شيخ الأسرار الباطنية
17-02-2011, 20:23
شريعة طريق الحقيقة
الأديان جسر يعبره الإنسان للتعرف على ما يحويه بنيانه وكيانه من أبعاد ومستويات تتعدى حدود اللغة التي يخاطبه بها نص الدين وتصل به حيث تعجز الكلمات. كيان الإنسان يحوي أبعادا لا تُعد ولا تحصى، أهمها ثلاثة: الجسد والفكر والروح. هذه الأبعاد ترمز إلى ثلاثة وجوه شاء الكون أن يتجسد بها من خلال الإنسان، وأي وجه تختار؟
لنا حق الاختيار في أن نحيا على مستوى الجسد أو الفكر أو الروح. وكلمة الحق التي جاء بها الأنبياء لها الحق في أن تتجسد بأيّ وجه تشاء لتخاطب الإنسان بما يفهمه عقله ويستوعبه وعيه، وقد رأيناها تتجسد عبر الأزمنة على ثلاث مستويات جسداً وفكراً وروحاً. هذه المستويات الثلاث كانت الحديقة التي نمَت في تربتها بذرة الثلاثية في الأديان.
فمن كان يحيا الحياة كجسد يأكل ويشرب وينام دون أن يبحث قلبه عن نبض قلب الوجود ليتناغم معه ويرقص على أنغام أغنياته، لن يرى من الدين سوى جسده، شكله وطقوسه، أوامره ونواهيه ولن يفقه أسراره وخوافيه، جوهره ومعانيه. ومن كان يحيا الحياة بعقله ومشاعره، والمشاعر هي ردة فعل العقل عبر الجسد، سيحيا البعد الثاني للدين، البُعد النفسي والإدراكي الحسي. أما جهل الإنسان لذاته العليا ووعيه الأكبر الذي يوحده بالأكبر الأكبر من أي اسم وفهم وتصوُّر، فجهله حاجز بينه وبين جوهر الدين... بينه وبين البعد الثالث الأعمق والأبعد من أي بُعد. جهله لحقيقة وجوده هو نافذة مغلقة تمنع العين من رؤية نور الشمس والشعور بدفئها وجمالها. موت هذا الجهل هو ولادة الدين بجوهره وأرقى صوره... هو ولادة الإنسان من الروح القدس وفي قلب الله... هو الإنسان يحيا كروح تحررت من سجن الجسد والفكر.
وجوه الدين الثلاث والتي تجسِّد الجسد والفكر والروح هي: الشريعة والطريقة والحقيقة.
الشريعة هي جسد الدين، والجسد يحيا ويموت. هكذا هي الشريعة، قد تكون حية وقد تكون ميتة. في رحاب المسيح تكون الشريعة قلباً ينبض بالحياة... في رحاب النبي محمّد تكون الشريعة كزهرة صَحَت من نومها حين داعبها نسيم فجر جميل ففتحت بتلاتها حتى يرويها الندى... وحين يرحل السيد المستنير، حين تغيب الشمس مصدر النور بحلول المساء، يبقى النور في سمائنا لوقت قصير ثم يرحل تاركا لنا ظلام نتحدث بلسانه عن النور وباسم النور. السيد المستنير هو الروح لجسد الدين، الشمس التي تبعث لنا النور... غياب الروح يعني موت الجسد وغياب النبي والمسيح يعني أن الروح قد فارقت جسد الدين. والجسد الميت يشبه الجسد الحي عدا أن الأول لا حياة فيه، والناس تتعلق بالأشكال وتهوى الأجساد ولا تناشد أي حقيقة أبعد من هذه الأبعاد، وهكذا لا تزال الناس تؤمن بأن الشرائع في يومنا هذا حيّة وبأن نهر الحياة لم يجفّ فيها بعد أن أصبحت حبراً على ورق.
نحن الآن نحيا زمن بقايا الأديان... زمن المعابد العامرة بالبنيان والقلوب الخالية من الإيمان... زمن علماؤهم شر علماء منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود. هذا ما تبقى لنا من الشرائع، وهذا هو الجسد بعد أن فارقته الحياة... بقيت الواجبات والطقوس والنصوص بين أيدينا وضاع منّا المفتاح الذي يحوّل ويُحيي ويطهّر النفوس. الطقوس لا تلامس النفوس ولا تبني كيان إنسان نقي، مُحب ورحيم في ميزان الأكوان. هي جيدة لإبقاء الإنسان بعيداً عن تدمير ذاته وتدمير الآخرين قدر الإمكان... لإبقائه مهذباً محترماً في ميزان مجتمعه دون أن يتعدى حدوده مع نفسه ومع غيره. هي اجتماعية أكثر منها روحية. ومنذ عصور خلت وحتى يومنا هذا، هي سياسية أكثر منها دينية. السياسة ترتدي الدين قناعاً لها لتحقيق أهدافها.
المستنير هو النور الإلهي الذي به يحيا جسد الدين ويتنفّس، ومتى ترك الله شيئاً تملّكه الشيطان.... استولى عليه الشر وأصبح وسيلة لتحقيق أهداف خبيثة، ولسان يستخدم الحق لخدمة الباطل. الجسد الميت هو بوابة يدخل الشر من خلالها إلى العالم ويزرع أفكاره بين الناس. السياسي هو ذلك الشيطان... هو هذا الشر يجد الدين وسيلة يعبّر بها عن نفسه. كثيرون لن يروا الشر خلف الستار... كيف يرونه وهو يرتدي ستار الدين؟ فالناس لا تهتم سوى بالشكل، بالمظهر الذي يغشي العيون عن رؤية الجوهر المكنون. ومتى رأت الحشود أحدهم يتحدث باسم الدين غاب عن وعيها أن الدين الذي يتحدث عنه مجرد كلمة على اللسان، وأن خطبته ووعظته كلمات تدخل الآذان ولا تلامس قلب ولا وجدان. بل على العكس... فهذه الكلمات تلبس قناع الدين لتخفي وراءه قبح النوايا، والله أعلم بما في الصدور من مؤامرات وخفايا.
الإنسان هو المسؤول... هو من سمح للفكر الماكر باحتلال وعيه وتغييبه حتى أصبح اللاوعي حالة جماعية دفعت بالناس إلى أن تسلّم أمرها ومسؤوليتها للحكام وأتباعهم من رجال الدين، دون أن يعلموا أنهم سلّموا معها حريتهم وحقهم في الحياة أيضاً. الإنسان هو المسؤول لأنه لا يهتم إلا بالشكل، بالكتب وعذب الكلام. والكلام العذب قد يخفي بين حروفه حقيقة مرة. لنتفكّر معا... نحن نقابل الناس في الحياة، نعاشرهم، نحبهم ونعيش معهم... ماذا نرى في الناس سوى الوجوه؟ هل نعرف شيئاً عن النفوس؟ نحن نهتم بالأسماء، بالعائلات والألقاب... وكل هذه الأشياء لا تعبّر عن الإنسان، بل لا علاقة لها بحقيقة الإنسان وذاته الإلهية. هذه معلومات على الهوية تعبّر عن الشخصية، والإنسان كيان وفردية متفردة مميزة تتجاوز الاسم والعائلة والطائفة واللقب.
علاقتنا بمن نحب، بأطفالنا هي علاقة أنا والشيء... جسد بجسد... كل ما نعرفه عن بعضنا هو الأشكال... ومعرفتنا سطحية مزيفة. الشكل الخارجي غير الحقيقة الداخلية... الجسد المادي الفاني غير النور الخالد الأبدي لدرجة أنه إذا زارك حبيبك بروحه لا جسده لن تتعرف عليه وستخاف منه. كيف تتعرف على ما تجهله؟ كيف تؤمن بأن جسد من تحبه يحوي روحاً أبدية وأنت ترى نفسك وتعاملها كجسد؟ الوجود مرآة لك وكما ترى نفسك تراني. وأنت لا ترى نفسك سوى في مرآتك، فترى وجهك وتتأمله دون أن تعرف أن بداخلك وجهاً لا وجه له.
تخيّل معي لو أننا نحيا في عالم لا مرايا فيه، هل سنعرف أنفسنا إذا أتوا لنا برؤوسنا وأهدوها لنا؟ لا، لن نعرفها لأننا لا نعرف من نحن... نحن نؤمن بما تقوله لنا المرآة لا بما أهدانا إياه الله والحياة. من هنا لا يحق لمن حدّه جسده معرفة ما هو أبعد من جسد الدين، من الشريعة. حين يمشي المسيح أو النبي محمد أنت تراقبه وهو يمشي، يأكل، يجلس، يتكلم، يلبس ويعبّر.
مجموع هذه الأشياء يخلق ما تسميه شريعة... محاولة لتقليد السيد المستنير والتصرف مثله... مجموع هذه الأشياء نخلق منه قواعد وأحكام نحاول أن نتقيد بها وننفذها دون أن نضع في الحسبان أنها فيض من قلب الإنسان وأنها متى كانت تقليداً أصبحت زوراً وبهتان. هذا هو البعد الأول للدين وهو الشريعة.
على هذا المستوى تحيا بقايا الأديان في يومنا هذا دون استثناء. الناس تؤمن بالشريعة... الناس تهوى أن تسلك الدرب القصير... تهوى التقليد لأنها لا ترى سوى الأشكال. لا ترى ما الذي جعل المسيح أو النبي محمد يمشي وحوله هالة نور تنير القلوب وتشفيها من آلامها وشقائها. الناس لا تريد أن تشرب من نفس النبع الذي تحمّل النبي وكل مستنير مشقة عمر مديد حتى شرب منه وارتوى... لا فالناس لا ترى سوى الأفعال... نرى الجيوب لا القلوب وهذا أصل النفاق. لهذا لن تتمكن من إيجاد مجتمع متدين. كل الحشود والمجتمعات تجهل ما هو التدين الحق، وتبقى سياسية لا متدينة. الفرد يصل للتدين لا الجماعات، وكيف للفرد أن يكون سياسياً منافقاً في وحدته وتوحدّه؟ من سينافق؟ من سيجامل؟ ومن سيساوم؟
وحدتك ووحشتك وإحساسك بغربتك بين الناس وبالألفة والمحبة بين أحضان ذاتك والطبيعة، وتحت السماء هي السبيل إلى توحّدك وتديّنك. أنت لا تتبع أحد ولا تهتف باسم أحد فكيف تكون سياسياً؟ أنت تحيا في خلوة وجلوة داخل قلبك وفي قلب ربك وهذا هو درب توحّدك... الآخر ضرورة حتمية لولادة السياسة من رحم المجاملة بينك وبينه. السياسة تحتاج الجمعة، الحشد والشعوب لتخرج إلى الحياة بينما الدين لا يحتاج سوى أنت. وحدتك وخلوتك مع نفسك هي جسرك ومعبرك وخلاصك. لهذا تجد الأنبياء والحكماء فروا إلى الجبال وابتعدوا عن الحشود واختلوا بأنفسهم وأضاؤوا شمعتهم بنور وحدتهم.
الحشود تهمها المظاهر لأنها تحيا حياة مزيفة قائمة على المظاهر، ومتى أصبح الدين مظهراً لا جوهراً تحوّل إلى نفاق ظاهر لا يراه سوى قلب طاهر. ترى الحشود تسأل المستنير والنبي والحكيم عن ما يأكل وكيف ينام وماذا يفعل صباحاً وظهراً ومساءاً... هل هذا كل ما يهمنا؟... تصرّف الإنسان لا يساوي كيانه ولا يعبر عنه.. ما يأكله المستنير ليس بالمهم، ما يلبسه أو ما يفعله في حال من الأحوال... ما يهم هو أن يلامس نور جوهرته نافذة كيانك، فتفتح أبوابها لترى نور جوهرتك أيضاً. مراقبة أفعال المستنير تعني ولادة الشريعة... أنت تردد كلامه وأفعاله وأقواله... وهذا جيد طالما أن النبي والحكيم لا يزال في جسده، فحضوره ينير الحروف بنوره الذي يتعدى كل الحروف... لكن ماذا ستفعل حين يرحل؟ ما الذي فعلناه بعد رحيل الأنبياء والأولياء؟ عبدنا أجسادهم وكلماتهم وقامت الحروب لأجلها ولا زالت. حروب بدأت باسم الشرائع ولم تنتهِ بعد ولم نلحظ أن النور قد رحل مع رحيل الأنبياء والأولياء وما تبقى لنا هو ظلام وكلام.
الطريقة هي البعد الثاني للدين. والكلمة مستمدة من الطريق، من الدرب الذي نسلكه في رحلة عودتنا من الخارج إلى الداخل، في رحلة حجنا من العالم إلى أنفسنا. الطريقة هي جناح يطير بنا من الاعتقاد إلى الرؤية، من التفكير إلى الفعل، ومن الحلم إلى الحقيقة. هي الجسر الذي نعبر عليه للوصول من الشريعة إلى الحقيقة.
الحقيقة هي البعد الثالث للدين. والكلمة مستمدة من الحق، أي الحقيقة صافية شفافة دون تلويث أو تحريف. وهي روح الدين. أولاً الشريعة ومن خلالها تجد المجتمع والسياسة والأوامر والنواهي والأخلاق... بسبب الشريعة نجد في كلام الأنبياء العديد من القواعد والأحكام التي تنظم المجتمع. لكن من يبحث عن الجواهر بين الكلمات وعن صمت النفوس بين النصوص، لا بد له من أن يجده وسوف يجده. المجتمع لن يجده. وحده الفرد الحر المشتاق للحق هو من يجد الحقيقة.
الطريقة هي التقنية التي تساعد الإنسان في التعرف على ذاته وعلى الأكوان. إنها قادرة على تحويل الإنسان ورفع منزلته في ميزان الأكوان. إنها تحرر الفكر من المعتقد فلا تبدله بآخر، بل تتجاوز الفكر وتنتقل بصاحبها إلى حالة الذكر... اختبر بنفسك دون أن تسأل وتفكر وتعتقد... لا تسأل أين هو الله وما هو الله وإلى أين سأذهب بعد الموت... الطريقة والتقنية أمامك. استعملها ولا تدعها تستعملك... منها وبها سترى بنفسك وتختبر وستعلم دون أن تفكر وتسأل وتعتقد. لا فائدة من كل الكلام، تعال واختبر.. لا فائدة من الكلام فكيف سأقنعك بوجود السماء إذا كنت تجلس في غرفة مغلقة؟ كيف أقنعك بوجود النور إن أطفأت شمعتك وملأت العتمة وعيك؟
لا فائدة من الكلام والنظريات والفلسفات لأنها لعبة العقل، إن نجحت في إقناعك بما أعتقد فلن يتغير حالك... ستبدّل معتقدك ونوعية فكرك، وستظل على حالك داخل غرفتك لا تعلم شيئا عن السماء... إذاً تعال واختبر وها هي الطريقة تناديك، فالتأمل هو الباب... لماذا تريد أن ترى بعيوني؟ لماذا تريدني أن أرى وأسمع عنك؟ لما لا تفعل هذا بنفسك؟ ما هي الفلسفة؟ إنها محاولة جلب الحقيقة إلى مستواك حتى تفهمها وتعقلها... وهذا مستحيل... وهل بإمكان الأصغر أن يحوي الأكبر؟ الطريقة هي محاولة لتحويلك والارتفاع بك أنت إلى مستوى الحقيقة... لا تنتظر أن يأتي النبع إليك حتى تشرب... اذهب أنت إليه واشرب.
مباركٌ هو من شعر بعطشه للحقيقة وقرر أن يبدأ رحلة بحثه عن نبع ومصدر الوجود وكل موجود. مباركٌ هو لأنه سيلقى رفاق الطريق على درب بحثه رغم أنه سيلقى رفاق سوء... لذا فانتبه... كثيرون هم الماكرون، الذين يلعبون بالكلام وبالدين هم يتاجرون. انتبه لأنك لا تعرف عن نفسك وعن حياتك سوى وجهها وشكلها، لذا سيجذبك من ارتدى قناعاً جميلاً.
المزيف يجذب المزيف والحقيقي يجذب الحقيقي. أنت تهوى الوجوه والأشكال والمراكز والألقاب، وستجد من يعدك بكثير من الاحترام، بالصحة والرخاء والجاه إن تبعته وأطعت هواه.
السيد المستنير، السيد الحق هو من يعدك بشيء واحد فقط... الموت. ستموت كجسد وفكر وتولد كروح. إنها الولادة التي ينتظرها الوجود ليحتفي بك فتكون مولوداً من الروح القدس. إنها موت البذرة فيك لتولد النبتة وتزهر وتحقق مصيرك وقدرك وتجد النعمة في توحّدك. السيد الحقيقي هو صليب يصلب ماضيك ومستقبلك لتقوم روحاً حية تحيا اللحظة في يقظة...
أنت تولد في مجتمع والمجتمع لا يعرف من الدين سوى الشكل الخارجي، الشريعة. لا تقف عند الشريعة، امشِ على جسور الطريقة لتعبرها وتصل بك إلى الحقيقة، وحينها سلام عليك وعلينا جميعاً....
الأديان جسر يعبره الإنسان للتعرف على ما يحويه بنيانه وكيانه من أبعاد ومستويات تتعدى حدود اللغة التي يخاطبه بها نص الدين وتصل به حيث تعجز الكلمات. كيان الإنسان يحوي أبعادا لا تُعد ولا تحصى، أهمها ثلاثة: الجسد والفكر والروح. هذه الأبعاد ترمز إلى ثلاثة وجوه شاء الكون أن يتجسد بها من خلال الإنسان، وأي وجه تختار؟
لنا حق الاختيار في أن نحيا على مستوى الجسد أو الفكر أو الروح. وكلمة الحق التي جاء بها الأنبياء لها الحق في أن تتجسد بأيّ وجه تشاء لتخاطب الإنسان بما يفهمه عقله ويستوعبه وعيه، وقد رأيناها تتجسد عبر الأزمنة على ثلاث مستويات جسداً وفكراً وروحاً. هذه المستويات الثلاث كانت الحديقة التي نمَت في تربتها بذرة الثلاثية في الأديان.
فمن كان يحيا الحياة كجسد يأكل ويشرب وينام دون أن يبحث قلبه عن نبض قلب الوجود ليتناغم معه ويرقص على أنغام أغنياته، لن يرى من الدين سوى جسده، شكله وطقوسه، أوامره ونواهيه ولن يفقه أسراره وخوافيه، جوهره ومعانيه. ومن كان يحيا الحياة بعقله ومشاعره، والمشاعر هي ردة فعل العقل عبر الجسد، سيحيا البعد الثاني للدين، البُعد النفسي والإدراكي الحسي. أما جهل الإنسان لذاته العليا ووعيه الأكبر الذي يوحده بالأكبر الأكبر من أي اسم وفهم وتصوُّر، فجهله حاجز بينه وبين جوهر الدين... بينه وبين البعد الثالث الأعمق والأبعد من أي بُعد. جهله لحقيقة وجوده هو نافذة مغلقة تمنع العين من رؤية نور الشمس والشعور بدفئها وجمالها. موت هذا الجهل هو ولادة الدين بجوهره وأرقى صوره... هو ولادة الإنسان من الروح القدس وفي قلب الله... هو الإنسان يحيا كروح تحررت من سجن الجسد والفكر.
وجوه الدين الثلاث والتي تجسِّد الجسد والفكر والروح هي: الشريعة والطريقة والحقيقة.
الشريعة هي جسد الدين، والجسد يحيا ويموت. هكذا هي الشريعة، قد تكون حية وقد تكون ميتة. في رحاب المسيح تكون الشريعة قلباً ينبض بالحياة... في رحاب النبي محمّد تكون الشريعة كزهرة صَحَت من نومها حين داعبها نسيم فجر جميل ففتحت بتلاتها حتى يرويها الندى... وحين يرحل السيد المستنير، حين تغيب الشمس مصدر النور بحلول المساء، يبقى النور في سمائنا لوقت قصير ثم يرحل تاركا لنا ظلام نتحدث بلسانه عن النور وباسم النور. السيد المستنير هو الروح لجسد الدين، الشمس التي تبعث لنا النور... غياب الروح يعني موت الجسد وغياب النبي والمسيح يعني أن الروح قد فارقت جسد الدين. والجسد الميت يشبه الجسد الحي عدا أن الأول لا حياة فيه، والناس تتعلق بالأشكال وتهوى الأجساد ولا تناشد أي حقيقة أبعد من هذه الأبعاد، وهكذا لا تزال الناس تؤمن بأن الشرائع في يومنا هذا حيّة وبأن نهر الحياة لم يجفّ فيها بعد أن أصبحت حبراً على ورق.
نحن الآن نحيا زمن بقايا الأديان... زمن المعابد العامرة بالبنيان والقلوب الخالية من الإيمان... زمن علماؤهم شر علماء منهم تخرج الفتنة وإليهم تعود. هذا ما تبقى لنا من الشرائع، وهذا هو الجسد بعد أن فارقته الحياة... بقيت الواجبات والطقوس والنصوص بين أيدينا وضاع منّا المفتاح الذي يحوّل ويُحيي ويطهّر النفوس. الطقوس لا تلامس النفوس ولا تبني كيان إنسان نقي، مُحب ورحيم في ميزان الأكوان. هي جيدة لإبقاء الإنسان بعيداً عن تدمير ذاته وتدمير الآخرين قدر الإمكان... لإبقائه مهذباً محترماً في ميزان مجتمعه دون أن يتعدى حدوده مع نفسه ومع غيره. هي اجتماعية أكثر منها روحية. ومنذ عصور خلت وحتى يومنا هذا، هي سياسية أكثر منها دينية. السياسة ترتدي الدين قناعاً لها لتحقيق أهدافها.
المستنير هو النور الإلهي الذي به يحيا جسد الدين ويتنفّس، ومتى ترك الله شيئاً تملّكه الشيطان.... استولى عليه الشر وأصبح وسيلة لتحقيق أهداف خبيثة، ولسان يستخدم الحق لخدمة الباطل. الجسد الميت هو بوابة يدخل الشر من خلالها إلى العالم ويزرع أفكاره بين الناس. السياسي هو ذلك الشيطان... هو هذا الشر يجد الدين وسيلة يعبّر بها عن نفسه. كثيرون لن يروا الشر خلف الستار... كيف يرونه وهو يرتدي ستار الدين؟ فالناس لا تهتم سوى بالشكل، بالمظهر الذي يغشي العيون عن رؤية الجوهر المكنون. ومتى رأت الحشود أحدهم يتحدث باسم الدين غاب عن وعيها أن الدين الذي يتحدث عنه مجرد كلمة على اللسان، وأن خطبته ووعظته كلمات تدخل الآذان ولا تلامس قلب ولا وجدان. بل على العكس... فهذه الكلمات تلبس قناع الدين لتخفي وراءه قبح النوايا، والله أعلم بما في الصدور من مؤامرات وخفايا.
الإنسان هو المسؤول... هو من سمح للفكر الماكر باحتلال وعيه وتغييبه حتى أصبح اللاوعي حالة جماعية دفعت بالناس إلى أن تسلّم أمرها ومسؤوليتها للحكام وأتباعهم من رجال الدين، دون أن يعلموا أنهم سلّموا معها حريتهم وحقهم في الحياة أيضاً. الإنسان هو المسؤول لأنه لا يهتم إلا بالشكل، بالكتب وعذب الكلام. والكلام العذب قد يخفي بين حروفه حقيقة مرة. لنتفكّر معا... نحن نقابل الناس في الحياة، نعاشرهم، نحبهم ونعيش معهم... ماذا نرى في الناس سوى الوجوه؟ هل نعرف شيئاً عن النفوس؟ نحن نهتم بالأسماء، بالعائلات والألقاب... وكل هذه الأشياء لا تعبّر عن الإنسان، بل لا علاقة لها بحقيقة الإنسان وذاته الإلهية. هذه معلومات على الهوية تعبّر عن الشخصية، والإنسان كيان وفردية متفردة مميزة تتجاوز الاسم والعائلة والطائفة واللقب.
علاقتنا بمن نحب، بأطفالنا هي علاقة أنا والشيء... جسد بجسد... كل ما نعرفه عن بعضنا هو الأشكال... ومعرفتنا سطحية مزيفة. الشكل الخارجي غير الحقيقة الداخلية... الجسد المادي الفاني غير النور الخالد الأبدي لدرجة أنه إذا زارك حبيبك بروحه لا جسده لن تتعرف عليه وستخاف منه. كيف تتعرف على ما تجهله؟ كيف تؤمن بأن جسد من تحبه يحوي روحاً أبدية وأنت ترى نفسك وتعاملها كجسد؟ الوجود مرآة لك وكما ترى نفسك تراني. وأنت لا ترى نفسك سوى في مرآتك، فترى وجهك وتتأمله دون أن تعرف أن بداخلك وجهاً لا وجه له.
تخيّل معي لو أننا نحيا في عالم لا مرايا فيه، هل سنعرف أنفسنا إذا أتوا لنا برؤوسنا وأهدوها لنا؟ لا، لن نعرفها لأننا لا نعرف من نحن... نحن نؤمن بما تقوله لنا المرآة لا بما أهدانا إياه الله والحياة. من هنا لا يحق لمن حدّه جسده معرفة ما هو أبعد من جسد الدين، من الشريعة. حين يمشي المسيح أو النبي محمد أنت تراقبه وهو يمشي، يأكل، يجلس، يتكلم، يلبس ويعبّر.
مجموع هذه الأشياء يخلق ما تسميه شريعة... محاولة لتقليد السيد المستنير والتصرف مثله... مجموع هذه الأشياء نخلق منه قواعد وأحكام نحاول أن نتقيد بها وننفذها دون أن نضع في الحسبان أنها فيض من قلب الإنسان وأنها متى كانت تقليداً أصبحت زوراً وبهتان. هذا هو البعد الأول للدين وهو الشريعة.
على هذا المستوى تحيا بقايا الأديان في يومنا هذا دون استثناء. الناس تؤمن بالشريعة... الناس تهوى أن تسلك الدرب القصير... تهوى التقليد لأنها لا ترى سوى الأشكال. لا ترى ما الذي جعل المسيح أو النبي محمد يمشي وحوله هالة نور تنير القلوب وتشفيها من آلامها وشقائها. الناس لا تريد أن تشرب من نفس النبع الذي تحمّل النبي وكل مستنير مشقة عمر مديد حتى شرب منه وارتوى... لا فالناس لا ترى سوى الأفعال... نرى الجيوب لا القلوب وهذا أصل النفاق. لهذا لن تتمكن من إيجاد مجتمع متدين. كل الحشود والمجتمعات تجهل ما هو التدين الحق، وتبقى سياسية لا متدينة. الفرد يصل للتدين لا الجماعات، وكيف للفرد أن يكون سياسياً منافقاً في وحدته وتوحدّه؟ من سينافق؟ من سيجامل؟ ومن سيساوم؟
وحدتك ووحشتك وإحساسك بغربتك بين الناس وبالألفة والمحبة بين أحضان ذاتك والطبيعة، وتحت السماء هي السبيل إلى توحّدك وتديّنك. أنت لا تتبع أحد ولا تهتف باسم أحد فكيف تكون سياسياً؟ أنت تحيا في خلوة وجلوة داخل قلبك وفي قلب ربك وهذا هو درب توحّدك... الآخر ضرورة حتمية لولادة السياسة من رحم المجاملة بينك وبينه. السياسة تحتاج الجمعة، الحشد والشعوب لتخرج إلى الحياة بينما الدين لا يحتاج سوى أنت. وحدتك وخلوتك مع نفسك هي جسرك ومعبرك وخلاصك. لهذا تجد الأنبياء والحكماء فروا إلى الجبال وابتعدوا عن الحشود واختلوا بأنفسهم وأضاؤوا شمعتهم بنور وحدتهم.
الحشود تهمها المظاهر لأنها تحيا حياة مزيفة قائمة على المظاهر، ومتى أصبح الدين مظهراً لا جوهراً تحوّل إلى نفاق ظاهر لا يراه سوى قلب طاهر. ترى الحشود تسأل المستنير والنبي والحكيم عن ما يأكل وكيف ينام وماذا يفعل صباحاً وظهراً ومساءاً... هل هذا كل ما يهمنا؟... تصرّف الإنسان لا يساوي كيانه ولا يعبر عنه.. ما يأكله المستنير ليس بالمهم، ما يلبسه أو ما يفعله في حال من الأحوال... ما يهم هو أن يلامس نور جوهرته نافذة كيانك، فتفتح أبوابها لترى نور جوهرتك أيضاً. مراقبة أفعال المستنير تعني ولادة الشريعة... أنت تردد كلامه وأفعاله وأقواله... وهذا جيد طالما أن النبي والحكيم لا يزال في جسده، فحضوره ينير الحروف بنوره الذي يتعدى كل الحروف... لكن ماذا ستفعل حين يرحل؟ ما الذي فعلناه بعد رحيل الأنبياء والأولياء؟ عبدنا أجسادهم وكلماتهم وقامت الحروب لأجلها ولا زالت. حروب بدأت باسم الشرائع ولم تنتهِ بعد ولم نلحظ أن النور قد رحل مع رحيل الأنبياء والأولياء وما تبقى لنا هو ظلام وكلام.
الطريقة هي البعد الثاني للدين. والكلمة مستمدة من الطريق، من الدرب الذي نسلكه في رحلة عودتنا من الخارج إلى الداخل، في رحلة حجنا من العالم إلى أنفسنا. الطريقة هي جناح يطير بنا من الاعتقاد إلى الرؤية، من التفكير إلى الفعل، ومن الحلم إلى الحقيقة. هي الجسر الذي نعبر عليه للوصول من الشريعة إلى الحقيقة.
الحقيقة هي البعد الثالث للدين. والكلمة مستمدة من الحق، أي الحقيقة صافية شفافة دون تلويث أو تحريف. وهي روح الدين. أولاً الشريعة ومن خلالها تجد المجتمع والسياسة والأوامر والنواهي والأخلاق... بسبب الشريعة نجد في كلام الأنبياء العديد من القواعد والأحكام التي تنظم المجتمع. لكن من يبحث عن الجواهر بين الكلمات وعن صمت النفوس بين النصوص، لا بد له من أن يجده وسوف يجده. المجتمع لن يجده. وحده الفرد الحر المشتاق للحق هو من يجد الحقيقة.
الطريقة هي التقنية التي تساعد الإنسان في التعرف على ذاته وعلى الأكوان. إنها قادرة على تحويل الإنسان ورفع منزلته في ميزان الأكوان. إنها تحرر الفكر من المعتقد فلا تبدله بآخر، بل تتجاوز الفكر وتنتقل بصاحبها إلى حالة الذكر... اختبر بنفسك دون أن تسأل وتفكر وتعتقد... لا تسأل أين هو الله وما هو الله وإلى أين سأذهب بعد الموت... الطريقة والتقنية أمامك. استعملها ولا تدعها تستعملك... منها وبها سترى بنفسك وتختبر وستعلم دون أن تفكر وتسأل وتعتقد. لا فائدة من كل الكلام، تعال واختبر.. لا فائدة من الكلام فكيف سأقنعك بوجود السماء إذا كنت تجلس في غرفة مغلقة؟ كيف أقنعك بوجود النور إن أطفأت شمعتك وملأت العتمة وعيك؟
لا فائدة من الكلام والنظريات والفلسفات لأنها لعبة العقل، إن نجحت في إقناعك بما أعتقد فلن يتغير حالك... ستبدّل معتقدك ونوعية فكرك، وستظل على حالك داخل غرفتك لا تعلم شيئا عن السماء... إذاً تعال واختبر وها هي الطريقة تناديك، فالتأمل هو الباب... لماذا تريد أن ترى بعيوني؟ لماذا تريدني أن أرى وأسمع عنك؟ لما لا تفعل هذا بنفسك؟ ما هي الفلسفة؟ إنها محاولة جلب الحقيقة إلى مستواك حتى تفهمها وتعقلها... وهذا مستحيل... وهل بإمكان الأصغر أن يحوي الأكبر؟ الطريقة هي محاولة لتحويلك والارتفاع بك أنت إلى مستوى الحقيقة... لا تنتظر أن يأتي النبع إليك حتى تشرب... اذهب أنت إليه واشرب.
مباركٌ هو من شعر بعطشه للحقيقة وقرر أن يبدأ رحلة بحثه عن نبع ومصدر الوجود وكل موجود. مباركٌ هو لأنه سيلقى رفاق الطريق على درب بحثه رغم أنه سيلقى رفاق سوء... لذا فانتبه... كثيرون هم الماكرون، الذين يلعبون بالكلام وبالدين هم يتاجرون. انتبه لأنك لا تعرف عن نفسك وعن حياتك سوى وجهها وشكلها، لذا سيجذبك من ارتدى قناعاً جميلاً.
المزيف يجذب المزيف والحقيقي يجذب الحقيقي. أنت تهوى الوجوه والأشكال والمراكز والألقاب، وستجد من يعدك بكثير من الاحترام، بالصحة والرخاء والجاه إن تبعته وأطعت هواه.
السيد المستنير، السيد الحق هو من يعدك بشيء واحد فقط... الموت. ستموت كجسد وفكر وتولد كروح. إنها الولادة التي ينتظرها الوجود ليحتفي بك فتكون مولوداً من الروح القدس. إنها موت البذرة فيك لتولد النبتة وتزهر وتحقق مصيرك وقدرك وتجد النعمة في توحّدك. السيد الحقيقي هو صليب يصلب ماضيك ومستقبلك لتقوم روحاً حية تحيا اللحظة في يقظة...
أنت تولد في مجتمع والمجتمع لا يعرف من الدين سوى الشكل الخارجي، الشريعة. لا تقف عند الشريعة، امشِ على جسور الطريقة لتعبرها وتصل بك إلى الحقيقة، وحينها سلام عليك وعلينا جميعاً....