الغريب2009
15-07-2016, 20:04
بسم الله الرحمن الرحيم
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
مسألة: الجزء التاسع التحليل الموضوعي
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين هذه الآية بيان لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع ، وهي التي تلي في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد ، الذي تقرر فيما قبلها من الآيات ، بأبلغ التوكيد ، فقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين يأمر فيه بثلاثة أشياء ، هي أصول كلية للقواعد الشرعية والآداب النفسية والأحكام العملية . الأصل الأول : العفو ، وهو يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه أو منه ، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه ، وعلى ما يأتي بدون طلب أو بدون إخفاء ومبالغة في الطلب ، وهذه المعاني متقاربة وهي وجودية ، ومن معانيه السلبية إزالة الشيء كعفت الرياح الديار والآثار . أو إزالة أثره كالعفو عن الذنب ، وهو منع ما يترتب عليه من العقاب ، فمعاني العفو الوجودية والعدمية أو الموجبة [ ص: 445 ] والسالبة كلها إحسان ، ورفق ، وقد ورد عن مفسري السلف في تفسير العفو هنا أقوال كلها ترجع إلى هذه المعاني ، فرواية العوفي عن ابن عباس في تفسير خذ العفو خذ ما عفا لك من أموالهم - أي ما فضل وما أتوك به من شيء . وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها ، وبذلك قال السدي وزعم أنها نسخت بآية الزكاة - وفي رواية الضحاك عنه : أنفق الفضل ، ومثلها عن سعيد بن جبير . وفي عدة روايات عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عمه عبد الله بن الزبير أن معناها : خذ العفو من أخلاق الناس ، ومثله وفي رواية لهشام عن عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين مثل ذلك ، وبه قال مجاهد ، وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن العفو هنا الصفح عن المشركين ، وكان عشر سنين فنسخ بآية السيف ، وهذا ضعيف; لأن العفو بهذا المعنى لا يعبر عنه بالأخذ; لأنه أمر عدمي هو بالإعطاء أشبه ، ولا بالقبول لأنه لم يطلب . وأحسن الزمخشري ما شاء في تصويره معنى العفو بما تعطيه اللغة ، فقال : والعفو ضد الجهد ، أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم ، وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ، ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا كقوله - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا قال :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل : خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل نزول آية الزكاة . فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها . اهـ . نقول : وبقيت الآية محكمة في صدقة التطوع .
والمختار عندنا أن العفو يشمل هذا وذاك ، فالمراد به أن من أصول آداب هذا الدين وقواعد شرعه اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة ، وقد خالف هذه القاعدة الأساسية أهل الفقه المقلوب ، فجعلوا العسر والحرج من أهم قواعد الدين وأصول الشرع فعلا لا تسمية ، وقد صح في الأحاديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما " وترى هؤلاء لا يخير أحدهم بين أمرين إلا اختار أعسرهما ، ولا سيما العسر على الأمة بأسرها ، وأما فتاوى الأفراد فقد قال بعض المصنفين منهم في المسألة فيها قولان مصححان : نحن مع الدراهم قلة وكثرة ! يعني : في الفتوى بأحدهما .
الأصل الثاني : الأمر بالعرف وهو ما تعارفه الناس من الخير وفسروه بالمعروف . وفي اللسان : المعروف ضد المنكر ، والعرف ضد النكر قال : والعرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر ، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ به وتطمئن إليه ( قال ) وقد تكرر [ ص: 446 ] ذكر المعروف في الحديث ، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه ونهي عنه من المحسنات والمقبحات ، وهو من الصفات الغالية ، أي أمر معروف بين الناس إذ رأوه لا ينكرونه ، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم ، والمنكر ضد ذلك جميعه اهـ .
والقول الجامع : أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول ، والمنكر هو المستقبح عند الناس الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره ، ويذمونه ويذمون أهله . والأمر به في هذه السورة المكية التي نزلت في أصول الدين وكليات التشريع ، يثبت لنا أن العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينية والتشريع الإسلامي ، وهو مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة ، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها ، حتى إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعروف في عقد مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للنساء قال عز وجل في سورة الممتحنة : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ( 60 : 12 ) ومن المعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول ، فتقييد طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه بالمعروف دليل على أن التزام المعروف من أعظم أركان هذا الدين وشرعه ، ومن المعلوم في السنة أن مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للرجال كانت مبنية على أصل مبايعته للنساء المنصوص في هذه الآية . وقال - صلى الله عليه وسلم - : إنما الطاعة في المعروف وهو في مواضع من الصحيح .
وقد تقدم من هذه السورة ( الأعراف ) وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بشارة التوراة والإنجيل بأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ( 7 : 157 ) وورد في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما حكاه تعالى من وصية لقمان في السورة المسماة باسمه وهي مكية كالأعراف ، ثم تكرر ذكر المعروف في السور المدنية ، وأكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية ، وذلك في عشرات من الآيات ، بعضها في صفة الأمة الإسلامية وحكوماتها ، وأكثرها في الأحكام الزوجية والمالية . فمن النوع الأول قوله في تعليل الإذن للمسلمين بالقتال من سورة الحج ، فذكر من صفات المأذون لهم به أنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق لأجل توحيد الله تعالى ، ثم قال : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( 22 : 41 ) ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 3 : 104 ) وقوله بعدها : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( 3 : 110 ) [ ص: 447 ] وقوله عز وجل في سورة التوبة : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( 9 : 71 ) الآية . ثم قوله في صفاتهم ، منها : التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ( 9 : 112 ) فهذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة عن التزامها في آدابها وتشريعها .
ومن النوع الثاني وهو ما ورد في الأحكام الفرعية قوله تعالى في الحقوق الزوجية من سورة البقرة : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ( 2 : 228 ) وهذه الآية ركن من أركان الحقوق الزوجية يفضل بها الإسلام جميع الشرائع والقوانين في العدل والمصلحة ، ولم تنل النساء مثله في أمة من الأمم . ومنها قوله في أحكام الطلاق : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ( 229 ) وقوله بعده : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ( 231 ) - ومثلها في سورة الطلاق - وقوله بعدها في المطلقات الرجعيات ، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ( 232 ) وقوله بعدها فيهن إذا كن مرضعات : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ( 233 ) إلى قوله : فيهن إذا أراد الزوجان الفصال عن تراض منهما وتشاور : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ( 2 : 233 ) وقوله في الآية التي بعدها في معتدات الوفاة : فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ( 234 ) وقوله بعد آية أخرى في المطلقات : ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ( 236 ) وقوله بعد أربع آيات أخرى : وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ( 241 ) وكقوله في معاشرة الأزواج من سورة النساء : وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 4 : 19 ) وهنالك آيات أخرى في العفو عن القصاص وفي الوصية للوالدين والأقربين وفي أكل الوصي من مال اليتيم قيدت بالمعروف .
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآيات معتبر في هذه الأحكام المهمة ، وأن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات ، ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد والأوقات ، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس " مخالف لنص كتاب الله تعالى . ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف ، منها أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به ، وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن [ ص: 448 ] بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن ، كان هذا كالشرط فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن .
فإن قلت : إن بعض العلماء قالوا : إن المراد بالعرف والمعروف في الآيات هو المنصوص في الشرع ، كقول صاحب لباب التأويل في قوله : وأمر بالعرف وأمر بكل ما أمرك الله به وعرفته بالوحي . فالجواب أن مثل هذا القول مخالف لما ذكرنا وما لم نذكر من أقوال السلف والخلف ، ولا يمكن أن يراد من كل آية ، ولا من مجموع الآيات المتقدمة ، وما يحتمله منها كآيات الأمر والنهي المدنية لا بد أن يكون اللفظ فيها عاما يشمل المعروف في الشرع وفي العادات والمعاملات ، ولا يظهر هذا في آية الأعراف التي هي الأصل الأول; لأنها الأولى في الموضوع ، ولم يكن قد نزل قبلها أحكام يفسر بها العرف ويحال عليها فيه - فما قاله صاحب لباب التأويل هو من قشره لا من لبابه ، وأول ما يرد عليه أنه إذا كان المراد من العرف المعروف بالوحي ، يقال فيه إنه لم يكن قبل الأمر به معروفا ، وبعد الأمر به صار من قبيل تحصيل الحاصل .
نعم إن ما يتقرر بنص الشرع يصير من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول ، كما أنه يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر . ويبقى تحكيم العرف والمعروف بالمعنى اللغوي العام معتبرا فيما لا نص فيه بخصوصه ، وللأمة فيه عرف غير معارض بنص ، ولا يستقيم نظام الأمة على أساس ثابت إذا كان أمر العرف والمعروف فيها فوضى وغير مقيد بأصول وأحكام وفضائل ثابتة ، فلا بد من شيء ثابت ، وهو ما لا تختلف فيه المصالح والمنافع باختلاف الزمان والمكان وأحوال المعيشة ، ولا بد من شيء يحكم فيه العرف وهو ما يقابله ; ولذلك جاء الشرع الحكيم بهما معا ، ولا يضر مع هذا اختلاف الناس فيما يعرفون وينكرون ، فليكن المعروف كما قال الجصاص من أئمة الحنفية : ما يستحسن في العقل فعله ولا تنكره العقول الصحيحة ، فيكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة إذ لا يمكن أن يستنكر المؤمن ما جاء عن الله ورسوله نصا حتما لا اجتهاد فيه ، وليكن للجماعة بعده رأي فيما يعرفون وينكرون ، ويستحسنون ويستهجنون ، يكون عمدتهم فيه جمهور العقلاء والعلماء وأهل الأدب والفضيلة في كل عصر .
الأصل الثالث : الإعراض عن الجاهلين ، وهم السفهاء ، بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم ، ولا علاج أوقى لأذاهم من الإعراض عنهم ، وشرهم في هذا العصر مرتزقة صحف الأخبار المنتشرة ، فإن سفهاءها هم شر من سفهاء الشعراء في العصور السابقة ، وقد قل سفه الشعراء في عصرنا هذا فلا أعرف لشاعر مشهور من القذع والبذاء في الهجو شيئا مما نعهد في الصحف التي يعبرون عنها بالساقطة ، وكم من صحيفة قائمة ناهضة بالثروة ، شر من ساقطة بالقلة .
[ ص: 449 ] وإنما يجب الإعراض عن السفهاء; لأنهم لا يطلبون الحق إذا فقدوه ، ولا يأخذون فيما يخالف أهواءهم إذا وجدوه ، ولا يرعون عهدا ، ولا يحفظون ودا ، ولا يشكرون من النعمة إلا ما اتصل مدده ، فإذا انقطع عاد الشكر كفرا ، واستحال المدح ذما .
أكثر ما كتب المفسرون في هذه الآية ما دلت عليه من الآداب ، وأقله ما اشتملت عليه من أصول الأحكام ، وروي عن جدنا الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - أنه قال : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ، ووجهوه بأن الأخلاق ثلاثة بحسب القوى الإنسانية ، عقلية ، وشهوية ، وغضبية ، فالعقلية الحكمة ، ومنها الأمر بالمعروف ، والشهوية العفة ومنها أخذ العفو ، والغضبية الشجاعة ومنها الإعراض عن الجاهلين . وروى الطبري مرسلا وابن مردويه موصولا من حديث جابر وغيره لما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عنها فقال : " لا أعلم حتى أسأل . ثم رجع فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك " اهـ . من فتح الباري ، ومراد الإمام أعلى وأشمل من ذلك ، وفهمه أبعد وأوسع من فهم من علله أو فسره كما علمت من تفسيرها في الجملة .
وذكر ابن كثير أن بعض الحكماء أخذ هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن : قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات ، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوعتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ، ولا أكرومة إلا افتتحتها ، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة : فقوله : خذ العفو تولى بالبيان جانب اللين ، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف ، وقوله : وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات ، وأنهما ما عرف حكمه ، واستقر في الشريعة موضعه ، واتفقت القلوب على علمه ، وقوله : وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره . ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا . اهـ . ومن مباحث البلاغة في الآية أن ما جمعته هذه الكلمات الثلاث من المعاني العالية هو من إعجاز إيجاز القرآن ، الذي لا مطمع في مثله لإنس ولا جان والله أعلم .
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين
مسألة: الجزء التاسع التحليل الموضوعي
خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين هذه الآية بيان لأصول الفضائل الأدبية وأساس التشريع ، وهي التي تلي في المرتبة أصول العقيدة المبنية على التوحيد ، الذي تقرر فيما قبلها من الآيات ، بأبلغ التوكيد ، فقوله تعالى : خذ العفو وأمر بالعرف وأعرض عن الجاهلين يأمر فيه بثلاثة أشياء ، هي أصول كلية للقواعد الشرعية والآداب النفسية والأحكام العملية . الأصل الأول : العفو ، وهو يطلق في اللغة على خالص الشيء وجيده ، وعلى الفضل الزائد فيه أو منه ، وعلى السهل الذي لا كلفة فيه ، وعلى ما يأتي بدون طلب أو بدون إخفاء ومبالغة في الطلب ، وهذه المعاني متقاربة وهي وجودية ، ومن معانيه السلبية إزالة الشيء كعفت الرياح الديار والآثار . أو إزالة أثره كالعفو عن الذنب ، وهو منع ما يترتب عليه من العقاب ، فمعاني العفو الوجودية والعدمية أو الموجبة [ ص: 445 ] والسالبة كلها إحسان ، ورفق ، وقد ورد عن مفسري السلف في تفسير العفو هنا أقوال كلها ترجع إلى هذه المعاني ، فرواية العوفي عن ابن عباس في تفسير خذ العفو خذ ما عفا لك من أموالهم - أي ما فضل وما أتوك به من شيء . وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها ، وبذلك قال السدي وزعم أنها نسخت بآية الزكاة - وفي رواية الضحاك عنه : أنفق الفضل ، ومثلها عن سعيد بن جبير . وفي عدة روايات عن هشام بن عروة بن الزبير عن أبيه عن عمه عبد الله بن الزبير أن معناها : خذ العفو من أخلاق الناس ، ومثله وفي رواية لهشام عن عروة عن خالته عائشة أم المؤمنين مثل ذلك ، وبه قال مجاهد ، وروي عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم أن العفو هنا الصفح عن المشركين ، وكان عشر سنين فنسخ بآية السيف ، وهذا ضعيف; لأن العفو بهذا المعنى لا يعبر عنه بالأخذ; لأنه أمر عدمي هو بالإعطاء أشبه ، ولا بالقبول لأنه لم يطلب . وأحسن الزمخشري ما شاء في تصويره معنى العفو بما تعطيه اللغة ، فقال : والعفو ضد الجهد ، أي خذ ما عفا لك من أفعال الناس وأخلاقهم ، وما أتى منهم وتسهل من غير كلفة ، ولا تداقهم ولا تطلب منهم الجهد وما يشق عليهم حتى ينفروا كقوله - صلى الله عليه وسلم - يسروا ولا تعسروا قال :
خذي العفو مني تستديمي مودتي ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
وقيل : خذ الفضل وما تسهل من صدقاتهم ، وذلك قبل نزول آية الزكاة . فلما نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها . اهـ . نقول : وبقيت الآية محكمة في صدقة التطوع .
والمختار عندنا أن العفو يشمل هذا وذاك ، فالمراد به أن من أصول آداب هذا الدين وقواعد شرعه اليسر وتجنب الحرج وما يشق على الناس ، وقد تقدم تفصيل القول في ذلك في تفسير آية الوضوء من سورة المائدة ، وقد خالف هذه القاعدة الأساسية أهل الفقه المقلوب ، فجعلوا العسر والحرج من أهم قواعد الدين وأصول الشرع فعلا لا تسمية ، وقد صح في الأحاديث : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما " وترى هؤلاء لا يخير أحدهم بين أمرين إلا اختار أعسرهما ، ولا سيما العسر على الأمة بأسرها ، وأما فتاوى الأفراد فقد قال بعض المصنفين منهم في المسألة فيها قولان مصححان : نحن مع الدراهم قلة وكثرة ! يعني : في الفتوى بأحدهما .
الأصل الثاني : الأمر بالعرف وهو ما تعارفه الناس من الخير وفسروه بالمعروف . وفي اللسان : المعروف ضد المنكر ، والعرف ضد النكر قال : والعرف والعارفة والمعروف واحد ضد النكر ، وهو كل ما تعرفه النفس من الخير وتبسأ به وتطمئن إليه ( قال ) وقد تكرر [ ص: 446 ] ذكر المعروف في الحديث ، وهو اسم جامع لكل ما عرف من طاعة الله والتقرب إليه ، والإحسان إلى الناس ، وكل ما ندب إليه ونهي عنه من المحسنات والمقبحات ، وهو من الصفات الغالية ، أي أمر معروف بين الناس إذ رأوه لا ينكرونه ، والمعروف النصفة وحسن الصحبة مع الأهل وغيرهم ، والمنكر ضد ذلك جميعه اهـ .
والقول الجامع : أن العرب تطلق المعروف على ضد المنكر وعلى ضد المجهول ، والمنكر هو المستقبح عند الناس الذي ينفرون منه لقبحه أو ضرره ، ويذمونه ويذمون أهله . والأمر به في هذه السورة المكية التي نزلت في أصول الدين وكليات التشريع ، يثبت لنا أن العرف أو المعروف أحد هذه الأركان للآداب الدينية والتشريع الإسلامي ، وهو مبني على اعتبار عادات الأمة الحسنة ، وما تتواطأ عليه من الأمور النافعة في مصالحها ، حتى إن كتاب الله عز وجل قد قيد طاعة رسوله - صلى الله عليه وسلم - بالمعروف في عقد مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للنساء قال عز وجل في سورة الممتحنة : يا أيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولادهن ولا يأتين ببهتان يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ( 60 : 12 ) ومن المعلوم أن عقد المبايعة أعظم العقود في الأمم والدول ، فتقييد طاعة الرسول - صلى الله عليه وسلم - فيه بالمعروف دليل على أن التزام المعروف من أعظم أركان هذا الدين وشرعه ، ومن المعلوم في السنة أن مبايعته - صلى الله عليه وسلم - للرجال كانت مبنية على أصل مبايعته للنساء المنصوص في هذه الآية . وقال - صلى الله عليه وسلم - : إنما الطاعة في المعروف وهو في مواضع من الصحيح .
وقد تقدم من هذه السورة ( الأعراف ) وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - في بشارة التوراة والإنجيل بأنه يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ( 7 : 157 ) وورد في ذكر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فيما حكاه تعالى من وصية لقمان في السورة المسماة باسمه وهي مكية كالأعراف ، ثم تكرر ذكر المعروف في السور المدنية ، وأكثرها في بيان الأحكام الشرعية العملية ، وذلك في عشرات من الآيات ، بعضها في صفة الأمة الإسلامية وحكوماتها ، وأكثرها في الأحكام الزوجية والمالية . فمن النوع الأول قوله في تعليل الإذن للمسلمين بالقتال من سورة الحج ، فذكر من صفات المأذون لهم به أنهم ظلموا وأخرجوا من ديارهم بغير حق لأجل توحيد الله تعالى ، ثم قال : الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ( 22 : 41 ) ومنه قوله تعالى في سورة آل عمران : ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ( 3 : 104 ) وقوله بعدها : كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ( 3 : 110 ) [ ص: 447 ] وقوله عز وجل في سورة التوبة : والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ( 9 : 71 ) الآية . ثم قوله في صفاتهم ، منها : التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين ( 9 : 112 ) فهذه الآيات أصول لا مندوحة للأمة عن التزامها في آدابها وتشريعها .
ومن النوع الثاني وهو ما ورد في الأحكام الفرعية قوله تعالى في الحقوق الزوجية من سورة البقرة : ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة ( 2 : 228 ) وهذه الآية ركن من أركان الحقوق الزوجية يفضل بها الإسلام جميع الشرائع والقوانين في العدل والمصلحة ، ولم تنل النساء مثله في أمة من الأمم . ومنها قوله في أحكام الطلاق : فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ( 229 ) وقوله بعده : فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف ( 231 ) - ومثلها في سورة الطلاق - وقوله بعدها في المطلقات الرجعيات ، فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ( 232 ) وقوله بعدها فيهن إذا كن مرضعات : وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف ( 233 ) إلى قوله : فيهن إذا أراد الزوجان الفصال عن تراض منهما وتشاور : وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف ( 2 : 233 ) وقوله في الآية التي بعدها في معتدات الوفاة : فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف ( 234 ) وقوله بعد آية أخرى في المطلقات : ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين ( 236 ) وقوله بعد أربع آيات أخرى : وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين ( 241 ) وكقوله في معاشرة الأزواج من سورة النساء : وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا ويجعل الله فيه خيرا كثيرا ( 4 : 19 ) وهنالك آيات أخرى في العفو عن القصاص وفي الوصية للوالدين والأقربين وفي أكل الوصي من مال اليتيم قيدت بالمعروف .
فأنت ترى أن المعروف في هذه الآيات معتبر في هذه الأحكام المهمة ، وأن المعروف فيها هو المعهود بين الناس في المعاملات والعادات ، ومن المعلوم بالضرورة أنه يختلف باختلاف الشعوب والبيوت والبلاد والأوقات ، فتحديده وتعيينه باجتهاد بعض الفقهاء بدون مراعاة عرف الناس " مخالف لنص كتاب الله تعالى . ولشيخ الإسلام ابن تيمية وغيره من فقهاء الحديث والحنابلة أقوال حكيمة في المعروف ، منها أنه يجب على كل من الزوجين من أعمال البيت والأسرة ما جرى العرف به ، وأنه إذا كان من المعروف عن بعض البيوت أنهن لا يزوجن [ ص: 448 ] بناتهن لمن يتزوج عليهن ويضارهن ، كان هذا كالشرط فلا يجوز للرجل أن يتزوج على المرأة منهن .
فإن قلت : إن بعض العلماء قالوا : إن المراد بالعرف والمعروف في الآيات هو المنصوص في الشرع ، كقول صاحب لباب التأويل في قوله : وأمر بالعرف وأمر بكل ما أمرك الله به وعرفته بالوحي . فالجواب أن مثل هذا القول مخالف لما ذكرنا وما لم نذكر من أقوال السلف والخلف ، ولا يمكن أن يراد من كل آية ، ولا من مجموع الآيات المتقدمة ، وما يحتمله منها كآيات الأمر والنهي المدنية لا بد أن يكون اللفظ فيها عاما يشمل المعروف في الشرع وفي العادات والمعاملات ، ولا يظهر هذا في آية الأعراف التي هي الأصل الأول; لأنها الأولى في الموضوع ، ولم يكن قد نزل قبلها أحكام يفسر بها العرف ويحال عليها فيه - فما قاله صاحب لباب التأويل هو من قشره لا من لبابه ، وأول ما يرد عليه أنه إذا كان المراد من العرف المعروف بالوحي ، يقال فيه إنه لم يكن قبل الأمر به معروفا ، وبعد الأمر به صار من قبيل تحصيل الحاصل .
نعم إن ما يتقرر بنص الشرع يصير من جملة المعروف الذي هو ضد المجهول ، كما أنه يكون بالضرورة من المعروف الذي هو ضد المنكر . ويبقى تحكيم العرف والمعروف بالمعنى اللغوي العام معتبرا فيما لا نص فيه بخصوصه ، وللأمة فيه عرف غير معارض بنص ، ولا يستقيم نظام الأمة على أساس ثابت إذا كان أمر العرف والمعروف فيها فوضى وغير مقيد بأصول وأحكام وفضائل ثابتة ، فلا بد من شيء ثابت ، وهو ما لا تختلف فيه المصالح والمنافع باختلاف الزمان والمكان وأحوال المعيشة ، ولا بد من شيء يحكم فيه العرف وهو ما يقابله ; ولذلك جاء الشرع الحكيم بهما معا ، ولا يضر مع هذا اختلاف الناس فيما يعرفون وينكرون ، فليكن المعروف كما قال الجصاص من أئمة الحنفية : ما يستحسن في العقل فعله ولا تنكره العقول الصحيحة ، فيكفي المسلمين المحافظة على النصوص الثابتة إذ لا يمكن أن يستنكر المؤمن ما جاء عن الله ورسوله نصا حتما لا اجتهاد فيه ، وليكن للجماعة بعده رأي فيما يعرفون وينكرون ، ويستحسنون ويستهجنون ، يكون عمدتهم فيه جمهور العقلاء والعلماء وأهل الأدب والفضيلة في كل عصر .
الأصل الثالث : الإعراض عن الجاهلين ، وهم السفهاء ، بترك معاشرتهم وعدم مماراتهم ، ولا علاج أوقى لأذاهم من الإعراض عنهم ، وشرهم في هذا العصر مرتزقة صحف الأخبار المنتشرة ، فإن سفهاءها هم شر من سفهاء الشعراء في العصور السابقة ، وقد قل سفه الشعراء في عصرنا هذا فلا أعرف لشاعر مشهور من القذع والبذاء في الهجو شيئا مما نعهد في الصحف التي يعبرون عنها بالساقطة ، وكم من صحيفة قائمة ناهضة بالثروة ، شر من ساقطة بالقلة .
[ ص: 449 ] وإنما يجب الإعراض عن السفهاء; لأنهم لا يطلبون الحق إذا فقدوه ، ولا يأخذون فيما يخالف أهواءهم إذا وجدوه ، ولا يرعون عهدا ، ولا يحفظون ودا ، ولا يشكرون من النعمة إلا ما اتصل مدده ، فإذا انقطع عاد الشكر كفرا ، واستحال المدح ذما .
أكثر ما كتب المفسرون في هذه الآية ما دلت عليه من الآداب ، وأقله ما اشتملت عليه من أصول الأحكام ، وروي عن جدنا الإمام جعفر الصادق - رضي الله عنه - أنه قال : ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها ، ووجهوه بأن الأخلاق ثلاثة بحسب القوى الإنسانية ، عقلية ، وشهوية ، وغضبية ، فالعقلية الحكمة ، ومنها الأمر بالمعروف ، والشهوية العفة ومنها أخذ العفو ، والغضبية الشجاعة ومنها الإعراض عن الجاهلين . وروى الطبري مرسلا وابن مردويه موصولا من حديث جابر وغيره لما نزلت خذ العفو وأمر بالعرف سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - جبريل عنها فقال : " لا أعلم حتى أسأل . ثم رجع فقال : إن ربك يأمرك أن تصل من قطعك ، وتعطي من حرمك ، وتعفو عمن ظلمك " اهـ . من فتح الباري ، ومراد الإمام أعلى وأشمل من ذلك ، وفهمه أبعد وأوسع من فهم من علله أو فسره كما علمت من تفسيرها في الجملة .
وذكر ابن كثير أن بعض الحكماء أخذ هذا المعنى فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال القاضي أبو بكر بن العربي في أحكام القرآن : قال علماؤنا : هذه الآية من ثلاث كلمات ، قد تضمنت قواعد الشريعة في المأمورات والمنهيات ، حتى لم يبق فيها حسنة إلا أوعتها ، ولا فضيلة إلا شرحتها ، ولا أكرومة إلا افتتحتها ، وأخذت الكلمات الثلاث أقسام الإسلام الثلاثة : فقوله : خذ العفو تولى بالبيان جانب اللين ، ونفي الحرج في الأخذ والإعطاء والتكليف ، وقوله : وأمر بالعرف تناول جميع المأمورات والمنهيات ، وأنهما ما عرف حكمه ، واستقر في الشريعة موضعه ، واتفقت القلوب على علمه ، وقوله : وأعرض عن الجاهلين تناول جانب الصفح بالصبر الذي يتأتى للعبد به كل مراد في نفسه وغيره . ولو شرحنا ذلك على التفصيل لكان أسفارا . اهـ . ومن مباحث البلاغة في الآية أن ما جمعته هذه الكلمات الثلاث من المعاني العالية هو من إعجاز إيجاز القرآن ، الذي لا مطمع في مثله لإنس ولا جان والله أعلم .