شيخ الأسرار الباطنية
27-01-2011, 13:20
لا تكاد أي عقيدة دينية مهما كان أسمها أو مصدرها , قدمها أو حداثتها , أن تخلو من مفهوم خاص عن الشر الذي يمكن أن يصيب الإنسان سواء أثناء حياته و حتى بعد مماته , و لا تكاد أي عقيدةأن يخلو تفسيرها للخلق و التكوين من وجود هذا المفهوم الذي برز عبر التأريخ الطويل لمسيرة الإنسان الاعتقادية بكل أشكالها و مراحلها كفكرة لا بد من تواجدها في صلب إعتقادة و إيمانه , بل و أصبح ضرورة لايمكن الإستغناء عنها و ذلك لفهم أفضل لوجوده البشري و محاولة التفسير و الإجابةعن العديد من الأسئلة و الإشكاليات التي واجهته عبر وجوده الطويل على الأرض و سواء كانت فكرة الشر متجسدة بالنسبة للإنسان القديم في البداية على شكل أرواح ضارة ليس لها كيان أو إسم معين أو بشكل كائن محدد و معروف فيما بعد , فإن هذه الفكرة أصبحت جزءا لا يتجزأ من عملية الإيمان نفسهاعلى اعتبار أن الشرهو النقيض المتعارض على الدوام مع الجانب الآخر من الدين و هو الخير سواءكمنفعة شخصية كما كان يفهم أولاً أو كمفهوم أخلاقي شامل كما أصبح فيما بعد , وعلى هذا الأساس كان تقسيم الإنسان البدائي للأرواح و الأطياف إلى طيب و خبيث و ذلك حسب نفعها أو مضرتها و بالتالي كان يحتاج إلى الكاهن و الساحر ليروض له الخبيث بالرقي و التعاويذ و يجزي عنه الطيب بالدعوات و القرابين .
و خطا الإنسان بعد ذلك بشكل تدريجي و بطئ خطوة أخرى نحو الأمام في طريق الدين فجمع كل الصفات الشريرة و كل تلك الأرواح الضارة والخبيثة في شخصية واحدة تسمى بأسماء عديدة إلا أن أشهرها و أكثرها إنتشاراً على الإطلاق كان أسم الشيطان الذي ورد لأول مرة كإسم علم و ذلك في في التوراة في سفر الأيام الأول – الإصحاح 21: (... و تآمرالشيطان ضد إسرائيل) . وقد ظهرت العديد من التفاسير و الشروحات لتوضح و تعرف شخصيةالشيطان الشهيرة هذه , و لكن على العموم تحددت التفاسير بإثنين فقط لا ثالث لهما الأول يقول بأنه ليس هناك من شخصية معينة و محددة تدعى بالشيطان , إنما الشيطان هو كل تلك الغرائز و العقد النفسية و الرغبات المكبوتة فينا , أو كما يقول عالم النفس سيغموند فرويد (أن الأبالسة في نظرنا نحن , رغبات شريرة , مستهجنة تنبع من دوافع مكبوحة مكبوتة) . أماالتفسيرالثاني فلا يرفض وجودالشيطان ككائن معين و ذو صفات تتفق علها أغلب الديانات على إعتبار أن العقل و العلم لا يرفضان وجود الشيطان أو الأرواح الطيبة منها أو الخبيثة .
أما من الناحية اللغوية فقد حاول الدارسون و الباحثون أن يجدوا أصلاً لهذه التسمية إلا أنهم إختلفوا كل الإختلاف مثلما إختلفوا حول كلمة إبليس فقال البعض أن كلمة الشيطان أصيلةفي اللغة العربية على إعتباروجودالعديد من الكلمات التي يعطي مصدرها معاني و الضلالة و الإحتراق و البعد مثل(شط – شاط – شوط و شطن) , و البعض الآخر قال أنها عبرية و تأتي بمعنى الضد أو العدو(5) . أما كلمة إبليس فقد رأى البعض أن أصلها يوناني من كلمة (Diabolos) ديابلوس و تأتي بمعنى الإعتراض و الوقيعة (6) , و البعض الآخر يرى أنها آتية من كلمة (الإبلاس) أي اليأس التام من رحمة الله و من العودة إلى الجنة (7) , و منهم من قال إن أصل التسمية مأخوذ من (Devil) في اللغات السكسونية و التي تعني يفعل الشر (8) بينما أرجع الآخرون الكلمة إلى (مغستوفليس) و هي مأخوذةمن اليونانية و تعني (كراهية النور) و مصدرها هو السحر البابلي الذي وصل إلى الغرب على أيدي اليهود اليونان و هذه التسمية تمثل روحاً من أرواح النحس التي تتسلط على بعض الكواكب (9) ,لقد اتفقت معظم الأديان السماوية منها و غير السماوية على الصفات التي تنسب إلى الشيطان و إن كانت هذه الأديان تختلف في نظرتها اختلافا جزئياً أو كلياً إلى مدى قدرة ولإرادة الشيطان على فعل الشر كما سنرى لاحقاً ففي البداية لم يكن هناك شيطان إنما هي مجموعة من الأرواح و الأطياف تمتلك صفات معينة و هذه الصفات تتعلق بمدى الضرر أو المنفعة التي يمكن أن تلحق بالأنسان البدائي لكي يقول عنها إنها شريرة أو خيرة و يرمز لها بكائنات أو أشكال مادية محسوسة كالتماثيل و الأحجار و الهياكل و ذلك في محاولة منه لإرضائها أو لتجنب شرورها (مثلما نرى ذلك واضحا في عبادة الأسلاف و الطوطمية و الفشتية) أي إن الشر أو الخير كان محصوراً بالنسبة له في مدى الضرر أوالنفع الذي يلحقه و يصيبه أما إذا كان هذا الضرر يصيب الآخرين و يحقق فائدة له فلا بأس به و يمكن أن يكون خيراً , و لكنه بعد ذلك , و بعد إرتقت عقليته الدينية إلى مراتب و مدارك أعلى من السابق أصبح يفهم الشر كمفهوم أخلاقي شامل أكثر من كونه مفهوما نفعياً فقط , فأصبح يعرف و يدرك أن الشهوات و الفتنة و الإغراء و المطامع إنما هي شرور سواء كانت هذه الصفات في مصلحته الشخصية أم لا , و سواء حققت له فائدة و منفعة أم لم تحقق لأن الشر هنا أصبح مفهوماً شاملاً أكثر من كونه مجرد وسيلة تحقق الضرر أو المنفعة للإنسان على حساب غيره .
و هنايمكن أن تقسم الأديان إلى قسمين رئيسيين و ذلك حسب الوظيفة التي يشغلها الشيطان فيها أو حسب مفهومها للشر و الغاية من وجوده ممثلاً بالشيطان كقوة روحية معبرة عنه (لا يعني هذا التقسيم بين أديان موحدة و أخرى غير موحدة إنما هو تقسيم مبني فقط على وظيفة الشيطان فيها ليس إلا) .
وعليه فإن القسم الأول سيشمل الأديان التي تنظر إلى الشيطان كقوة ذات طبيعة شريرة نابعة من تكوينها و مرتبط بوجودها و معبراً عن كيانها التركيبي و بأن فعلها للشر إنماهو تعبير عن هذه الطبيعة التي جبلت عليها و نرى ذلك واضحاً في الأديان القديمة , بينما القسم الثاني يشمل الأديان التي تنظر إلى وظيفة الشيطان أو سبب وجوده و فعله للشر كضرورة تكتيكية إختبارية من قبل الخالق لمعرفة مدى قدرة الإنسان على التمسك بجانب الخير أو إنزلاقه وراء الشيطان و ما يمثله من غواية و ضلالة و بالتالي إعطائه ما يستحق من مكانة خالدة في الجنة أو النار إلى أبد الآبدين , و نرى ذلك في الأديان اليهودية – المسيحية و الإسلامية و إن كانت هناك العديد من الفروقات في مكانة الشيطان و قدرته على فعل الشر في هذه الأديان .
أديان القسم الأول :
إن أي باحث في الأديان القديمة ستصيبه الحيرةو الإرباك و هو يحاول البحث عن شخصية معينة واحدة أو عن الشخصية الشريرة المميزة التي يمكن مقارنتها بالشيطان كما هو معروف في باقي الأديان الحديثة , إذ أن هناك عدداً كبيراً جداً من تلك الكائنات الشريرة الظلامية و التي تتبوأ مكانة كبيرة في عالمها الظلامي و لها قدرة غير إعتيادية على فعل الشر و ذلك واضح من خلال أسماء العديد منها في تلك الأديان مثلما نرى في المندائية : أطرفان (يضرب بقوة , يؤذي) (10) , أماميت (معتم مظلم) (11) , كرفيون (الملتهم) (12) , نمروس (الماردة , الساحقة , الهارسة)(13), أور(قائد جيوش الظلام , المارد , التنين) (14) و غيرها من الكائنات الشريرة , إلا أن الشخصية الرئيسية التي تلفت الإنتباه من بين تلك الكائنات هي الروهة (روح الشر) (16) و التي هي أم الشيطان و الكواكب السبعة و العلامات الزودياكية (البروج الإثني عشر) (17) و أم كل الكائنات الشيطانية في مملكة الكون , إن هذه المكانة الكبيرة للروهة تتعاظم لدينا إذاما علمنا أن ولادة ملك الظلام كانت من قبل الروهة (19) و كذلك سيد الظلام (أور) هو إبن لها و يسمى كاف–قن–كرون (20). إن تعدد الكائنات الشريرة و صعوبة تحديد من يقف على قمة عالم الشر نراها كذلك في ديانة مابين النهرين حيث تقسم الشياطين إلى ثلاثة أنواع و ذلك حسب الأصول التي تنحدر منها , فالصنف الأول هو (ذرية الإله العظيم آنو) و يقصد بهم المنحدرين من اصل سماوي , و الصنف الثاني من أصل بشري و هم أشباح الموتى , أما الصنف الثالث فينحدرون في أصلهم من العالم الأسفل و كانوا حشداً غفيراً من مختلف الانواع ولهم القدرة على إلحاق الأذى بأرواح الموتى الموجودة في العالم الأسفل و بكل المخلوقات على الأرض , كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ (21) :
(عبر الاسوار العالية السميكة , يمرون كالطوفان
يمرقون من بيت إلى بيت
لا يمنعهم باب و لا يصدهم مزلاج
فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي
و يمرقون من فتحته كالريح
ينتزعون الزوجةمن حضن زوجها
و يخطفون الطفل من على ركبتي أبيه
و يأخذون الرجل من بين أسرته)
بل و وصل الأمر إلى أن يكون لهذه الكائنات الشيطانية نوع من التخصص في عمل الشر و إيذاء الآخرين : (اشاكو) الذي يتغلغل في أجسام الناس يسبب الصداع , (رابيصو) الذي يختفي أثناء النهار و يظهر في الليل يسبب أمراض الجلد , (لبرتو) تسبب الكوابيس و (لباسو) يسبب الصرع (22) ... الخ إضافة إلى أن أشكالهم تتميز بالقبح و الشذوذ كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ (23) :
( إنهم ليسوا ذكوراً و لا إناثاً
إنهم الرياح المهلكة
لا يعرفون شفقة و لا رحمة
إنهم الشر و كل الشر)
و مع ذلك فأن كل الكائنات الشريرة الموجودة في حضارة ما بين النهرين و ما تمثله من شر قد جمعت في شخصية واحدة تعتبر للعراقي القديم مصدر واساس لكل البلايا التي تصيب البشر بل و حتى الآلهة دونما تمييز , و هي شخصية الربة تياميت التي تعاظم شرها و إزداد بلاؤها ليصيب الأرباب أنفسهم مما حدا بهم أن ينتدبوا الإله الشاب مردوخ لمقاتلتها و القضاء عليها .
أما في الديانة المصرية القديمة فإن الإله المصري الذي نشهد ارتباطه بالشر في كافة العصورالتأريخية في مصر القديمة فهو (Apophis) أبوفيس و هو عفريت على شكل ثعبان ضخم جداً ذي طيات متعددة في كل منها سكين حاد (24) , و إضافة إلى هذا الإله فقد كان هناك أيضا (سيث) أخو أوزيريس , و هما إبنا الإله رع إله الشمس , الذي تشير المصادر إلى أنه قتل أخاه أوزيريس و رماه في نهر النيل و مصدر آخر يشير إلى اتهم أخاه بالظلم و العدوان و انكشفت هذه الكذبة فاصبح سيث رمزاً للكذب و النميمة و بالتالي أصبح مرادفاً (لكل ما يدل على الخراب و الشر) (25) , وفي الأزمنة المتأخرة من المملكة المصرية الحديثة اعتبر هو نفسه التيفون (الريح العاتية الشديدة) و الثعبان أبو فيس و الشيطان و بذلك فقد صار عنصر شر بذاته وعدواً للأرباب (26) .
و نجد كذلك في الحضارة الهندية و عقائد شعوبها مثالا آخر لفكرة تعدد الكائنات الشريرة و عدم وضوح الشخصية الرئيسية من بينها والتي يمكن مقارنتها بشيطان الأديان السماوية إلا بالكاد , فهناك الـ(راكشا) و هي عفاريت خبيثة ,ينسبون إليها أعمالا كأعمال الشياطين في الأديان الأُخرى و الـ(راكشا) كما يقول البعض هو الأسم الذي كان يطلق على الهمج الأوائل الذين سكنوا الهند قبل إغارة الآريين عليها و كانت لهم حراسة على الطرق و ينابيع الماء , وقد رسخ في الأذهان إنهم أعداء البشر و إنهم يتربصون بالناس و يؤذونهم (27) , و هناك أيضاً الحية آهي (Ahi) التي هي نفسها كما يظهر تجسمها للشر و التي قتلها الإله أندرا , و كذلك الربة الهندية (سيتالا) التي غضب عليها الإله (كيلاسا) و أخرجها من الجنة و بذلك صارت من الأرباب الساقطة المغضوب عليهم (28) , ونجد أيضاً (مايا) و هي تعبير عن العالم المحسوس الذي يعتبر هو الشر و الباطل و إن كل ما يربط الإنسان به شر و باطل مثله و قد صوروا العالم المحسوس أو (مايا) على شكل أنثى شديدة الفتنة و الإغراء على إعتبار أن كل الملذات و الفتن و الشرور تتجمع حسب رأي الهنود في المرأة(29) أما الشخصية المميزة بين هذه الكائنات الشريرة و التي يمكن مقارنتها بشكل كبير بشيطان الأديان السماوية فهي شخصية الرب (Mara) مارا الذي أغوى بوذا , وقد صورته الأساطير الهندوسية و التعاليم الدينية كمسؤول عن كل مباهج الدنيا و لذاتها و إغراءاتها و الفساد و الهرطقة وهو يسكن دوماً في الطبقة السادسة من السماء (30).
أما في الديانة الزرادشتية فنرىأن هناك تطورا كبيراً قد لحق شخصية الشيطان فنجدها أكثر وضوحا و أكثر تحديداً منها في بقية الأديان القديمة , و يسمى الشيطان في الزرادشتية بأهريمان (Ahriman) و سمى كذلك أنكرامينو (Angramanyu) , وعلى الرغم من وجود شخصية دروج (Druj) والتي هي التجسم الأنثوي للشر و تمثل جميع أعمال أهريمان الشريرة إلا أنه يبقى الشخصية الرئيسية و الوحيدة الممثلة للشر بكل وضوح (31) .
و كما رأينا فإن إحدى المميزات التي تتمتع بها الأديان القديمة في مفهومها عن الشر هي تعدد الكائنات الشريرة و عدم وجود شخصية واحدة رئيسية كما هو الحال في شيطان الأديان الحديثة , إضافة إلى ذلك نرى أن الصراع الموجود و المستمر بين هذه الكائنات وما تمثله من قوى شريرة و ظلامية مع نقيضها من قوى الخير هو صراع يجري دائماً بعيداً عن الإنسان بمعنى آخر أن الصراع بين هاتين القوتين هو صراع مباشر بينهما و لا دخل للإنسان فيه , فعالم النور في الديانة المندائية يرسل عدداً من الأثري (منداد هيي – هيبل زيوا) في رحلات إلى عالم الظلام لسحقه و قمع قواه الشريرة , كذلك في البابلية عندما تبعث الأرباب بالإله الشاب مردوخ لمقاتلة الربة تياميت و القضاء عليها و هذا ما تم فعلاً عندما استطاع هزيمتها و تقديم قائد جيوشها كنكو إلى الآلهة ليحكموا عليه بالموت و ليخلقوا من دمه الإنسان (32) .
و في الزرادشتية يستمر الصراع سجالاً بين الجانيبن , (أهورا مزدا) إله الخير و أهريمان إله الشر , إلى أن ينتهي الأمر بهزيمة عالم الظلام و شياطينه و لكن هزيمة مؤقتة و ليست نهائية ليبدأ بعدها الصراع من جديد .
و في الديانة المصرية القديمة يستمر القتال و الصراع بين أوزيريس من جهة و بين سيث من جهة أخرى و كما أن عبادة أوزيريس تحظى بشعبية كبيرة في شمال مصر فأن عبادة سيثا هي الأخرى تحظى بشعبية كبيرة لدى أهل جنوب مصر , و ربما كان الصراع بين هذين الشعبين هو الأصل في اختلاف نظرتهما إلى هذين الإلهين . و من خلال هذه الصراعات المستمرة بين هذين القوتين المتناقضتين , نلاحظ أن المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل يبدأ دائماً من جانب قوى الخير أو إله الخير أو عالم النور , بينما تكون حصة القوة المقابلة , قوة الشر هي رد الفعل و الدفاع فقط عن نفسها و وجودها من هذه المبادرات و الأفعال , فعالم النور في المندائية هو الذي يرسل الأثريين لمقارعة عوالم الظلام و كائناته و ليس في يد الكائنات الشريرة إلا القتال و الدفاع عن نفسها من هذا الخطر المحدق بها دون أن تستطيع أن تتخذ فعل المبادرة كما هو الحال في الجانب الآخر , وقد بدا ذلك واضحاً عندما رغب ملك الظلام أن يعلن الحرب على ملك النور و العوالم الأخرى : (.... سأصعد غلى تلك الأرض المشعة و أعلن الحرب على ملكها , سأنتزع منه تاجه و أضعه على رأسي , و سأكون ملك الأعالي و الأعماق) (32) إلا أنه يعجز عن ذلك تماماً و يكتفي بالصراخ و الزئير دون فعل حقيقي يذكر . و نفس المشهد يتكرر في الديانة البابلية في رحلة مردوخ و مقاتلة الربة تياميت حيث تكون المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل من قبل جانب الخير و كذلك هو الحال في الديانة الزرادشتية , في الصراع بين اله الخير أهورا مزدا و بين إله الشر أهريمان .
كذلك نلاحظ أن هناك تركيزاً ملفتاً للإنتباه في هذه الأديان على الشخصية الأنثوية باعتبارها رمزاً من رموز الشر أو الشيطان , ففي المندائية هناك (الروهة) و في البابلية (تياميت) و في الديانة الهندية (سيتالا و مايا) و في الزرادشتية نرى (دروج) , إضافة إلى إن معظم الشخصيات الشريرة الرئيسية في هذه الأديان هي آلهة مثل (الرب مارا) في الديانة الهندية و (الربة تياميت) في الزرادشتية و (الإله سيث) في الديانة المصرية .
وهناك مسألة أخرى لا يسعنا إلا أن نذكرها و نحن نختتم أديان القسم الأول و هي إن معظم الشعوب التي كانت تدين بهذه العقائد قد إستعملت الرقى و التعاويذ للحماية من الشيطان و أذيته , إذ نرى أن لدى عقائد البابليين إن الرقى كانت شائعة الإستعمال , يحملها الناس لوقايتهم من أخطار العفاريت و حتى الأرباب كانت تحملها طلباً للسلامة و القوة بل و حتى مردوخ كما ذكرت أسطورة الخلق البابلية كان مزوداً بالسحر لدى محاربته تياميت .
و كذلك نرى في الهند إن أحجار الخواتم و الرقى استخدمت و لبست و التي دون شك كانت في إعتقادهم تطرد الأرواح الشريرة , و أيضاً لدى المصريين كان إستعمال التعاويذ أمراً شائعاً جداً و في المندائية ما زال المندائيون يستعملون السكندولة كوسيلة من وسائل الحماية ضد الكائنات الظلامية الشريرة مع ما تحمله السكندولة من رموز عالم الظلام نفسه .
إن مبدأ محاربة الشر بالشر أو برموزه قد أخذ شكلاً آخر لدى بعض العقائد المتطرفة في نظرتها للشيطان , إذ اعتقد أهل هذه العقائد إن عبادة الشيطان هي الوسيلة الأكثر ضماناً للوصول إلى عالم النور , بمعنى آخر , الوصول إلى النور من خلال الظلام , وقد بدا ذلك واضحاً لدى بعض الفرق الثنوية و منها المانوية و الشامانية اللتان تؤمنان أن إله الخير و النور قد ترك الأرض للشيطان ولو إلا حين , و كذلك الفرقة الأورفية و الكاثارية التي ظهرت بين العشائر الألمانية في القرون الوسطى , و أيضاً البوجمولية في بلاد البلقان و الألبية في فرنسا الجنوبية(35) .
أديان القسم الثاني:
تحدثنا و بشكل مختصر عن مفهوم الشيطان أو الكائنات الشريرة و عالمها الظلامي في بعض الأديان القديمة , نرى أن هذا المفهوم أو هذه الصورة قد تغيرت و بشكل كامل و جذري مع مجئ الديانة اليهودية ليستمر هذا التغيير و يتبلور بشكل أكبر في الديانة المسيحية و أخيراً في الإسلام , و على الرغم من وجود العديد من الإشارات في العهد القديم إلى العفاريت و الشياطين و الأرواح الشريرة إلا أن الشيطان كان يتمتع بمنزلة خاصة و مكانة معروفة و محددة ككائن معين و محدد له شخصيته و مكانته التي لايضاهيها أصلاً غيره من العفاريت و الأرواح الشريرة.
إن أهم التغييرات التي لحقت بالشيطان و صورته عن مثيلتها في الأديان القديمة هي :
1- تحول الشيطان من مكانته كإله في الأديان القديمة إلى مجرد ملاك , أو كبير الملائكة في أحسن الأحوال و المقربين من الله , و الذي تم إسقاطه و إبعاده عن الحضرة الإلهية الربانية لسبب من الأسباب و هي غالباً ما تكون الكبرياء و الإعتزاز بالنفس و الخيلاء و الغرور ,: (إن افتخار الشيطان بجماله و حكمته التي أعطاها الله له هما السبب في سقوطه) (36) و كذلك القرآن الكريم (و إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين) (37) , و أيضاً (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين) (38) .
إن حالة التغيير هذه من الألوهية التي كان عليها الشيطان إلى وضعيته الجديدة كملاك و مغضوب عليه أيضاً قد دعم الإتجاه التوحيدي بشكل قوي جداً , إذ لم يتبق أي نوع من التساوي في المكانة و النفوذ بين الله و بين الشيطان , إنما أصبح الله هو الإله الذي لا اله غيره و هو الخالق لكل شئ و الآمر لكل شئ , أما الشيطان فقد أصبح دوره في هذه الأديان الثلاثة دوراً هامشياً وليس له إلا أن يسير في دربه المرسوم له سابقاً .
لقد ساد الإعتقاد في الفكر العبري القديم إن كل شئ يعود في خلقه إلى الله فالله معطي الحياة جميعها , يهوة هو الرب الأعلى و هو المصدرر الوحيد للخير و الشر , أو كما يذكر في سفر أيوب 38:8 و ما بعدها (... إن كل مصيبة تحل بالناس سواء بالأفراد أو الأمم يرسلها يهوة) , وكذلك : (فهو الذي يرسل من يريد إلى شيول (الجحيم) و ينتشلهم منها متى شاء) (39) , وهو الذي أغوى الإنسان كي يختبر تقواه و مدى إخلاصه له و إستمراره في تعبده كما في حالة إبراهيم و أيوب (40) , وقد عبر أيوب عن هذه الحقيقة عندما قال (أنقبل الخير من عند الله و لا نقبل الشر) (41) , و كذلك في سفر أشعياء 244-24 نقرأ (من الذي دفع يعقوب إلى السلب و إسرائيل إلى الناهبين, ألم يكن الرب) .
إن هذه السيطرة الكاملة لدى الرب بأفعال الخير أو الشر على حد سواء قد جعلت الباحثين في الأديان الحديثة يعطون رأيين أثنين حول علاقة الله بالشيطان :
1- الأول يقول أن الشيطان ربما يكون هو الرب متنكراً و الثاني يقول أن الشيطان هو يد الله اليسرى المسيرة من قبله أو أن الشياطين هي مخلوقات ربانية غير كامله (42) .
2- على الرغم من قدرة الشيطان في هذه الأديان على فعل الشر و إغواء البشر و دفعهم إلى عصيان الله ثم التهلكة , فإن هذه القدرة الخارقة في الحقيقة ما هي إلا مظهر يختبئ تحته شيئاً آخر تماماً و مخالف للواقع الذي يقول إن الشيطان لا يمتلك أي إرادة خاصة به على فعل الشر , إنما كل أفعاله يكون مصدرها أما أمراً مباشراً أو غير مباشر من الرب أو لضعف الإنسان أمام الإغراءات و الغواية , ففي المسيحية نرى أن الشيطان في الظاهر يمتلك قوة خارقة و يستطيع أن يفعل ما يشاء في هذا العالم , ففي إنجيل يوحنا 14-30 نقرأ (... الشيطان الآن هو أمير بل ورب هذا العالم الفاني على السواء) و يقول عنه بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس بأنه (إله هذا الدهر) كما أنه (رئيس سلطان الهواء) كما يقول عنه في رسالة أفسس و هو روح الضعف , الشرير , رئيس هذا العالم , التنين العظيم , الحية القديمة إضافة إلى العديد من الأخبار و الإشارات التي تتحدث لنا عن قوته الكبيرة و مدى قدرته و سلطانه على إتيان الشر , و لكن في حقيقة الأمر فإن الشيطان لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة دون أن يستأذن الرب في ذلك كما حدث في حالة طرد الشياطين من أحد الأشخاص و توسل هذه الشياطين إلى يسوع أن يأذن لها بالدخول في الخنازير , فأذن لهم (لوقا 8 : 26 - 34)
أما في الإسلام فإن الشيطان لا يمتلك الإرادة الخاصة به أيضاً لفعل الشر و لكن هنا يأتي فعله كنتيجة مباشرة لضعف الإرادة الإنسانية أمام الشر و الغواية و الإغراء: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم) بل و في آية أخرى نرى بوضوح الدور الهامشي للشيطان و حقيقة موقفه الضعيف , فالله يخاطبه بقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) .
3- لعل أهم التغييرات التي طرأت على شخصية الشيطان و مكانته و علاقته بالرب هي تحول الصراع بينه و بين الرب من حالة الصراع المباشر بين الأثنين إلى حالة الصراع غير المباشر , و هنا أصبح الإنسان و لأول مرة مركزاً رئيسياً لهذاالصراع وو سيلة الطرفين المتنازعين لتحقيق الإنتصار كل على حساب الطرف الآخر , وتحول الصراع وفق هذا المفهوم من عالمه العلوي الذي كان يجري فيه إلى عالمنا البشري مجسداً بالإنسان الذي بدأ يعتبر محوراً لساحة المعركة يدور حولها الشيطان و الرب على حد سواء , و نرى ذلك واضحاً و خصوصاً في الديانة الإسلامية عندما يطلب الشيطان من الرب إطلاق يده على إغواء البشر و إغرائهم على العصيان و الفسق كما يشاء , فأعطاه الله ما أراد حتى يوم الدين (43) : (... قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم .قال ربي أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منه المخلصين ) (44) , و كذلك (قال أنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين . قال فيما أغويتني لأقعدن لهم سراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و من شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين) (45) .
أصبح الإنسان هو الوسيلة و هو الهدف الذي يسعى الجانبان إلى كسبه و الصراع من أجله و من خلاله بنفس الوقت , و تحولت المعركة بين الله و بين الشيطان من رحلات و غزوات و معارك بين عالميهما و كائناتهما إلى معركة تدور داخل الإنسان باعتباره يمثل وجهان لعملة واحدة و هما الخير و الشر , النور و الظلام , الحق و الباطل و الفائز منهما هوالذي يجعل الإنسان يتخذ الوجهة التي يريدها , تماماً كما حدث في قصة أيوب و المعاناة التي واجهها هذا العبد الصالح الذي صمد حتى النهاية في اختياره لطريق النور و الإيمان فاندحر بذلك الشيطان مع هذا العبد و خسر معركة كان يمكن أن يفوز بها و لكن فقط لو شاء الله تعالى .
و الملفت للنظر في الأمر أن الديانة المندائية و على خلاف بقية الأديان القديمة نراها تحمل نفس المفهوم عن الصراع بين الرب و الشيطان الموجود في الأديان الحديثة على الرغم من وجود المفهوم القديم عن طبيعة الصراع و ما هيته و كيف يجري في العوالم العلوية و التي لا دخل للأنسان فيها , و لكننا مع ذلك نجد الكثير من النصوص التي تتحدث عن المحاولات التي تجريها الروهة لكسب آدم إلى صفها و الإبتعاد به عن طريق الله القويم , مثلما يذكر أحد النصوص في كنزا ربا الأيمن 3 ص 107 , حيث تتكلم الروهة و ملائكة الكواكب حول آدم (46) :
(سنمسك آدم و ندخله في تجمعنا
في تجمعنا سندخله , ونعلق قلبه و نجعله في قبضتنا
و نصطاده عبر الأبواق و المزامير , حتى لا ينفصل عنا)
4- أصبحت و ظيفة الشيطان في هذه الأديان الثلاثة الأخيرة , وظيفة إختبارية تكتيكية فقط و ابتعد الشيطان بذلك عن ممارسة الشر كطبيعة موجودة فيه و مجبول عليها و انحصر دوره فقط في القيام بمهمة اختبار الإنسان و مهمة تضليله و غوايته ليس إلا , كما نرى ذلك في قصة أيوب أو قصة تجربته للمسيح و معرفة صلابة إيمانه أو في عملية التحدي التي جرت بين الله من جهة و بين الشيطان من جهة أخرى في الديانة الإسلامية , حول الإنسان و مدى صموده و صلابته في اختيار أحد الطريقين , طريق الحق أو الباطل , طريق الخير أو الشر , طريق النور أو الظلام.
و خطا الإنسان بعد ذلك بشكل تدريجي و بطئ خطوة أخرى نحو الأمام في طريق الدين فجمع كل الصفات الشريرة و كل تلك الأرواح الضارة والخبيثة في شخصية واحدة تسمى بأسماء عديدة إلا أن أشهرها و أكثرها إنتشاراً على الإطلاق كان أسم الشيطان الذي ورد لأول مرة كإسم علم و ذلك في في التوراة في سفر الأيام الأول – الإصحاح 21: (... و تآمرالشيطان ضد إسرائيل) . وقد ظهرت العديد من التفاسير و الشروحات لتوضح و تعرف شخصيةالشيطان الشهيرة هذه , و لكن على العموم تحددت التفاسير بإثنين فقط لا ثالث لهما الأول يقول بأنه ليس هناك من شخصية معينة و محددة تدعى بالشيطان , إنما الشيطان هو كل تلك الغرائز و العقد النفسية و الرغبات المكبوتة فينا , أو كما يقول عالم النفس سيغموند فرويد (أن الأبالسة في نظرنا نحن , رغبات شريرة , مستهجنة تنبع من دوافع مكبوحة مكبوتة) . أماالتفسيرالثاني فلا يرفض وجودالشيطان ككائن معين و ذو صفات تتفق علها أغلب الديانات على إعتبار أن العقل و العلم لا يرفضان وجود الشيطان أو الأرواح الطيبة منها أو الخبيثة .
أما من الناحية اللغوية فقد حاول الدارسون و الباحثون أن يجدوا أصلاً لهذه التسمية إلا أنهم إختلفوا كل الإختلاف مثلما إختلفوا حول كلمة إبليس فقال البعض أن كلمة الشيطان أصيلةفي اللغة العربية على إعتباروجودالعديد من الكلمات التي يعطي مصدرها معاني و الضلالة و الإحتراق و البعد مثل(شط – شاط – شوط و شطن) , و البعض الآخر قال أنها عبرية و تأتي بمعنى الضد أو العدو(5) . أما كلمة إبليس فقد رأى البعض أن أصلها يوناني من كلمة (Diabolos) ديابلوس و تأتي بمعنى الإعتراض و الوقيعة (6) , و البعض الآخر يرى أنها آتية من كلمة (الإبلاس) أي اليأس التام من رحمة الله و من العودة إلى الجنة (7) , و منهم من قال إن أصل التسمية مأخوذ من (Devil) في اللغات السكسونية و التي تعني يفعل الشر (8) بينما أرجع الآخرون الكلمة إلى (مغستوفليس) و هي مأخوذةمن اليونانية و تعني (كراهية النور) و مصدرها هو السحر البابلي الذي وصل إلى الغرب على أيدي اليهود اليونان و هذه التسمية تمثل روحاً من أرواح النحس التي تتسلط على بعض الكواكب (9) ,لقد اتفقت معظم الأديان السماوية منها و غير السماوية على الصفات التي تنسب إلى الشيطان و إن كانت هذه الأديان تختلف في نظرتها اختلافا جزئياً أو كلياً إلى مدى قدرة ولإرادة الشيطان على فعل الشر كما سنرى لاحقاً ففي البداية لم يكن هناك شيطان إنما هي مجموعة من الأرواح و الأطياف تمتلك صفات معينة و هذه الصفات تتعلق بمدى الضرر أو المنفعة التي يمكن أن تلحق بالأنسان البدائي لكي يقول عنها إنها شريرة أو خيرة و يرمز لها بكائنات أو أشكال مادية محسوسة كالتماثيل و الأحجار و الهياكل و ذلك في محاولة منه لإرضائها أو لتجنب شرورها (مثلما نرى ذلك واضحا في عبادة الأسلاف و الطوطمية و الفشتية) أي إن الشر أو الخير كان محصوراً بالنسبة له في مدى الضرر أوالنفع الذي يلحقه و يصيبه أما إذا كان هذا الضرر يصيب الآخرين و يحقق فائدة له فلا بأس به و يمكن أن يكون خيراً , و لكنه بعد ذلك , و بعد إرتقت عقليته الدينية إلى مراتب و مدارك أعلى من السابق أصبح يفهم الشر كمفهوم أخلاقي شامل أكثر من كونه مفهوما نفعياً فقط , فأصبح يعرف و يدرك أن الشهوات و الفتنة و الإغراء و المطامع إنما هي شرور سواء كانت هذه الصفات في مصلحته الشخصية أم لا , و سواء حققت له فائدة و منفعة أم لم تحقق لأن الشر هنا أصبح مفهوماً شاملاً أكثر من كونه مجرد وسيلة تحقق الضرر أو المنفعة للإنسان على حساب غيره .
و هنايمكن أن تقسم الأديان إلى قسمين رئيسيين و ذلك حسب الوظيفة التي يشغلها الشيطان فيها أو حسب مفهومها للشر و الغاية من وجوده ممثلاً بالشيطان كقوة روحية معبرة عنه (لا يعني هذا التقسيم بين أديان موحدة و أخرى غير موحدة إنما هو تقسيم مبني فقط على وظيفة الشيطان فيها ليس إلا) .
وعليه فإن القسم الأول سيشمل الأديان التي تنظر إلى الشيطان كقوة ذات طبيعة شريرة نابعة من تكوينها و مرتبط بوجودها و معبراً عن كيانها التركيبي و بأن فعلها للشر إنماهو تعبير عن هذه الطبيعة التي جبلت عليها و نرى ذلك واضحاً في الأديان القديمة , بينما القسم الثاني يشمل الأديان التي تنظر إلى وظيفة الشيطان أو سبب وجوده و فعله للشر كضرورة تكتيكية إختبارية من قبل الخالق لمعرفة مدى قدرة الإنسان على التمسك بجانب الخير أو إنزلاقه وراء الشيطان و ما يمثله من غواية و ضلالة و بالتالي إعطائه ما يستحق من مكانة خالدة في الجنة أو النار إلى أبد الآبدين , و نرى ذلك في الأديان اليهودية – المسيحية و الإسلامية و إن كانت هناك العديد من الفروقات في مكانة الشيطان و قدرته على فعل الشر في هذه الأديان .
أديان القسم الأول :
إن أي باحث في الأديان القديمة ستصيبه الحيرةو الإرباك و هو يحاول البحث عن شخصية معينة واحدة أو عن الشخصية الشريرة المميزة التي يمكن مقارنتها بالشيطان كما هو معروف في باقي الأديان الحديثة , إذ أن هناك عدداً كبيراً جداً من تلك الكائنات الشريرة الظلامية و التي تتبوأ مكانة كبيرة في عالمها الظلامي و لها قدرة غير إعتيادية على فعل الشر و ذلك واضح من خلال أسماء العديد منها في تلك الأديان مثلما نرى في المندائية : أطرفان (يضرب بقوة , يؤذي) (10) , أماميت (معتم مظلم) (11) , كرفيون (الملتهم) (12) , نمروس (الماردة , الساحقة , الهارسة)(13), أور(قائد جيوش الظلام , المارد , التنين) (14) و غيرها من الكائنات الشريرة , إلا أن الشخصية الرئيسية التي تلفت الإنتباه من بين تلك الكائنات هي الروهة (روح الشر) (16) و التي هي أم الشيطان و الكواكب السبعة و العلامات الزودياكية (البروج الإثني عشر) (17) و أم كل الكائنات الشيطانية في مملكة الكون , إن هذه المكانة الكبيرة للروهة تتعاظم لدينا إذاما علمنا أن ولادة ملك الظلام كانت من قبل الروهة (19) و كذلك سيد الظلام (أور) هو إبن لها و يسمى كاف–قن–كرون (20). إن تعدد الكائنات الشريرة و صعوبة تحديد من يقف على قمة عالم الشر نراها كذلك في ديانة مابين النهرين حيث تقسم الشياطين إلى ثلاثة أنواع و ذلك حسب الأصول التي تنحدر منها , فالصنف الأول هو (ذرية الإله العظيم آنو) و يقصد بهم المنحدرين من اصل سماوي , و الصنف الثاني من أصل بشري و هم أشباح الموتى , أما الصنف الثالث فينحدرون في أصلهم من العالم الأسفل و كانوا حشداً غفيراً من مختلف الانواع ولهم القدرة على إلحاق الأذى بأرواح الموتى الموجودة في العالم الأسفل و بكل المخلوقات على الأرض , كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ (21) :
(عبر الاسوار العالية السميكة , يمرون كالطوفان
يمرقون من بيت إلى بيت
لا يمنعهم باب و لا يصدهم مزلاج
فهم ينسلون عبر الباب كانسلال الأفاعي
و يمرقون من فتحته كالريح
ينتزعون الزوجةمن حضن زوجها
و يخطفون الطفل من على ركبتي أبيه
و يأخذون الرجل من بين أسرته)
بل و وصل الأمر إلى أن يكون لهذه الكائنات الشيطانية نوع من التخصص في عمل الشر و إيذاء الآخرين : (اشاكو) الذي يتغلغل في أجسام الناس يسبب الصداع , (رابيصو) الذي يختفي أثناء النهار و يظهر في الليل يسبب أمراض الجلد , (لبرتو) تسبب الكوابيس و (لباسو) يسبب الصرع (22) ... الخ إضافة إلى أن أشكالهم تتميز بالقبح و الشذوذ كما تشير إلى ذلك إحدى التعاويذ (23) :
( إنهم ليسوا ذكوراً و لا إناثاً
إنهم الرياح المهلكة
لا يعرفون شفقة و لا رحمة
إنهم الشر و كل الشر)
و مع ذلك فأن كل الكائنات الشريرة الموجودة في حضارة ما بين النهرين و ما تمثله من شر قد جمعت في شخصية واحدة تعتبر للعراقي القديم مصدر واساس لكل البلايا التي تصيب البشر بل و حتى الآلهة دونما تمييز , و هي شخصية الربة تياميت التي تعاظم شرها و إزداد بلاؤها ليصيب الأرباب أنفسهم مما حدا بهم أن ينتدبوا الإله الشاب مردوخ لمقاتلتها و القضاء عليها .
أما في الديانة المصرية القديمة فإن الإله المصري الذي نشهد ارتباطه بالشر في كافة العصورالتأريخية في مصر القديمة فهو (Apophis) أبوفيس و هو عفريت على شكل ثعبان ضخم جداً ذي طيات متعددة في كل منها سكين حاد (24) , و إضافة إلى هذا الإله فقد كان هناك أيضا (سيث) أخو أوزيريس , و هما إبنا الإله رع إله الشمس , الذي تشير المصادر إلى أنه قتل أخاه أوزيريس و رماه في نهر النيل و مصدر آخر يشير إلى اتهم أخاه بالظلم و العدوان و انكشفت هذه الكذبة فاصبح سيث رمزاً للكذب و النميمة و بالتالي أصبح مرادفاً (لكل ما يدل على الخراب و الشر) (25) , وفي الأزمنة المتأخرة من المملكة المصرية الحديثة اعتبر هو نفسه التيفون (الريح العاتية الشديدة) و الثعبان أبو فيس و الشيطان و بذلك فقد صار عنصر شر بذاته وعدواً للأرباب (26) .
و نجد كذلك في الحضارة الهندية و عقائد شعوبها مثالا آخر لفكرة تعدد الكائنات الشريرة و عدم وضوح الشخصية الرئيسية من بينها والتي يمكن مقارنتها بشيطان الأديان السماوية إلا بالكاد , فهناك الـ(راكشا) و هي عفاريت خبيثة ,ينسبون إليها أعمالا كأعمال الشياطين في الأديان الأُخرى و الـ(راكشا) كما يقول البعض هو الأسم الذي كان يطلق على الهمج الأوائل الذين سكنوا الهند قبل إغارة الآريين عليها و كانت لهم حراسة على الطرق و ينابيع الماء , وقد رسخ في الأذهان إنهم أعداء البشر و إنهم يتربصون بالناس و يؤذونهم (27) , و هناك أيضاً الحية آهي (Ahi) التي هي نفسها كما يظهر تجسمها للشر و التي قتلها الإله أندرا , و كذلك الربة الهندية (سيتالا) التي غضب عليها الإله (كيلاسا) و أخرجها من الجنة و بذلك صارت من الأرباب الساقطة المغضوب عليهم (28) , ونجد أيضاً (مايا) و هي تعبير عن العالم المحسوس الذي يعتبر هو الشر و الباطل و إن كل ما يربط الإنسان به شر و باطل مثله و قد صوروا العالم المحسوس أو (مايا) على شكل أنثى شديدة الفتنة و الإغراء على إعتبار أن كل الملذات و الفتن و الشرور تتجمع حسب رأي الهنود في المرأة(29) أما الشخصية المميزة بين هذه الكائنات الشريرة و التي يمكن مقارنتها بشكل كبير بشيطان الأديان السماوية فهي شخصية الرب (Mara) مارا الذي أغوى بوذا , وقد صورته الأساطير الهندوسية و التعاليم الدينية كمسؤول عن كل مباهج الدنيا و لذاتها و إغراءاتها و الفساد و الهرطقة وهو يسكن دوماً في الطبقة السادسة من السماء (30).
أما في الديانة الزرادشتية فنرىأن هناك تطورا كبيراً قد لحق شخصية الشيطان فنجدها أكثر وضوحا و أكثر تحديداً منها في بقية الأديان القديمة , و يسمى الشيطان في الزرادشتية بأهريمان (Ahriman) و سمى كذلك أنكرامينو (Angramanyu) , وعلى الرغم من وجود شخصية دروج (Druj) والتي هي التجسم الأنثوي للشر و تمثل جميع أعمال أهريمان الشريرة إلا أنه يبقى الشخصية الرئيسية و الوحيدة الممثلة للشر بكل وضوح (31) .
و كما رأينا فإن إحدى المميزات التي تتمتع بها الأديان القديمة في مفهومها عن الشر هي تعدد الكائنات الشريرة و عدم وجود شخصية واحدة رئيسية كما هو الحال في شيطان الأديان الحديثة , إضافة إلى ذلك نرى أن الصراع الموجود و المستمر بين هذه الكائنات وما تمثله من قوى شريرة و ظلامية مع نقيضها من قوى الخير هو صراع يجري دائماً بعيداً عن الإنسان بمعنى آخر أن الصراع بين هاتين القوتين هو صراع مباشر بينهما و لا دخل للإنسان فيه , فعالم النور في الديانة المندائية يرسل عدداً من الأثري (منداد هيي – هيبل زيوا) في رحلات إلى عالم الظلام لسحقه و قمع قواه الشريرة , كذلك في البابلية عندما تبعث الأرباب بالإله الشاب مردوخ لمقاتلة الربة تياميت و القضاء عليها و هذا ما تم فعلاً عندما استطاع هزيمتها و تقديم قائد جيوشها كنكو إلى الآلهة ليحكموا عليه بالموت و ليخلقوا من دمه الإنسان (32) .
و في الزرادشتية يستمر الصراع سجالاً بين الجانيبن , (أهورا مزدا) إله الخير و أهريمان إله الشر , إلى أن ينتهي الأمر بهزيمة عالم الظلام و شياطينه و لكن هزيمة مؤقتة و ليست نهائية ليبدأ بعدها الصراع من جديد .
و في الديانة المصرية القديمة يستمر القتال و الصراع بين أوزيريس من جهة و بين سيث من جهة أخرى و كما أن عبادة أوزيريس تحظى بشعبية كبيرة في شمال مصر فأن عبادة سيثا هي الأخرى تحظى بشعبية كبيرة لدى أهل جنوب مصر , و ربما كان الصراع بين هذين الشعبين هو الأصل في اختلاف نظرتهما إلى هذين الإلهين . و من خلال هذه الصراعات المستمرة بين هذين القوتين المتناقضتين , نلاحظ أن المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل يبدأ دائماً من جانب قوى الخير أو إله الخير أو عالم النور , بينما تكون حصة القوة المقابلة , قوة الشر هي رد الفعل و الدفاع فقط عن نفسها و وجودها من هذه المبادرات و الأفعال , فعالم النور في المندائية هو الذي يرسل الأثريين لمقارعة عوالم الظلام و كائناته و ليس في يد الكائنات الشريرة إلا القتال و الدفاع عن نفسها من هذا الخطر المحدق بها دون أن تستطيع أن تتخذ فعل المبادرة كما هو الحال في الجانب الآخر , وقد بدا ذلك واضحاً عندما رغب ملك الظلام أن يعلن الحرب على ملك النور و العوالم الأخرى : (.... سأصعد غلى تلك الأرض المشعة و أعلن الحرب على ملكها , سأنتزع منه تاجه و أضعه على رأسي , و سأكون ملك الأعالي و الأعماق) (32) إلا أنه يعجز عن ذلك تماماً و يكتفي بالصراخ و الزئير دون فعل حقيقي يذكر . و نفس المشهد يتكرر في الديانة البابلية في رحلة مردوخ و مقاتلة الربة تياميت حيث تكون المبادرة بالتحرك و الهجوم و الفعل من قبل جانب الخير و كذلك هو الحال في الديانة الزرادشتية , في الصراع بين اله الخير أهورا مزدا و بين إله الشر أهريمان .
كذلك نلاحظ أن هناك تركيزاً ملفتاً للإنتباه في هذه الأديان على الشخصية الأنثوية باعتبارها رمزاً من رموز الشر أو الشيطان , ففي المندائية هناك (الروهة) و في البابلية (تياميت) و في الديانة الهندية (سيتالا و مايا) و في الزرادشتية نرى (دروج) , إضافة إلى إن معظم الشخصيات الشريرة الرئيسية في هذه الأديان هي آلهة مثل (الرب مارا) في الديانة الهندية و (الربة تياميت) في الزرادشتية و (الإله سيث) في الديانة المصرية .
وهناك مسألة أخرى لا يسعنا إلا أن نذكرها و نحن نختتم أديان القسم الأول و هي إن معظم الشعوب التي كانت تدين بهذه العقائد قد إستعملت الرقى و التعاويذ للحماية من الشيطان و أذيته , إذ نرى أن لدى عقائد البابليين إن الرقى كانت شائعة الإستعمال , يحملها الناس لوقايتهم من أخطار العفاريت و حتى الأرباب كانت تحملها طلباً للسلامة و القوة بل و حتى مردوخ كما ذكرت أسطورة الخلق البابلية كان مزوداً بالسحر لدى محاربته تياميت .
و كذلك نرى في الهند إن أحجار الخواتم و الرقى استخدمت و لبست و التي دون شك كانت في إعتقادهم تطرد الأرواح الشريرة , و أيضاً لدى المصريين كان إستعمال التعاويذ أمراً شائعاً جداً و في المندائية ما زال المندائيون يستعملون السكندولة كوسيلة من وسائل الحماية ضد الكائنات الظلامية الشريرة مع ما تحمله السكندولة من رموز عالم الظلام نفسه .
إن مبدأ محاربة الشر بالشر أو برموزه قد أخذ شكلاً آخر لدى بعض العقائد المتطرفة في نظرتها للشيطان , إذ اعتقد أهل هذه العقائد إن عبادة الشيطان هي الوسيلة الأكثر ضماناً للوصول إلى عالم النور , بمعنى آخر , الوصول إلى النور من خلال الظلام , وقد بدا ذلك واضحاً لدى بعض الفرق الثنوية و منها المانوية و الشامانية اللتان تؤمنان أن إله الخير و النور قد ترك الأرض للشيطان ولو إلا حين , و كذلك الفرقة الأورفية و الكاثارية التي ظهرت بين العشائر الألمانية في القرون الوسطى , و أيضاً البوجمولية في بلاد البلقان و الألبية في فرنسا الجنوبية(35) .
أديان القسم الثاني:
تحدثنا و بشكل مختصر عن مفهوم الشيطان أو الكائنات الشريرة و عالمها الظلامي في بعض الأديان القديمة , نرى أن هذا المفهوم أو هذه الصورة قد تغيرت و بشكل كامل و جذري مع مجئ الديانة اليهودية ليستمر هذا التغيير و يتبلور بشكل أكبر في الديانة المسيحية و أخيراً في الإسلام , و على الرغم من وجود العديد من الإشارات في العهد القديم إلى العفاريت و الشياطين و الأرواح الشريرة إلا أن الشيطان كان يتمتع بمنزلة خاصة و مكانة معروفة و محددة ككائن معين و محدد له شخصيته و مكانته التي لايضاهيها أصلاً غيره من العفاريت و الأرواح الشريرة.
إن أهم التغييرات التي لحقت بالشيطان و صورته عن مثيلتها في الأديان القديمة هي :
1- تحول الشيطان من مكانته كإله في الأديان القديمة إلى مجرد ملاك , أو كبير الملائكة في أحسن الأحوال و المقربين من الله , و الذي تم إسقاطه و إبعاده عن الحضرة الإلهية الربانية لسبب من الأسباب و هي غالباً ما تكون الكبرياء و الإعتزاز بالنفس و الخيلاء و الغرور ,: (إن افتخار الشيطان بجماله و حكمته التي أعطاها الله له هما السبب في سقوطه) (36) و كذلك القرآن الكريم (و إذ قال ربك للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس أبى و استكبر و كان من الكافرين) (37) , و أيضاً (ولقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين . قال ما منعك ألا تسجد إذ أمرتك قال أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين) (38) .
إن حالة التغيير هذه من الألوهية التي كان عليها الشيطان إلى وضعيته الجديدة كملاك و مغضوب عليه أيضاً قد دعم الإتجاه التوحيدي بشكل قوي جداً , إذ لم يتبق أي نوع من التساوي في المكانة و النفوذ بين الله و بين الشيطان , إنما أصبح الله هو الإله الذي لا اله غيره و هو الخالق لكل شئ و الآمر لكل شئ , أما الشيطان فقد أصبح دوره في هذه الأديان الثلاثة دوراً هامشياً وليس له إلا أن يسير في دربه المرسوم له سابقاً .
لقد ساد الإعتقاد في الفكر العبري القديم إن كل شئ يعود في خلقه إلى الله فالله معطي الحياة جميعها , يهوة هو الرب الأعلى و هو المصدرر الوحيد للخير و الشر , أو كما يذكر في سفر أيوب 38:8 و ما بعدها (... إن كل مصيبة تحل بالناس سواء بالأفراد أو الأمم يرسلها يهوة) , وكذلك : (فهو الذي يرسل من يريد إلى شيول (الجحيم) و ينتشلهم منها متى شاء) (39) , وهو الذي أغوى الإنسان كي يختبر تقواه و مدى إخلاصه له و إستمراره في تعبده كما في حالة إبراهيم و أيوب (40) , وقد عبر أيوب عن هذه الحقيقة عندما قال (أنقبل الخير من عند الله و لا نقبل الشر) (41) , و كذلك في سفر أشعياء 244-24 نقرأ (من الذي دفع يعقوب إلى السلب و إسرائيل إلى الناهبين, ألم يكن الرب) .
إن هذه السيطرة الكاملة لدى الرب بأفعال الخير أو الشر على حد سواء قد جعلت الباحثين في الأديان الحديثة يعطون رأيين أثنين حول علاقة الله بالشيطان :
1- الأول يقول أن الشيطان ربما يكون هو الرب متنكراً و الثاني يقول أن الشيطان هو يد الله اليسرى المسيرة من قبله أو أن الشياطين هي مخلوقات ربانية غير كامله (42) .
2- على الرغم من قدرة الشيطان في هذه الأديان على فعل الشر و إغواء البشر و دفعهم إلى عصيان الله ثم التهلكة , فإن هذه القدرة الخارقة في الحقيقة ما هي إلا مظهر يختبئ تحته شيئاً آخر تماماً و مخالف للواقع الذي يقول إن الشيطان لا يمتلك أي إرادة خاصة به على فعل الشر , إنما كل أفعاله يكون مصدرها أما أمراً مباشراً أو غير مباشر من الرب أو لضعف الإنسان أمام الإغراءات و الغواية , ففي المسيحية نرى أن الشيطان في الظاهر يمتلك قوة خارقة و يستطيع أن يفعل ما يشاء في هذا العالم , ففي إنجيل يوحنا 14-30 نقرأ (... الشيطان الآن هو أمير بل ورب هذا العالم الفاني على السواء) و يقول عنه بولس في رسالته الثانية إلى كورنثوس بأنه (إله هذا الدهر) كما أنه (رئيس سلطان الهواء) كما يقول عنه في رسالة أفسس و هو روح الضعف , الشرير , رئيس هذا العالم , التنين العظيم , الحية القديمة إضافة إلى العديد من الأخبار و الإشارات التي تتحدث لنا عن قوته الكبيرة و مدى قدرته و سلطانه على إتيان الشر , و لكن في حقيقة الأمر فإن الشيطان لا يستطيع أن يخطو خطوة واحدة دون أن يستأذن الرب في ذلك كما حدث في حالة طرد الشياطين من أحد الأشخاص و توسل هذه الشياطين إلى يسوع أن يأذن لها بالدخول في الخنازير , فأذن لهم (لوقا 8 : 26 - 34)
أما في الإسلام فإن الشيطان لا يمتلك الإرادة الخاصة به أيضاً لفعل الشر و لكن هنا يأتي فعله كنتيجة مباشرة لضعف الإرادة الإنسانية أمام الشر و الغواية و الإغراء: (وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم) بل و في آية أخرى نرى بوضوح الدور الهامشي للشيطان و حقيقة موقفه الضعيف , فالله يخاطبه بقوله (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) .
3- لعل أهم التغييرات التي طرأت على شخصية الشيطان و مكانته و علاقته بالرب هي تحول الصراع بينه و بين الرب من حالة الصراع المباشر بين الأثنين إلى حالة الصراع غير المباشر , و هنا أصبح الإنسان و لأول مرة مركزاً رئيسياً لهذاالصراع وو سيلة الطرفين المتنازعين لتحقيق الإنتصار كل على حساب الطرف الآخر , وتحول الصراع وفق هذا المفهوم من عالمه العلوي الذي كان يجري فيه إلى عالمنا البشري مجسداً بالإنسان الذي بدأ يعتبر محوراً لساحة المعركة يدور حولها الشيطان و الرب على حد سواء , و نرى ذلك واضحاً و خصوصاً في الديانة الإسلامية عندما يطلب الشيطان من الرب إطلاق يده على إغواء البشر و إغرائهم على العصيان و الفسق كما يشاء , فأعطاه الله ما أراد حتى يوم الدين (43) : (... قال رب فانظرني إلى يوم يبعثون . قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم .قال ربي أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منه المخلصين ) (44) , و كذلك (قال أنظرني إلى يوم يبعثون . قال إنك من المنظرين . قال فيما أغويتني لأقعدن لهم سراطك المستقيم . ثم لآتينهم من بين أيديهم و من خلفهم و عن أيمانهم و من شمائلهم و لا تجد أكثرهم شاكرين) (45) .
أصبح الإنسان هو الوسيلة و هو الهدف الذي يسعى الجانبان إلى كسبه و الصراع من أجله و من خلاله بنفس الوقت , و تحولت المعركة بين الله و بين الشيطان من رحلات و غزوات و معارك بين عالميهما و كائناتهما إلى معركة تدور داخل الإنسان باعتباره يمثل وجهان لعملة واحدة و هما الخير و الشر , النور و الظلام , الحق و الباطل و الفائز منهما هوالذي يجعل الإنسان يتخذ الوجهة التي يريدها , تماماً كما حدث في قصة أيوب و المعاناة التي واجهها هذا العبد الصالح الذي صمد حتى النهاية في اختياره لطريق النور و الإيمان فاندحر بذلك الشيطان مع هذا العبد و خسر معركة كان يمكن أن يفوز بها و لكن فقط لو شاء الله تعالى .
و الملفت للنظر في الأمر أن الديانة المندائية و على خلاف بقية الأديان القديمة نراها تحمل نفس المفهوم عن الصراع بين الرب و الشيطان الموجود في الأديان الحديثة على الرغم من وجود المفهوم القديم عن طبيعة الصراع و ما هيته و كيف يجري في العوالم العلوية و التي لا دخل للأنسان فيها , و لكننا مع ذلك نجد الكثير من النصوص التي تتحدث عن المحاولات التي تجريها الروهة لكسب آدم إلى صفها و الإبتعاد به عن طريق الله القويم , مثلما يذكر أحد النصوص في كنزا ربا الأيمن 3 ص 107 , حيث تتكلم الروهة و ملائكة الكواكب حول آدم (46) :
(سنمسك آدم و ندخله في تجمعنا
في تجمعنا سندخله , ونعلق قلبه و نجعله في قبضتنا
و نصطاده عبر الأبواق و المزامير , حتى لا ينفصل عنا)
4- أصبحت و ظيفة الشيطان في هذه الأديان الثلاثة الأخيرة , وظيفة إختبارية تكتيكية فقط و ابتعد الشيطان بذلك عن ممارسة الشر كطبيعة موجودة فيه و مجبول عليها و انحصر دوره فقط في القيام بمهمة اختبار الإنسان و مهمة تضليله و غوايته ليس إلا , كما نرى ذلك في قصة أيوب أو قصة تجربته للمسيح و معرفة صلابة إيمانه أو في عملية التحدي التي جرت بين الله من جهة و بين الشيطان من جهة أخرى في الديانة الإسلامية , حول الإنسان و مدى صموده و صلابته في اختيار أحد الطريقين , طريق الحق أو الباطل , طريق الخير أو الشر , طريق النور أو الظلام.