أو هاجروا من أحوالهم التي التذّوا بها ، وأخرجوا من مقاماتهم التي يسكنون إليها (وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي) أي : ابتلوا في سبيل سلوك أفعالي بالبلايا والمحن والشدائد والفتن ليتمرّنوا بالصبر ، ويفوزوا بالتوكل في سبيل سلوك صفاتي بسطوات تجلّيات الجلال والعظمة والكبرياء ليصلوا إلى الرضا (وَقاتَلُوا) البقية بالجهاد فيّ (وَقُتِلُوا) وأفنوا في بالكلية (لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ) كلها من الصغائر والكبائر ، أي : سيئات بقاياهم (وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ) الجنات الثلاثة المذكورة (ثَواباً) أي : عوضا لما أخذت منهم من الوجودات الثلاثة (وَاللهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ) أي : لا يكون عند غيره الثواب المطلق الذي لا يبقى منه شيء ، ولهذا قال : والله ، لأنه الاسم الجامع لجميع الصفات ، فلم يحسن أن يقول : والرحمن ، في هذا الموضع أو اسم آخر غير اسم الذات (لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا) أي : حجبوا عن التوحيد الذي هو دين الحق في المقامات والأحوال.
(مَتاعٌ قَلِيلٌ) أي : هو يعني الاحتجاب بالمقامات والتقلّب فيها تمتع قليل (ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) الحرمان (لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ) من المؤمنين ، أي : تجرّدوا عن الوجودات الثلاثة ، لهم الجنات الثلاث ، (نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللهِ) معدّا (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) أي : المحجوبين عن التوحيد ، والمذكورين بصفة التقلّب في الأحوال والمقامات (لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللهِ) أي : يتحقق بالتوحيد الذاتي (وَما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) من علم التوحيد والاستقامة (وَما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ) من علم المبدأ والمعاد (خاشِعِينَ لِلَّهِ) قابلين لتجلي الذات (لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللهِ) التي هي تجليات صفاته ثمن البقية الموصوف بالقلّة (أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ) من الجنان المذكورة (إِنَّ اللهَ سَرِيعُ الْحِسابِ) يحاسبهم ويجازيهم فيعاقب على بقايا من بقي منهم شيء ، أو يثيب بنفي البقايا على حسب درجاتهم في المواطن الثلاثة.
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠))
(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا) لله (وَصابِرُوا) مع الله (وَرابِطُوا) بالله ، أي : اصبروا في مقام النفس بالمجاهدة ، وصابروا في مقام القلب مع سطوات تجليات صفات الجلال بالمكاشفة ، ورابطوا في مقام الروح ذواتكم بالمشاهدة حتى لا يغلبكم فترة أو غفلة أو غيبة بالتلوينات (وَاتَّقُوا اللهَ) في مقام الصبر عن المخالفة والرياء ، وفي المصابرة عن الاعتراض والامتلاء وفي المرابطة عن البقية والجفاء لكي تفلحوا الفلاح الحقيقي السرمديّ الذي لا فلاح وراءه ، إن شاء الله.